لقد لعب محمد عبده دوراً كبيراً على الصعيدين الفكري والسياسي في تاريخ مصر، وجاء هذا الدور من كونه تبوّأ مناصب عالية في حياة مصر، وأبرزها كونه أصبح مفتياً لها منذ عام 1899م. وقد ألّف عدداً من الكتب في مختلف المجالات الشرعية والدينية والحضارية…، ويمكن أن نعتبره غزير الإنتاج الفكري والثقافي على عكس أستاذه جمال الدين الأفغاني الذي كان محدود الإنتاج الفكري، لذلك يمكن أن نعتبره رأساً من رؤوس التأثير في المسار الفكري والثقافي للأمة منذ مطلع القرن العشرين، وترك آثاراً في النخبة الثقافية التي برزت بعد ذلك من أمثال: قاسم أمين، سعد زغلول، أحمد لطفي السيد، طه حسين، عباس محمود العقاد..
ومن المؤسف أن هناك اضطراباً في الموقف نحوه وفي تقويمه، مع أنه يفترض أن تكون الساحة الثقافية قد قومته التقويم الدقيق، من أجل أن نبني على الصواب الذي أرساه، ونتجنب الخطأ الذي وقع فيه، ولكننا لا نجد ذلك بكل أسف متحققاً، والسبب في ذلك هو ضعف الدراسات التقويمية التي تصدر أحكاماً بناء على معايير محددة من جهة، وعلى الموقف العاطفي من الرموز التاريخية من جهة ثانية. ونحن من أجل تحريك المياه الراكدة، ومن أجل إعطاء حكم على بعض أحوال محمد عبده، وجانب من وقائع حياته، سندرسه من ثلاث زوايا، هي:
1. دخوله إلى المحفل الماسوني.
2. موقفه من الاحتلال الإنجليزي لمصر.
3. موقفه من مادية الحضارة الغربية.
لقد أسّس جمال الدين الأفغاني محفلاً ماسونياً في مصر تحت اسم المحفل الماسوني الشرقيي الفرنساوي، ودخل فيه محمد عبده، وقد التمس بعض الناس العذر لـمحمد عبده وجمال الدين الأفغاني في قبولهما للماسونية، وكانت حجتهم أن الماسونية لم تكن معروفة في زمنهم كما هي عليه الآن، وهي مجهولة بالنسبة لهم، لذلك فهم معذورون في دخولهم هذا، وفي عملهم ذاك. والحقيقة إنّ هذا العذر غير مقبول، فهو إذا كان مقبولاً من إنسان عادي، فلا يمكن أن يُقبل من محمدد عبده الذي هو علم من أعلام الأمة من جهة، وهو -بالتالي- يملك تفكيراً عميقاً ومتقدماً، ويملك نظرة ثاقبة للأمور، ويُفترض أن يكون متحرياً لأي تصرف يتصرفه، لذلك لا يمكن أن يُقبل من كلا الشخصين: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده مثل هذا التصرف، وإن كان يمكن أن يُقبل من سواهما لمن هو دونهما في العقلية، وعمق النظر، وبُعْد التفكير.
فعندما أسس جمال الدين الأفغاني محفله الماسوني في مصر، كانت الماسونية قد أصبحت معروفة الأهداف والتكوين والمؤسسات والتاريخ في أوروبا في القرن التاسع عشر، وكان الأفغاني ومحمد عبده يمكن أن يصلا إلى كل ما يتعلق بالماسونية من كل تلك المعلومات نتيجة ثقافتهما، واطلاعهما على حضارة الغرب من جهة، وعيشهما معاً في باريس ولندن عدة سنوات من جهة ثانية. فالماسونية نشأت في القرن السابع عشر في أوروبا، ولعبت دوراً سياسياً كبيراً في دفع الأحداث وتطويرها في القرن الثامن عشر كالثورة الفرنسية، وكانت قد أصبحت معروفة في القرن التاسع عشر، وكل هذا يمكن أن تصل إليه إمكانيات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وبالتالي يقفان موقف الحذر والعداء لهذه التنظيمات التي تقوم على أفكار وأهداف غير سليمة وغير مقبولة من ناحية وحدة الأديان، ومن ناحية الدور السياسي، وكانت قد حاولت أن تلعب دوراً سياسياً في منطقتنا في القرن التاسع عشر في إثارة المشاكل في وجه الخلافة العثمانية، من أجل تمزيقها.
لقد تعاون محمد عبده مع الاحتلال الإنجليزي لمصر، وقد تمثل هذا التعاون في مدّ يده إلى “كرومر”” المندوب السامي البريطاني في ذلك الحين، وقد تجسد التعاون بأن قدّم له عدّة مذكرات من أجل تغيير الأوضاع، ومنها مذكرة في إصلاح التعليم، كما تعاون معه في إنشاء معهد لقضاة الشرع في مصر بناء على نصيحة من المندوب السامي في البوسنة ، الذي أشار على كرومر بإنشاء هذا المعهد على غرار ما قام به في البوسنة، وبعد أن وضّح له نجاح الفكرة وفوائدها في البوسنة، ويمكن الاستفادة منها في مصر، فتذاكر اللورد كرومر مع محمد عبده في تنفيذ الفكرة، وتجاوب محمد عبده مع اللورد كرومر، وتعاونا في تحقيق ذلك المشروع، وكان هدف كرومر من إنشاء هذا المعهد هو تزويد الطالب ببرامج ثقافية ذات طابع تحرري لا تحصر الطالب في الدراسات الدينية الخالصة.
ونشب صراع بين السلطتين: الخديوية والإنجليزية، وكان يُنظر إلى سلطة الخديوي بأنها شرعية، وإلى سلطة كرومر بأنها مُغتصبة وغير شرعية، وبرّر محمد رشيد رضا هذا الانحياز بأنه من أجل أن يتمكن محمد عبده من العيش في مصر، ولكن هذا التبرير غير مقبول بحال من الأحوال، لأن المبادئ فوق الأشخاص ومصالحهم، وهذا ما سار عليه الأنبياء والصالحون وعلماؤها الربانيون على مدار التاريخ. وهدف محمد عبده من تعاونه مع اللورد كرومر الإنجليزي تحقيق الإصلاح، لكنّ الإصلاح الحقيقي يكون بأمرين: الأول: السعي إلى طرد المحتل الأجنبي من جهة، والثاني: الانحياز إلى الأمة من جهة ثانية، والعمل مع العلماء الآخرين على إصلاح ما يمكن إصلاحه في مجال التعليم والاقتصاد والاجتماع والعبادة والفكر والثقافة واللغة..
من الواضح أن الحضارة الغربية هي أكبر تحدّ علمي وثقافي وسلوكي واجه المسلم خلال القرنينن الثامن عشر والتاسع عشر، لذلك كانت إحدى مهام العلماء هو اتخاذ الموقف السليم من هذه الحضارة من أجل النجاح في تحدي هذه المواجهة، وتجاوزها، ونقل المسلم إلى دائرة الفعل الحضاري. من الواضح أن الحضارة الغربية قامت على عدّة دعائم أبرزها: المادية، وإنكار كل ما هو غيبي منن مثل: الروح والجنة والنار والملائكة والشياطين…، واعتبار كل تلك المقولات خرافات وأوهاماً، جاء بها رجال الدين من أجل السيطرة على عقول العوام، وابتزازهم، وتقييدهم، وسلبهم أموالهم.
ليس من شك بأن هذه القضية هي إحدى القضايا الرئيسية التي واجهت العلماء المسلمين، فكيف واجههاا محمد عبده؟ واجهها محمد عبده بأن لجأ إلى التأويل من أجل أن يقلل الفجوة بين عالم الغيب والشهادة، لذلك أوّلل الجن بالميكروبات التي عُرفت بالنظارات المكبرة، كما أوّل النفاثات في العقد بالنمّامين المقطّعين لروابط الألفة، المُحرِقون لها بما يُلقون عليها من ضرام نمائمهم. كما أوّل طير الأبابيل بجنس البعوض أو الذباب، وحجارة السجيل بأنها طين يابس مسموم هي جراثيمم مرض الجدري أو الحصبة.
وقد أوّل محمد عبده خلق عيسى عليه السلام بأحد وجهين:
الأول: اعتقاد قوي استولى على قلب مريم عليها السلام فأحدث الحمل بها، وكثيراً ما يكون الاعتقادد بالمرض مثلاً مسبباً له.
الثاني: روح لطيف أرسله الله إلى مريم فأحدث التقليح بها، وغالباً تؤثر الأرواح اللطيفة في الأجسام الكثيفة.
المهم أنّ محمد عبده حاول أن يضيّق الفجوة بين عالم الغيب وعالم الشهادة بخطوات تأويليه، واستندد أكثر ما استند عليه فيما توصلت إليه الحضارة الغربية من اكتشافات مادية في مجال الطبيعة والعلم. ولكن الحقيقة أنّ هذا التوجه ذو نتائج خطرة، فهو لا يحل مشكلة المادي الكافر بالغيوب، ويمكن أن يهزّ إيمان المؤمن وطريقة إيمانه، مع أن الإيمان بالغيب أمر مقبول ومبرّر عقلياً، وكان عليه أن يبين أنّ إنكار عالم الغيب في الحضارة الغربية موقف خاطئ جاء نتيجة ظرف خاص مرتبط بالحضارة الغربية، ونتيجة رد الفعل على أخطاء الكنيسة التي عادت الفطرة والعقل في القرون الوسطى، فقامت الحضارة الغربية على معاداة الدين، والتنكّر لكثير من حقائقه، ومنها: وجود الغيوب، بل بالعكس إن عالم الغيب أكبر من عالم الشهادة، كما هو واضح في مختلف أمور حياتنا، لذلك فإن موقف محمد عبده يمكن أن نعتبره خطوة إلى الوراء في التعامل مع الحضارة الغربية.
الخلاصة: إنّ تقويمنا لـمحمد عبده سيكون سلبياً في الجوانب الثلاثة التي تحدثنا عنها وهي: دخول المحفل الماسوني، والتعاون مع المحتل الإنجليزي، والموقف من الحضارة الغربية، ومحاولة تأويل مفردات عالم الغيب الإسلامي لصالح المادية الغربية.