tawbahlike@hotmail.com +(00) 123-345-11

الصحوة الإسلامية: تفسير وتقويم

ليس من شك بأن التحليل العميق والدقيق لمختلف أوضاعنا التاريخية والاجتماعية والسياسية والحركية يساعدنا على التوجه السليم، ويساعدنا على تحقيق الأهداف المرجوّة والمرسومة في مخطط العمل الإسلامي.
وفي اعتقادي أن الصحوة الإسلامية التي نعيش بين ظهرانيها لم تأخذ حقها من الدراسة والتفسير، وإنما مرّ الحديث عليها مروراً سريعاً، وربما تناولها أعداء الإسلام بالتعليق أكثر من تناول أبناء الإسلام لها، لذلك سأحاول أن أبيّن في هذه الدراسة ماهيّة الصحوة، وأسبابها، وكيفية الاستفادة منها.
لقد شكّل سقوط الخلافة العثمانية وإلغاؤها عام 1926م حدثاً كبيراً في تاريخ المسلمين إذ حلّت قيادة جديدة محل القيادة العثمانية التي استمرت أربعمائة عام تقود العالم الإسلامي، فماذا كان توجّه القيادة الجديدة؟ وما الذي فعلته؟
لقد كانت القيادات التي قادت المنطقة العربية بعد سقوط الخلافة العثمانية قومية التوجه تعتبر القومية العربية هي المرجعية التي يجب أن ترجع إليها وتستلهمها في بناء تفكير الناس، ومشاعرهم، وحياتهم، وشؤونهم التربوية والاقتصادية والسياسية والتشريعية والاجتماعية إلخ… فما هي أبرز الأعمال التي قامت بها القيادة القومية لتحقيق ذلك الهدف؟ أبرزها هي:

1- إحلال القومية العربية محل العقيدة الدينية:
كان ساطع الحصري من أوائل المفكرين الذين ساهموا في تحقيق الدعوة إلى إحلال القومية العربية محل العقيدة الدينية كأساس لبناء المجتمع العربي، ومما زاد في خطورة دعوته أنه احتل مركزاً تربوياً مرموقاً في العراق بعد قيام الحكم القومي فيها عام 1920م، مما أتاح له صياغة البرامج التعليمية والتربوية فيها، ثم انتقل إلى سورية عام 1941م، وقام بنفس الدور الذي قام به في العراق، ومن نافلة القول التذكير بأن الحصري علماني التوجه ولا يرى الدين عاملاً من عوامل القومية العربية.
2- إحلال الرابطة القومية محل الرابطة الدينية:
دعا الفكر القومي إلى أن تكون الرابطة القومية هي التي تربط بين أبناء المنطقة وليست الرابطة الدينية، بمعنى أن يكون ولاء الفرد لانتمائه القومي العربي، يعظّم القومية العربية، ويوالي من يواليها، ويعادي من يعاديها، ويضحي في سبيلها، وتكون منزلته ارتفاعاً وانخفاضاً مرتبطة بمقدار ما يقدّم لها من تضحيات.
3- نقل التشريعات الغربية:
نقلت القيادات القومية التشريعات الغربية وقوانينها في كل مجالات الحياة التجارية والزراعية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلخ… ولم تستثن من ذلك إلا قوانين محدودة تتعلّق بالأحوال الشخصية كالزواج والطلاق.
4- نقل النموذج الرأسمالي ثم الاشتراكي:
نقلت القيادات القومية النموذج الرأسمالي الربوي بكل شروره وآثامه، وربطت اقتصاد بلادها بالسوق مما زاد في سوء الأوضاع الاقتصادية، ثم نقلت النموذج الاشتراكي في مرحلة تالية مما زاد في اضطراب الأوضاع الاقتصادية، ولم تراع التشريعات الاقتصادية تعاليم الإسلام التي تحرّم الربا، ولم تستفد من قيم التعاون والرحمة والصدقة التي تدعو إليها.
5- نقل الفنون والآداب الغربية:
انتشرت الآداب والفنون الغربية من مسرح وسينما وتمثيل ورسم ونحت في المنطقة عن طريق الترجمة والمدارس الأجنبية والاحتكاك بالغرب ، وأدى تقليد الفنون الغربية إلى امتلاء الساحة الاجتماعية بالعريّ والفجور ، وتدنيّ الأذواق ، وتفسّخ الأخلاق ، وتحكّم الأهواء إلخ… وأدى تقليد الآداب الغربية إلى التنكر لكل تاريخنا الأدبي العريق ، والانبهار بالأدب الغربي ونشوء مدارس مقلدة له مثل : مدرسة الديوان ومدرسة أبولّو ، وكانت ثمرة التقليد أيضاً النظر إلى تاريخنا الأدبي من خلال مقارنته بالتاريخ الأدبي الأوروبي فكما أن الأدب الأوروبي مرّ بمراحل هي : الكلاسيكية ثم الرومانسية ثم الرمزية ثم الواقعية ثم السريالية إلخ… فيجب أن يمر أدبنا العربي بتلك المراحل .
ماذا كانت نتيجة عمل القيادات القومية؟
كانت نتيجة ذلك تغريب طائفة محدودة من المجتمع في عددها وحجمها وتأثيرها، لكن برزت إلى جانب ذلك في السبعينات والثمانينات دعوة قوية تنادي بالعودة إلى الإسلام وإلى تحكيمه ، مناقضة لعمل القيادات القومية التغريبي ، وتمثلت هذه الدعوة في عدّة مظاهر منها : ارتداء المرأة المسلمة الحجاب، وإعمار الشباب للمساجد ، وانتشار الكتاب الإسلامي ، وظهور جمعيات خيرية إسلامية، والتصويت للنواب الإسلاميين في بعض البلدان ، والاعتزاز بالقيم الإسلامية ، والحنين إلى الماضي الإسلامي ، وكان المفاجئ أن هذه المظاهر لم تحدث في بلد واحد وإنما حدثت في بلدان متعددة ذات ظروف تاريخية مختلفة تمتد من أقصى المشرق إلى المغرب ، منها : تركيا ، بلاد الشام ، مصر ، الجزائر ، تونس ، فلسطين ، الخليج إلخ… وقد حدثت في بلدان كانت أبعد ما يكون عن الانبعاث الإسلامي لابتعادها الطويل عن المحيط الإسلامي كالجزائر التي حكمها الاستعمار الفرنسي ما يقرب من 130 عاماً واستهدف محو الإسلام منها وجعلها قطعة من فرنسا ، وكتونس التي خضعت لتغريب مبرمج لمدة قرن تقريباً ، وكتركيا التي حاربت فيها الكمالية كل مظاهر الإسلام دون استثناء ، ومع كل هذه المحاولات العنيفة لاقتلاع الإسلام نادت جماهير غفيرة من المسلمين في كل تلك الأماكن بالعودة إلى الإسلام ، وسعت إلى تمكينه ، وإلى إعادة تحكيمه في مختلف شؤون الحياة ، فماذا كان تفسير هذه الظاهرة ؟ وما أسبابها؟
أعاد بعض الدارسين هذه الظاهرة إلى عدة أسباب، منها:
1- نكسة حزيران 1967م:
ذكر بعض الدارسين أن الصحوة الإسلامية جاءت نتيجة هزيمة العرب في مواجهة اليهود سنة 1967م، وعللوا ذلك بأن الشعوب تلجأ إلى القيم الغيبية لمواجهة الانتكاسات وللتهرب من الواقع المرير، ومن الذين روّجوا لهذا التحليل حسين أحمد أمين في عدد من مقالاته.

لكن هذا التعليل غير صحيح لأن هناك بلاداً قد ظهرت فيها صحوة إسلاميّة ولا علاقة لها نهائياً بالنكسة مثل تركيا وتونس، ولكننا يمكن أن نقبل القول بأن نكسة حزيران 1967م كان لها دور في توقيت ظهور الصحوة وذلك لاضطرار الحكام إلى تخفيف قبضتهم عن الشعوب الإسلامية بسبب هزيمتهم أمام اليهود، واضطرارهم إلى السماح بهامش من الحرية مما جعل الشعوب تستفيد من هذا الهامش وتعبّر عن الحقيقة الكامنة في داخلها ووجدانها وواقعها الحياتي.

2- حاجة بعض الحكام لمواجهة التيارات اليسارية:
علّل بعض الدارسين اليساريين وجود الصحوة الإسلامية بأنها ثمرة إطلاق الحكام ليد الإسلاميين في العمل السياسي من أجل مواجهة الحركات اليسارية، وأشاروا بهذا الصدد إلى إطلاق أنور السادات يد الحركة الطلابية في مصر لمواجهة الشيوعيين واليساريين من أتباع جمال عبد الناصر في الجامعات المصرية بعد عام 1970م، وأشاروا كذلك إلى سماح بورقيبة للإسلاميين بالعمل في تونس من أجل الحد من نفوذ التيار الشيوعي هناك.
إن هذا الكلام الذي يقوله اليساريون قابل للنقاش، ولا يسلّم به على إطلاقه، ولكن لنفترض جدلاً صحة ما يقوله اليساريون، فهذا يعني أن الحكام أرادوا الاستفادة من ظاهرة موجودة، ولم يُوجدوا هذه الظاهرة، وهذا ما نريد أن نصل إليه وهو أن الصحوة الإسلامية حقيقة منبثقة عن واقع حياة المجتمع المسلم، ومرتبطة به، وذات جذور وأصول بعيدة وليست من صنع الحكام.
3- الظروف الاقتصادية السيئة:
أشار كثير من الدارسين وبالذات الغربيين إلى أن الصحوة الإسلامية ثمرة الظروف الاقتصادية السيئة التي تمر بها بعض بلدان العالم الإسلامي ، وأن القيادات الإسلامية تستغل الظروف الاقتصادية السيئة للزج بالشباب في “أتون الأصولية”، ومما ينفي زعم أولئك الدارسين أن الصحوة الإسلامية لم يقتصر انتشارها على البلدان التي تعاني أزمات اقتصادية، بل امتدّ انتشارها إلى البلدان المستقرة والمزدهرة اقتصادياً مثل الخليج العربي بعامّة والكويت بخاصة ، وربما كان العامل الاقتصادي سبباً في تسريع انتشارها لكنه لم يكن عاملاً أساسياً في إيجادها بحال من الأحوال .
4- الثورة الإيرانية:
عزا بعض الدارسين انبثاق الصحوة الإسلامية إلى قيام الثورة الإيرانية في طهران عام 1979م، وتأثيرها الإعلامي في محيطها الإسلامي، لكن نسي أولئك الدارسون أن الثورة الإيرانية شيعية المذهب، لذلك فمن الصعب أن يكون لها تأثير في محيط سني المذهب وبخاصة إذا علمنا أن الصحوة الإسلامية قامت في بلاد سنيّة المذهب، وإذا كان لا بد لنا من الإقرار بالتأثر والتأثير فهو لا يتعدى إذكاء الأمل، والاستبشار بتحقيق الأماني، والدفع إلى حلبة التنافس، وحلقة التسابق.
والآن بعد أن فندنا الأسباب التي توهم بعض الدارسين أنها أسباب الصحوة الإسلامية، فما هي حقيقة الصحوة الإسلامية؟ وما هي ماهيتها؟
الصحوة تعبير عن الأمة التي بناها الرسول  خلال إقامته في المدينة ، هذه الأمة التي وصفها الله بأنها خير أمة أخرجت للناس ، فقد قال تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (آل عمران،110) ، وقد استمرت هذه الأمة الإسلامية حقيقة فاعلة مؤثرة تبني وتشيد أكثر من ألف عام ، وذلك لأنها تملك كل مقومات الأمة الحقيقية فهي أمة ذات أرض واحدة تمتد من الصين شرقاً إلى الأطلسي غرباً ، يستطيع المسلم أن يتجوّل فيها ويعيش في أي جزء منها ، وهي أمة ذات لغة واحدة هي اللغة العربية تقرأ بها القرآن الكريم وتؤدي بها صلاتها ، وهي أمة ذات ثقافة واحدة تدور حول القرآن الكريم والسنة المشرفة ، وهي أمة ذات عادات وتقاليد واحدة تنبثق من أخلاق الإسلام وتوجيهات رسوله  ، وهي أمة ذات تاريخ واحد يقوم على مجاهدة المشركين وموالاة الصالحين ، و هي أمة ذات آمال واحدة تتطلع إلى تمكين الإسلام ورفع رايته إلخ… وقد أنشأت هذه الأمة حضارة متميزة تركت آثاراً في مختلف مجالات العمران الزراعية والتجارية والاقتصادية إلخ…
ومما امتازت به أمتنا وجود قيادتين لها على مدار التاريخ:
الأولى: قيادة الأمراء تقود الجيوش، وتدافع عن الأمة في وجه الغزاة المعتدين، وتوسّع رقعة الأرض الإسلامية مما يتيح للدعوة الإسلامية أن تنتشر، ويفتح المجال أمام شعوب جديدة لتدخل في رحمة الإسلام وضيائه، وقد تجلّت قيادة الأمراء في عدد من الدول منها: دولة السلجوقيين، دولة الزنكيين، دولة الأيوبيين، دولة المرابطين، دولة الموحدين، دولة المماليك إلخ…
الثانية: قيادة العلماء: تقود جموع المسلمين، وتعلمهم أمور دينهم، وتنشر الفقه بينهم، وتزكي أخلاقهم، وتوجههم إلى المعروف وتنهاهم عن المنكر، وقد تجلّت هذه القيادة في عدد كبير من العلماء يعجز القلم عن حصرهم، منهم: مالك بن أنس، الشافعي، أحمد بن حنبل، عبد الله بن المبارك، سفيان الثوري، الحسن البصري، ابن تيمية، الشاطبي إلخ…
لذلك عندما سقطت الخلافة العثمانية على يد كمال أتاتورك بعد الحرب العالمية الأولى خسرت الأمة قيادتها السياسية، لكن بقيت قيادة العلماء تقود الأمة، لذلك كان أثر القيادات القومية محدوداً في كيان الأمة، وعندما ارتفع جانب من التضييق الذي كانت تمارسه القيادات القومية على أبناء الأمة، ظهرت الأمة على حقيقتها مرة ثانية وكانت الصحوة الإسلامية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
باختصار يمكن أن نقول إن الصحوة الإسلامية هي تعبير صارخ عن الأمة الإسلامية والتي ظن بعضهم أنها انتهت بعد سقوط قيادتها السياسية، لكنها لم تنته ولن تنتهي لأنها عادت إلى البروز في ساحة الواقع بقيادتها الثانية وهي قيادة العلماء الذين رووها بدمائهم ومدادهم على مدى القرن الماضي والذين نعجز عن حصرهم وعدهم، لكن نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: مصطفى صبري، حسن البنا، عبد العزيز البدري، عزالدين القسام، أبو الأعلى المودودي، عبد الحميد بن باديس إلخ…
والآن ما الذي نستفيده من هذا التفسير؟
هناك عدّة حقائق تفرض نفسها نتيجة هذا التفسير، هي:
1- إن الحركة الإسلامية ليست هي الطارئة في المنطقة، وليست هي الشذوذ والاستثناء كما يحاول أن يصورها دعاة القومية ومعهم دعاة التحديث والتغريب لكن الحركة الإسلامية هي الأصل في المنطقة لأنها تعبر عن الأمة الإسلامية التي هي حقيقة راسخة وقائمة بكل المقاييس الموضوعية التي تعرّف الأمة والتي كانت الصحوة الإسلامية إحدى تجلياتها.
2- إن الهدف الأساسي لأعداء الأمة الإسلامية أمران:
الأول: توليد أمة مكان الأمة الإسلامية، وهذا ما استهدفه الفكر القومي العربي خلال القرن الماضي لكنه فشل في ذلك، فمن هنا كانت أزمته وأزمة المنطقة معه.
الثاني: تفتيت كيان الأمة الإسلامية، وهذا ما يراهن عليه كل أعداء الأمة لذلك يجب على الحركة الإسلامية أن تُفشل مخططاتهم بأن تدعم كل ما يؤدي إلى تماسك الأمة.
3- يجب على العلماء الذي قدّر الله أن يقودوا الأمة في هذه الفترة أن يكونوا حريصين على تدعيم ثوابت الأمة وأن لا يفرطوا بأية حقائق تقوم عليها الأمة، لأنهم يقفون على أرض راسخة قوية أقوى مما يتصورون من جهة، ولأن هناك دوائر وأجهزة تسهر بصورة لم يشهدها التاريخ السابق تتلقف أي تفريط لتبني عليه من أجل الاستفادة منه في تفكيك الأمة من جهة ثانية.

اترك رد