ليست الديمقراطية حديثة الولادة في منطقتنا، فقد عرفت بلادنا العربية النظام الديمقراطي معرفة جيدة بعد الحرب العالمية الأولى في أكثر البلاد العربية ومنها: مصر، والعراق، وسورية، ولبنان، والأردن، والجزائر، وتونس، والمغرب إلخ….
ونحن سنتوقف عند التجربة الديمقراطية في مصر، لأن مصر بلد عربي كبير المساحة وكثير السكان، ويملك مؤسسات عريقة كالأزهر وغيره، لذلك سنتوقف عنده لدراسة تجربته الديمقراطية.
لقد انطلقت التجربة الديمقراطية في مصر بعد ثورة 1919 وقد بدأت بإقرار دستور عام 1923، وقامت انتخابات شملت كل أجزاء القطر المصري، أفرزت برلماناً مثّل الشعب المصري، وقامت أحزاب متعددة كان على رأسها حزب الوفد الذي قاده سعد زغلول، وقد عرفت تلك الديمقراطية مختلف أنواع الحريات، ومنها: حرية التعبير وإبداء الرأي، وإصدار الصحف، وتشكيل النقابات، وتسيير المظاهرات إلخ….
وقد رافق تلك التجربة في نظام الحكم أمر آخر وهو الطرح القومي، فقد اعتبرت القيادات السياسية -آنذاك- أن “مصر ذات قومية فرعونية” وأن الشعب المصري “أمة فرعونية”، وأن الإسلام لم يؤثر في حقيقة أن “الشعب المصري أمة فرعونية”، وقد أيّد هذا الرأي عدد كبير من الكتّاب من أمثال: طه حسين، وعباس محمود العقّاد، ومحمد حسين هيكل، وسلامة موسى إلخ…، ولا أريد أن أناقش هذا الطرح القومي، فقد ناقشته في أماكن أخرى، وبيّنت خطأه بالتفصيل.
لكن هذه التجربة الغنية الثرية –سياسياً وقومياً- تعثّرت، ليس هذا فحسب، بل أنهيت من خلال الانقلاب الذي قاده جمال عبدالناصر عام 1952، حيث استولى على السلطة، وعطّل الحياة البرلمانية، وألغى حرية الأحزاب، وإصدار الصحف، وأقام نظاماً ديكتاتورياً بدل النظام السياسي، واعتبر مصر جزءاً من القومية العربية والأمة العربية بدل الطرح القومي الفرعوني.
فلماذا وقع انقلاب مصر عام 1952 وأنهى التجربة الديمقراطية؟ الأرجح أن الانقلاب وقع من أجل الحيلولة دون جعل الأمة في مصر تعبّر عن حقيقتها الإسلامية، والتي اتضحت بانحسار التوجه الفرعوني، والسعي إلى تطوير النظام الديمقراطي ليتمشّى مع القيم الإسلامية من خلال أسلمة القوانين من مثل قانون إباحة الربا، ويمكن أن نوضّح ذلك في السطور التالية.
بعد أن سمح النظام الديمقراطي بقيام الأحزاب والجمعيات إثر ثورة 1919، برزت جمعيات إسلامية متعددة “كجمعية الإخوان المسلمين” و”جمعية الشبّان المسلمين”، و”جمعية الشريعة الغراء”، ومجموعة “مجلة الفتح” حول محبّ الدين الخطيب، ومجموعة “مجلة المنار” حول رشيد رضا إلخ…..
وبرزت شخصيات ثقافية ذات علم عميق من أمثال: مصطفى عبدالرازق الذي ألّف كتاب “تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية”، ومحمد أبو زهرة الذي ألف عدداً من الكتب حول علماء الأمة فقهائها، ومحمد عبدالله دراز الذي ألف عدداً من الكتب منها: “دستور الأخلاق في القرآن الكريم” حول النظرية الأخلاقية في الدين الإسلامي، و “النبأ العظيم” حول الإعجاز في القرآن الكريم، ومحمد البهي الذي ألّف كتاب “الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي”.
اضطرّ هذا الاكتساح من التيّار الإسلامي للساحتين: الثقافية والسياسية كثيراً من دعاة القومية الفرعونية ومنهم: طه حسين، وعباس محمود العقاد، ومحمد حسين هيكل، اضطرّهم أن يعدّلوا جانباً من فكرهم القومي، ويعترفوا بالإسلام، فبدأوا في الكتابة عن الإسلام بعد الحرب العالمية الثانية، مع أنهم لم يكتبوا حرفاً واحداً عن الإسلام منذ مطلع القرن العشرين.
فكتب عباس محمود العقاد عبقرياته عن شخصيات الإسلام، وكان من أبرزها: عبقرية محمد (ص)، وعبقرية أبوبكر، وعبقرية عمر، وعبقرية عثمان، وغيرها كثير، وكتب طه حسين: مرآة الإسلام، الشيخان، الفتنة الكبرى في جزئين، وكتب محمد حسين هيكل: في منزل الوحي، حياة محمد، الصديق أبوبكر، الفاروق عمر.
من الواضح أن الأمة الإسلامية في مصر قد عبّرت عن حقيقتها الإسلامية: ثقافياً وسياسياً كما وضّحنا سابقاً، وتغلّبت على الطرح الفرعوني الذي أراد أن يطمس الحقيقة الإسلامية في مصر، مما اضطر الغرب إلى إنهاء التجربة الديمقراطية عن طريق انقلاب جمال عبدالناصر عام 1952.
ثم جرت محاولتان أخريان لتطبيق الديمقراطية: في الجزائر ومصر، لكنهما انتهتا كما انتهت تجربة عام 1952. أما الجزائر فقد أعلنت الحكومة الجزائرية عن تحوّل الجزائر إلى النظام الديمقراطي عام 1988، وأعلنت عن دستور جديد للبلاد عام 1989، وسمحت الحكومة الجزائرية بتشكيل الأحزاب، وإصدار الصحف، وأباحت حرية الاجتماعات، وأعلنت عن إجراء انتخابات نيابية عام 1991، وبالفعل أجريت هذه الانتخابات، وفاز فيها الإسلاميون بنسبة تفوق التسعين بالمائة.
لكن الجيش حلّ البرلمان وألغى الانتخابات، وألغى النظام الديمقراطي، وخضعت البلاد للأحكام العرفية، وللحكم العسكري، حيث بدأت “العشرية الحمراء” التي استمرت عشرة أعوام، وقتل فيها ما يقرب من مليون شخص نتيجة العمليات القتالية.
أما مصر فقد تمّت إعادة النظام الديمقراطي إليها إثر ثورة 25 يناير 2011، وجرت انتخابات برلمانية ورئاسية عام 2012، وفاز فيها الإسلاميون بأكبر عدد من المقاعد، كما فاز محمد مرسي برئاسة الجمهورية وهو مرشح التيار الإسلامي، لكن الجيش انقلب على محمد مرسي في 30 حزيران “يونيو” 2013، وأقام حكماً ديكتاتورياً.
والسؤال الآن: لماذا انقلب الجيش على النظام الديمقراطي في كل من الجزائر ومصر في عامي 1992 و2013؟ السبب هو أن الأمة الإسلامية في الجزائر ومصر قد عبّرت عن حقيقتها الإسلامية من خلال الفوز بالانتخابات، فدفع الغرب الجيش إلى إلغاء هاتين التجربتين.
لذلك يجب أن يعي الإسلاميون هذا الدرس، وهو أن الغرب سيحول دون أية تجربة تعطي الأمة فرصة للتعبير عن حقيقتها الإسلامية، ولو كان ذلك من خلال نظام ديمقراطي هو كان قد رسم حقائقه، وبلور أبعاده، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا إذا فرض الإسلاميون هذا النظام فرضاً على الغرب.
لكن اعتراضاً يرد وهو عن التجربة الديمقراطية في تونس، فها هم الإسلاميون بقيادة “حزب النهضة” قد مضى ست سنوات على وجودهم في تلك التجربة، ولم يلغها أحد في تونس، فلماذا؟
السبب الرئيسي الذي أدى إلى عدم إلغاء التجربة الديمقراطية في تونس، هو تقديم التنازلات ل”العلمانية”، فقد كتب الغنوشي مقالاً تحت عنوان “الإسلام والعلمانية” اعتبر فيه أنه ليس هناك تعارض بين العلمانية والإسلام، كما أن “النهضة” قامت بفصل “العمل الدعوي” عن “العمل السياسي” في برنامج الحزب، وهي خطوة تمهيدية لفصل الدين عن الدولة، وقد أقرت بحرية الضمير في دستور تونس بما يعني إباحة الإلحاد والكفر. إن هذه التنازلات المنهجية هي السبب الأكبر في السماح للإسلاميين في تونس بالاستمرار دون غيرهم من الإسلاميين في تجارب أخرى.
الخلاصة: قامت عدة تجارب ديمقراطية في العالم العربي بعد الحرب العالمية الأولى، وكانت تجربة مصر الديمقراطية أغناها وأكثرها حياة، لكن تجربة مصر وغيرها من التجارب الديمقراطية ألغاها الغرب عن طريق الجيوش التي يتحكّم بقيادتها، والسبب في ذلك أن التيار الإسلامي قد عبّر من خلالها عن حقيقة وجود الأمة الإسلامية، ورغبتها في صياغة نظامها الذي يعبّر عن شخصيتها، وقد كانت تجربة تونس الاستثناء من القاعدة السابقة، لأنها قدّمت تنازلات منهجية مما جعل الغرب يسمح باستمراريتها.
رابط المقال في الجزيرة نت لماذا وقعت الانقلابات على الديمقراطية؟