تمر علينا هذه الأيام ذكرى حرب حزيران (يونيو) التي خاضتها ثلاثة جيوش عربية هي جيوش مصر وسورية والأردن، وكانت نتيجتها أن إسرائيل احتلت سيناء من مصر والجولان من سورية والضفة الغربية من الأردن، وأطلقت أجهزة الإعلام على نتائج هذه الحرب اسم «النكسة»، وكانت قبلها وقعت حرب عام 1948 بين سبعة
جيوش عربية وعصابات صهيونية، وقامت بعد ذلك دولة إسرائيل في 15 أيار (مايو) عام 1948 وسمّي ذلك العام عام «النكبة»، ثم غزت أميركا العراق عام 2003، واحتلت أميركا العراق وحلّت الجيش العراقي، وها هو العراق مهدد بالتقسيم والتجزئة بعد أن أصبح مدمراً بكل معنى الكلمة، ومهدداً بحرب أهلية لها أول ولا يعرف متى آخرها، وتفتيت قدرات الأمة وتمكين أعدائها.
ومن الجدير بالذكر أن هذه النكبات والنكسات التي وقعت في أزمان مختلفة وأقطار متباينة كانت تحمل فكراً واحداً هو الفكر القومي العربي، ويفترض في المراجعات أن تتجه إلى فحص بُنية الفكر القومي العربي وظروف نشأته وعوامل قصوره وأسباب إيصالنا إلى التعثر…، لكنّ المراجعات اتجهت بكل أسف إلى شخصنة النكبات والنكسات، وإلى الظواهر الجزئية المرافقة للنكسات، مثل القصور في إدارة الأزمة أو في ضعف الإعلام أو في بعض المواقف السياسية.
ومع أن الأشخاص يتحملون جزءاً من المسؤولية في ما وقع، وكذلك الإعلام والإدارة والسياسة…، لكن يبقى كل ذلك ذا مسؤولية محدودة، والمسؤولية الكبرى يتحملها المنهج، وهو في هذه الحال الفكر القومي العربي وعلى الأرجح أن القصور في الأشخاص والإعلام والإدارة والسياسة واقع تحت تأثير القصور في المنهج.
عندما قررت انكلترا الانسحاب من فلسطين عام 1948 ودخلت الجيوش العربية السبعة إليها، كانت السيطرة الغالبة لمنهج الفكر القومي العربي وقياداته وشخصياته في كل من العراق وسورية والأردن ولبنان وفلسطين، وكان الفكر القومي العربي هو النافذ في مختلف مؤسسات المجتمع كالأحزاب والجمعيات والنوادي والنقابات، وكان المفكرون القوميون العرب والسياسيون القوميون العرب أصحاب الشأن الفاعل في تلك الدول والمجتمعات كساطع الحصري وشكري القوتلي وصبري العسلي ونوري السعيد ورياض الصلح وهاشم الاتاسي. وانتهت المواجهات بانتصار الصهاينة وإعلان دولة إسرائيل في 15 ايار 1948.
وشكّل قيام الدولة الصهيونية زلزالاً في الواقع العربي وصدمة للكيان العربي واستتبع ردات عنفية وقامت انقلابات عدة تعبيراً عن الاستياء من الهزيمة. والملاحظ أن المراجعات التي حصلت إثر النكبة لم تتعرض للفكر القومي العربي كمنهج قائد بالمراجعة والفحص والتقويم والسير وإعادة النظر، لكنها اتجهت إلى أمور أخرى واعتبرتها سبب النكسة من مثل الحديث عن خيانات بعض الاشخاص واجتماعهم بالعدو، وعن الاسلحة الفاسدة وزيف الديمقراطية السياسية لعدم ارتباطها بالعدل الاقتصادي الخ… وقد يكون كل ذلك صحيحاً، لكنه لا يتجه الى جوهر البناء وأصله وهو الفكر القومي العربي.
ثم حكم عبد الناصر مصر بعد انقلاب عام 1952 وحمل القومية العربية، واعتبر مصر جزءاً من الأمة العربية، عندئذ وسّع الفكر القومي العربي آفاق انتشاره بسبب ثقل مصر المعنوي وقوتها وتأثيرها التاريخي في العالم العربي، فانتشر الفكر القومي العربي في عدد من البلدان العربية، وتسلم دفة القيادة الكاملة في الستينات من القرن الماضي في عدد من الدول، منها اليمن والجزائر وليبيا والسودان والعراق وسورية. ومن الملاحظ أن الفكر القومي العربي ارتبط بالاشتراكية.
ثم وقعت الحرب مع إسرائيل في 1967، لكن النتيجة كانت كارثة دمرت العالم العربي، وكان يُفترض إعادة النظر في الفكر القومي العربي الذي هو اصل بناء الدول والأفراد والمجتمعات التي واجهت إسرائيل، لكن المراجعات والانتقادات والتقويمات أرجعت النكسة إلى التهويل الإعلامي، وإلى سيطرة الخرافة الدينية على عقولنا، وإلى ضعف فهم المتغيرات السياسية، وإلى نفوذ الطبقة البورجوازية وإلى مفاجأة العدو لنا، اذ جاء من الغرب وكنا نتوقع أن يأتي من الشرق…
واستمر الفكر القومي العربي يقود معظم الدول العربية بعد النكسة، وقفز حزب البعث عام 1968 إلى السلطة في العراق، ثم وصل صدام حسين إلى رئاسة الجمهورية عام 1979. ومن المعلوم أن حزب البعث وصدام قوميان عربيان، وقد غزا الأميركان العراق في آذار (مارس) 2003، فكانت «أم الكوارث»، إذ انهار الحكم في عشرين يوماً، وجاء الاحتلال فاتحة لتدمير المنطقة كلها، وسرقة خيراتها وتمكين إسرائيل فيها.
من الجلي أن الفكر القومي العربي كان هو المنهج المتحكم والفاعل في كل شؤون الفرد والدولة والمجتمع وفي مختلف المجالات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، طوال فترة وقوع النكبات والنكسات التي طالت الأمة على مدار القرن، بدءاً من نكبة عام 1948 ومروراً بنكسة عام 1967 وانتهاء باحتلال العراق 2003، فماذا يعني ذلك؟
ذلك يعني في أبسط الأحوال أن هناك قصوراً في هذا الفكر القومي العربي، ولأنه لم يستطع أن يعبئ الفرد والمجتمع والدولة والجيش والإعلام تعبئة سليمة، ولم يستطع أن يبني تلك العناصر بناء صحيحاً تقود الأمة إلى النصر، وهذا القصور يقتضي إعادة النظر في محتواه، وفي العناصر التي يقيم عليها الأمة، وفي تعامله مع التراث وفي تخطيطه لبناء الفرد والأمة، وهو الذي يتحمّل المسؤولية الأولى قبل القيادات التي هي في الأغلب الأعم نتاج لهذا المنهج، وإن كان لها دور سلبي فهو دور سلبي ذو سقف مُعين أقل بكثير من سلبية المنهج وآثاره السيئة.
ويتركز قصور الفكر القومي العربي في أمرين، الأول: إنه فكر غير موضوعي لم ينطلق من تحليل الواقع المادي في توصيف الأمة العربية وتحديد عوامل وجودها، بل انطلق من مقايسات جزئية في تشابه الواقعين الألماني والعربي بوجود لغتين أصليتين من جهة، وإلى وجود التجزئة السياسية من جهة ثانية، فاسقط تلك المقولة على أمتنا واعتبر أن الأمة العربية تقوم على عاملي اللغة والتاريخ، وهو بذلك اغفل عامل الدين الذي دخلت حقائقه وأفكاره ومُثله وآدابه وأخلاقه وتصوراته وقِيَمه وأشواقه وشرائعه في كل مجالات المجتمع العربي المعنوية والاجتماعية والفنية والتربوية والاقتصادية والجمالية…، ولا يمكن ن نفسر أي جانب من جوانب حياة الأمة العربية إلا من خلال معطيات الدين الإسلامي.
الثاني: إنه فكر فقير ثقافياً، وهذا يفسر طغيان الشعارات الماركسية على التيارات القومية العربية في مرحلة ما بعد النكسة، وخير مثال على ذلك حركة القوميين العرب التي بدأت حركة قومية عربية صرفة، مُغالية في قوميتها، فانقلبت الى حركة ماركسية تتبنى كل المفردات الماركسية من عنف صوري وديكتاتورية البروليتاريا والفرز الطبقي…، وحملت اسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقد بهتت ملامح القومية العربية في صورتها وتكوينها الى درجة الاختفاء.
لذلك أمام هذه الأزمة البُنيوية التي يعاني منها الفكر القومي العربي، والتي كانت سبباً في وقوع النكبات والنكسات خلال القرن الماضي والتي يمكن أن تكون سبباً لنكسات أخرى، وبخاصة أن الفكر القومي العربي ما زال لاعباً نشطاً في ساحة العمل العربي والإسلامي، يتوجب أن تقف قيادات الأمة الفاعلة طويلاً أمام فكرة القومية العربية، وتُقوّم دورها السابق قبل ان تقوم بأية حركة في أي اتجاه مستقبلي.