شكّلت الثقافة الإسلامية عاملاً رئيسياً في استمرار وجود الأمّة الإسلامية وفي تدعيم كيانها، وفي حمايتها من المخاطر الخارجية والداخلية، وفي أداء دورها الحضاري، فكيف تكوّنت هذه الثقافة الإسلامية؟ وماذا كان دورها في الماضي والحاضر؟
شكّل القرآن الكريم والسنّة المشرفة أساس الوحدة الثقافية للأمّة الإسلامية، فقد أعطيا المسلمين تصوّراً عن الكون، ولفتا انتباههم إلى دقّة نظامه، وبيّنا لهم مادة خلق الإنسان وكيفيّة نشأته.
وفصّلا لهم صفات ربّهم الذي ليس كمثله شيء، ووضّحا لهم جانباً من عالم الغيب بما فيه من ملائكة وجنّة ونار، وقصّا عليهم قصص الأمم السابقة ووجّها نظرهم إلى الاعتبار من سيرتها، ووضّحا لهم السلوك الأمثل للنجاح في الدنيا والنّجاة في الآخرة.
وحدّدا لهم هدفاً أسمى وهو تحقيق العبوديّة لله تعالى، وبيّنا لهم الحلال والحرام والمشتبهات ، وأوجبا عليهم إتيان الحلال والابتعاد عن الحرام والمشتبهات.
وقد كانت نتيجة ذلك كلّه أن قام مجتمع يلتزم مبادئ الإسلام وقيمه وأخلاقه ، وقامت حكومة تنشر الإسلام وتدعو إليه وتدافع عن حرماته.
وقامت أسرة تراعي آداب الإسلام وتغرس الفضائل في نفوس أبنائها ، وقام اقتصاد يتجنّب الربا ويجمع الزكاة ، وقامت فنون تراعي قيم الجمال الإسلامية، وقام فرد ذو حيويّة نفسية وعقلية عالية الخ . . .
إذن شكّلت حقائق الإسلام ومبادئه وقيمه وأفكاره وأخلاقه نسيج الثقافة الإسلامية التي كانت غذاء للفرد والمجتمع المسلمين على مدار القرون السابقة.
وقد أفرزت الثقافة الإسلامية علوماً متعدّدة نشأت حول عاملي بناء الأمّة: القرآن والسنّة من أجل تعميق فهمهما، وحفظ مبادئهما من أي اختلاط أو ضياع، وتقنين القواعد المساعدة على حسن استنباط الأحكام منهما، فمن العلوم التي أفرزتها الثقافة الإسلامية لحفظ القرآن الكريم وفهمه الفهم السليم: علم أسباب النزول، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم التفسير، وعلم المكّي والمدني، وعلم القراءات، وعلم الرسم القرآني الخ . . .. ومن العلوم التي أفرزتها لحفظ السنّة الشريفة: علم الجرح والتعديل، وعلم مصطلح الحديث، وعلم الرواية والدراية، وكتب المسانيد والصحاح الخ . . .
وقد امتدّ اهتمام الثقافة الإسلامية لينال اللغة العربية التي هي لغة القرآن ولغة النّبي محمد صلى الله عليه وسلم، فوُجِد علم النّحو والصّرف، وعلم البلاغة، وعلم فقه اللّغة، وعلم البديع والبيان، ووجدت المعاجم لحفظ مفردات اللّغة، كما ابتكرت الثقافة الإسلامية علم أصول الفقه الذي يعالج الخاصّ والعام، والمطلق والمقيّد، ويحدّد عناصر القياس الخ . . .
ومما يؤكّد رسوخ الثقافة الإسلامية في كيان المجتمع الإسلامي أنّ المنعطفات الثلاثة الكبيرة التي تعرّض لها كيان الأمّة الثقافي وهي: دخول مذهب الذرّة، ودخول المنطق، ودخول التصوّف، لم تمر إلا بعد أن وضعت الثقافة الإسلامية عليها بصمتها بصورة من الصور، فلنر ذلك.
المنعطف الأول: دخول مذهب الذرّة:
أدخل أبو الحسن الأشعري مذهب الذرّة إلى البناء الثقافي الإسلامي بحجّة الاستفادة من أدلّته وبراهينه في إثبات الحقائق الإسلامية، وأبرز ذلك في رسالة “الاستحسان في علم الكلام” ولم تأخذ دعوة الأشعري جواز المرور إلى الثقافة الإسلامية إن صحّ التعبير إلا بعد أن قابل أبو الحسن الأشعري البربهاري شيخ الحنابلة آنذاك، وقال له:
“كتبت في الردّ على المعتزلة كذا، وألّفت في تفنيد أقوالهم كذا”.
فقال له البربهاري: أنا لا أفهم إلا ما قاله أحمد بن حنبل، فخرج من عنده وألّف كتاب “الإبانة عن أصول الديانة” الذي امتدح فيه أحمد بن حنبل، ووصفت كتب الطبقات الكتاب فقالت: “إنّ الأشعري ألّف الإبانة من الحنابلة وقاية”.
إذن كان رضا البربهاري عن أبي الحسن الأشعري مدخلاً لقبول مذهبه، ويمكن أن نعطي هذه الواقعة قدرها الحقيقي إذا عدنا إلى الوراء قليلاً فنرى أنّ سعيد بن كلاب طرح مذهباً يشبه مذهب أبي الحسن الأشعري، وأقواله قريبة من أقوال أبي الحسن الأشعري ومع ذلك لم يَرُج مذهبه، والسبب أنّ أحمد بن حنبل وقف في وجهه وحذّر منه آنذاك.
المنعطف الثاني: دخول المنطق:
أدخل الغزالي المنطق إلى البناء الثقافي الإسلامي بعد أن بيأه بعناوين إسلامية فأصبح يسمّى القسطاس المستقيم، وأخذت البراهين أسماء إسلامية فأصبح القياس الحملي يسمى ميزان التعادل، وأصبح القياس الشرطي المنفصل يسمى ميزان التلازم، والأهم من ذلك أنّ ما أخذه الغزالي من أرسطو هو الأقيسة المنطقية وليست فلسفته عن الكون والحياة والإنسان، وقد أراد أن يستبدل القياس المنطقي بالقياس الأصولي على أساس أنّ القياس الأصولي ظنّي في رأيه في حين أنّ القياس المنطقي يقيني ويعطي علماً.
المنعطف الثالث: دخول التصوّف:
عمّق المتصوّفة مضمون العبادة عند المسلمين مقابل الفقهاء الذين قنّنوا صورة العبادة عندهم، وقد بنوا كيانهم على جوهر العبادات التي فرضها الإسلام: كالخوف والحب والرجاء والتعظيم والخضوع الخ . . . وتميزت كل فرقة منهم باعتماد جانب من جوانب تلك العبادات، ففرقة تبني كيانها على الخوف من نار الله وعذابه، وأخرى تبنيه على حب الله، وثالثة يستغرقها الجوع من أجل الارتقاء في عبادة الله، ورابعة تركّز على لوم الذات عند الوقوع في المعصية وتقريعها من أجل تصفية النفس الخ . . ..
لكن الأهم من ذلك هو أنّ المتصوّفة أبقوا الجانب الفلسفي من التصوّف والذي يقوم على اتّحاد الإنسان بالله، أو حلول الله بالإنسان، أو اكتشاف الإنسان لوحدة الوجود والذي يتعارض مع التوحيد أبقوه في إطار الأسرار، وهي القاعدة التي اتّبعها كل المتصوّفة وتواصوا بها، وهي: أنّ من يبيح السر الفلسفي يهدر دمه. ليس من شك بأنّ هذا التصرّف من الفرق المتصوّفة أبقى جمهور المسلمين يتعاملون مع الجانب السلوكي من التصوّف دون الجانب الفلسفي من جهة، وجعل التصوّف يظهر وكأنه غير متعارض مع الثقافة الإسلامية عند المسلمين من جهة ثانية.
إذن لقد لعبت الثقافية الإسلامية دوراً مهماً في احتواء المنعطفات الكبرى التي تعرّضت لها الأمّة في الماضي مما أدّى إلى استمرار وجودها واستمرار فعلها الحضاري.
والآن: ماذا كان دورها في العصر الحديث إزاء مشروع النهضة؟ وماذا كان موقفها إزاء الفكر القومي؟
يمكن أن نرصد في هذا المجال الظواهر التالية:
1- تعثّر مشاريع النهضة:
لقد تعثّرت مشاريع النهضة التي قادتها الأحزاب القومية خلال القرن العشرين ، والأرجح أنّ أحد الأسباب الرئيسية لفشلها هو تنكّرها لثقافة الأمّة ، ونستطيع أن نمثّل على ذلك بالتجربة الديمقراطية المصرية التي أتيح لها بعد الحرب العالمية الأولى الفرصة الكاملة للنجاح لتوفّر ظروف محلية ودولية : محلية متمثّلة في قيادة تاريخية كقيادة سعد زغلول ، و دولية ممثّلة برعاية إنكلترا لها البلد الديمقراطي العريق ، ولكنها تعثّرت لأنها تنكّرت لأبسط مقوّمات التاريخ المصري وهو انتماء المصريين إلى الأمّة الإسلامية ، فانطلقت الديمقراطية المصرية من اعتبارهم أمّة فرعونية ، وتعثّرت لأنها تنكّرت لكليةّ’ ثقافة الأمّة ، وكانت دعوة طه حسين إلى نقل الحضارة الغربية حلوها ومرّها في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” نموذجاً واحداً فقط من نماذج التنكّر لهذه الثقافة ، وهناك أمثلة أخرى لا مجال لنقلها في هذه العجالة .
2- قلّة جماهير الأحزاب القومية:
يلاحظ المتتبّع لأحوال الأحزاب القومية بشكل عام والعربية بشكل خاص قلّة جمهورها، فقد كان أعضاء حرب البعث في العراق عندما قام بانقلاب عام 1968 لا يتعدّى (150) عضواً يملكون آلة طابعة واحدة، ولا يتجاوز مجموع أعضاء حركة القوميين العرب بعد عشر سنوات من التأسيس في عدّة أقطار عربية مائة عضو، فبماذا نفسّر ذلك؟ وماذا كانت نتيجته؟ نفسّر ذلك بعدم تواصلها الثقافي مع جماهير الأمّة، وبخاصة إذا قارنّا تلك الأحزاب مع الحركات الإسلامية التي جيّشت الآلاف في عداد أعضائها خلال فترة بسيطة في أكثر من بلد عربي، وربما كان جمال عبد الناصر الاستثناء الوحيد في مجال كسب الجماهير، لكنه يؤكّد التعليل السابق ولا ينفيه، وذلك لأن جمال عبد الناصر تواصل مع ثقافة الأمّة بشكل أكبر من الأحزاب القومية، وماذا كانت نتيجة ذلك؟ كانت نتيجته معاناتها الغربة التي أدّت إلى علاقات متوتّرة مع جماهير الأمّة.
3- انتقال الأحزاب القومية إلى الفكر الماركسي:
تبنّت معظم الأحزاب القومية النّظرية الماركسية في الستينات مع اختلاف في حدّة التبنّي، وكان القوميّون العرب أكثرهم تطرّفاً في هذا المجال، ويمكن أن نقول بأنهم حولوا انتماءهم القومي إلى انتماء ماركسي، فبماذا نفسّر مثل هذا التحوّل الكلّي من وضع فكري إلى آخر؟ التفسير الأقرب إلى الصواب هو ضعف ارتباطهم الثقافي بواقع المنطقة، وإلا لو كان هناك ارتباط متجذّر بخيوط المنطقة الثقافية لما أمكنهم هذا التحوّل السريع وكأنه استبدال ثوب بثوب.
4- عودة التيار الديني:
لقد اضطرب المحلّلون في تعليل ظاهرة بروز الإسلام في السبعينات في عدد من الدول العربية والإسلامية مثل: الجزائر، مصر، تركيا، فلسطين الخ . . . فبعضهم علّلها بأنها ردّة فعل على نكسة 1967م لأنّ الناس يلجأون إلى الغيبيات عندما يواجهون أحداثاً جساماً ، وبعضهم علّلها بأنها من صنع الحكّام الذين أطلقوا العنان للتيار الإسلامي لمواجهة خصومهم الشيوعيين واليساريين، وبعضهم علّلها بأنها نتاج الظروف الاقتصادية السيّئة التي يعيشها العالم الثالث، ولكن هذه التعليلات تبقى قاصرة عن تشخيص هذه الظاهرة التشخيص الدقيق ما لم تضع في الاعتبار رسوخ الثقافة الإسلامية في المنطقة، وأنّ تلك الظاهرة جاءت تعبيراً عن تواصل القيادات الإسلامية مع جماهير الناس من خلال تلك الثقافة الراسخة.