هذه الثورات التي قامت، علينا أن نُنجحها، وذلك بأن تحقق الأهداف التي قامت من أجلها وهي: الحرية والعدل والمساواة والتصنيع والقوة والعزة لأبناء الأمة، وعلينا أن نسعى في أن نجنبها الفشل، ويمكن أن يكون ذلك بدراسة الثورات السابقة، ودراسة عوامل الفشل وتجنبها.
ولو أخذنا مصر كمثال فنجد أنها قد مرت عليها ثلاث ثورات أو تغييرات كبرى خلال القرنين الماضيين وهي: الأولى: حكم محمد علي باشا وأسرته عام 1805, والثانية: ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول, والثالثة: ثورة 1952 بقيادة جمال عبد الناصر.
الأولى: حكم محمد علي باشا: طبق محمد علي باشا عام 1805 إصلاحات متعددة في مصر في مختلف المجالات العسكرية والزراعية والإدارية والعلمية، ففي المجال العسكري شكل محمد علي باشا جيشاً من أبناء الفلاحين، وبشكل خاص من سكان بلاد النوبة، وقدَم الفرنسيون الدعم المباشر من سلاح ومدربين، ونمت أعداد الجيش في العقد الثالث من القرن التاسع عشر، وبنى محمد علي باشا مدرسة لقيادة الأركان، ومدرسة للموسيقى العسكرية، ومدارس للمجندين، ومدرسة للفروسية، ومدرسة للهندسة العسكرية وغيرها.
وفي المجال الاقتصادي ألغى محمد علي باشا نظام الالتزام والضرائب منذ 1809، وأنجز المسح الزراعي الشامل لكل الأراضي المصرية 1813، كما أجرى المسح السكاني 1814 وبيّن هذا المسح أن عدد سكان مصر لم يكن يزيد على 3.5 ملايين، وحفر ترعة المحمودية 1819، وأدخل زراعة القطن الطويل التيلة إلى مصر 1820، وقامت سياسته الاقتصادية على ركيزتين: تأسيس صناعة حديثة مع تطوير بعض الحرف القديمة لإنتاج سلع قادرة على منافسة السلع الأجنبية، واحتكار الدولة للتجارة… إلخ.
وفي مجال التعليم أرسل محمد علي باشا أول بعثة علمية إلى أوروبا عام 1818 وضمت أربعين طالباً، وكذلك اهتم محمد علي باشا ببناء المدارس العصرية في مصر والتي بلغ عددها قرابة الخمسين مدرسة تضم ما يزيد على خمسة آلاف وخمسمائة طالب العام 1838، وأسس مطبعة بولاق الشهيرة عام 1821، ولعبت دوراً أساسياً في نشر الكتب بالعربية والتركية والفارسية بالإضافة إلى الكتب المترجمة عن الفرنسية والإنجليزية.
ومع كل هذه الإصلاحات، فإن النهضة لم تقم في مصر، فما السبب في ذلك؟ السبب أن النهضة تقوم وتتولد بعمليتين مترافقتين هما: نقل التكنولوجيا الغربية ورؤية فكرية، وبمقدار ما تكون الرؤية الفكرية معمقة في توصيف الحاضر وتشريح الماضي واستشراف المستقبل بمقدار ما تكون النهضة ناجحة وذات أثر مستمر، وقد غابت النهضة عن تجربة محمد علي باشا بسبب غياب الرؤية الفكرية عنده، فلم يكن له أي موقف فكري من الواقع، مع أنه كان مليئاً بالإيجابيات والسلبيات التي تحتاج إلى المعالجة على مستويين: الأخذ بالإيجابيات ومعالجة السلبيات، وقد أدى انعدام الرؤية الفكرية عنده إلى انزلاق تجربته إلى التغريب عند حفيده الخديوي إسماعيل الذي اعتبر مصر قطعة من أوروبا، وأخذ بكل مظاهر التغريب، وأدى هذا التوجه إلى إضعاف مصر وخسارة الاستقلال السياسي عندما احتلها الإنجليز عام 1882.
الثانية: ثورة 1919: استهدفت هذه الثورة تحرير مصر من المستعمر الإنجليزي وإقامة مجتمع يسوده العدل والحرية والغنى والسعادة من خلال إقامة نظام ديمقراطي يحقق المواطنة بين أفراد المجتمع، ومن خلال إقامة دولة صناعية مزدهرة، لكنها فشلت في أبرز أمرين استهدفتهما، وهما:
الأول: تحقيق المواطنة بين أفراد الشعب المصري.
الثاني: ترسيخ النظام الديمقراطي.
والحقيقة أنها فشلت في تحقيق المواطنة لأنها أرادت أن تقيم المواطنة من خلال اعتبار المصريين أمة فرعونية، ومن خلال إبعاد الدين عن تكوين هذه الأمة، ولكن هذا الأمر لا يستقيم مع واقع مصر الحالي فالدين عامل رئيسي في بناء كيان الشعب المصري.
أما الديمقراطية فقد فشلت لأنها نُقلت كما هي عليه في أوروبا، ولم تراع ظروف مصر، ولم تدخل عليها تغييرات مناسبة بحيث تكون أداة مناسبة لمصر وظروف مصر، فالديمقراطية الموجودة –الآن- في إنجلترا مثلاً لم تبدأ بهذه الصورة، بل مرت عليها عدة تطورات، فقد كان الانتخاب في البداية لدافعي الضرائب فقط، ثم أصبح لعموم الشعب ولم تكن النساء مدرجات في قوائم الناخبين، ثم دخلن بعد ذلك.
فبدلاً من أن تكون الديمقراطية في مصر أداة لمشاركة عموم الشعب في إدارة أمور البلاد عن طريق ممثليه، أصبحت ديمقراطية الأغنياء لأنهم الأقدر على تمويل الحملات الانتخابية والإنفاق عليها.
الثالثة: ثورة 1952: استهدفت ثورة 1952 عدة أمور، وأبرزها أمران: جلاء الإنجليز، وتقليل الفوارق بين الطبقات، وقد استطاعت تحقيق الأمر الأول عام 1954، أما الأمر الثاني فقد اختار جمال عبد الناصر النظام الاشتراكي من أجل تحقيق هدف إلغاء الفوارق بين الأغنياء والفقراء، لذلك نقل كل مفردات الخطاب الشيوعي إلى الدولة، واعتبر أن في مصر طبقة رأسمالية مستغلّة، وطبقة عمالية مستغلَّة، واعتبر أن هذه الطبقة الرأسمالية يجب أن تسحق، ويجب أن تعزل سياسياً من أجل الوقاية من شرها، واعتبر العنف الثوري هو المنهج الذي يجب أن نتعامل به مع أولئك الرجعيين، وقد أمم كل الشركات الخاصة، لكن النتيجة كانت أن شريحة الفقراء قد اتسعت، وأن البلد ازداد فقراً، وأن التصنيع لم يقم، فما السبب في ذلك؟
السبب في ذلك أن الدولة أنزلت مفردات النظرية الماركسية على مصر دون أدنى دراسة لظروف مصر الاقتصادية الحقيقية والتي تدل على عدم تبلور طبقتين رأسمالية وعمالية بالمعنى الماركسي الحقيقي، لذلك فشل التطبيق الاشتراكي لأنه عالج واقعاً غير موجود.
والآن: قامت ثورة في 25 يناير/كانون الثاني 2011، وأزالت نظاماً فاسداً استبدادياً مهترئاً متواطئاً مع إسرائيل وأميركا, والثورة تتطلع إلى بناء مجتمع تسوده المواطنة، وتقوده دولة صناعية قوية تملك تكنولوجيا متقدمة، ويحكمها نظام ديمقراطي يعطي الحرية للمواطن في أن يعبر عن رأيه، وأن يحاسب المسؤول، وأن يغيره إن ثبت فساده أو عجزه, ويحكمها نظام اقتصادي يحقق العدل الاجتماعي والمساواة الاقتصادية, فكيف يمكن أن تحقق هذه الأهداف؟ وما هي الضمانات التي تجعل هذه الثورة لا تنتهي كما انتهت الثورات السابقة؟
الأرجح أن الطريق الأمثل في تحقيق أهداف الثورة هو تجنب الأسباب التي حالت دون تحقيق أهداف الثورات السابقة، والتي يمكن أن نجملها بالأمور التالية:
1- فشل محمد علي باشا في تحقيق النهضة مع كل الإصلاحات التي قام بها والسبب في ذلك هو غياب الرؤية الفكرية لواقع مصر آنذاك، لذلك وحتى تتجنب ثورة 25 يناير هذا العامل الذي أفشل نهضة محمد علي، عليها أن تشكل فريق عمل ينتهي بدراسة تحدد العوامل التي أضعفت الأمة، وتحدد عوامل القوة فيها، وتعالج عوامل الضعف بما يناسب، ويجب أن تشمل هذه الدراسة الجانب النفسي والعقلي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي والخلقي، ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار مقومات الأمة من دين ولغة وعروبة وتوحيد وقيم خاصة وقيم كونية نستفيدها من الغرب.
2- فشلت ثورة 1919 وثورة 1952 في تحقيق المواطنة، وتريد الآن ثورة 25 يناير تحقيق المواطنة فكيف يمكن فعل ذلك؟
عند العودة إلى سبب الفشل في تحقيق المواطنة في ثورة 1919 أو ثورة 1952 نجد أن السبب في ذلك هو انتزاع الدين الإسلامي من المواطنة حتى يتحقق الإخاء الوطني، واعتبرت الثورتان أن هذا الشعب المصري أمة مكونة ولا دخل للدين في تكوينها، وهذا غير صحيح، وهما عندما قررتا ذلك لم تنطلقا من دراسة واقع مصر بل عادتا إلى فرنسا وألمانيا، فقد أصبحت كل من فرنسا وألمانيا أمة مستقلة بعد أن أبعدتا الدين، وقد أصبحتا أمتين بفعل عوامل الجغرافيا واللغة والتاريخ، وهذا لا ينطبق على مصر.
لذلك فإن على ثورة 25 يناير أن تنطلق من الواقع، وأن توجد حلاً للمواطنة مع إبقاء عنصر الدين الإسلامي أصلاً في هذه المواطنة، وعدم التوجه إلى إلغائه، لأن إلغاءه سيؤدي إلى فشل الثورة في تحقيق هذا الهدف كما حدث في الثورات الماضية، والسبب أنه الأصل في تكوين الأمة الموجودة والقائمة في مصر، والحقيقة أن الأقباط بشكل عام هم السبب المباشر الذي يقدم من أجل إبعاد الدين الإسلامي عن أي تكوين للأمة والمواطنة.
وفي الحقيقة إن المسيحيين ليسوا غرباء عن الأمة الإسلامية، فهم قد ساهموا في تكوين الوحدة الثقافية لهذه الأمة في العصور السابقة، ويبرز هذا الدور من خلال بعض الأسر المسيحية التي عاشت في العصرين العباسي والأموي وساهمت في نقل التراث اليوناني والسرياني القديم من مثل أسرة بختيشوع ونونجت وحنين بن إسحاق ويوحنا بن ماسويه وغيرهم.
ويبرز هذا الدور أيضاً من خلال بعض المدن التي كانت مقراً لكثير من العلوم المسيحية كمدينة حران في تركيا والإسكندرية في مصر وأنطاكية في سوريا، وفي الحقيقة إن الدعوة إلى إبعاد الدين الإسلامي عن المفاهيم المكونة للأمة، أو إبعاده عن المواطنة إنما هو إسقاط لمفهوم غربي على واقع الأمة، وسيُفشل واقع الأمة مفهوم المواطنة إن قامت ثورة 25 يناير على إبعاد الدين من هذا المفهوم، وعليها أن تبدع صيغة تتحقق فيها المواطنة مع إبقاء الدين الإسلامي عنصراً أساسياً فيه.
ومن الجدير بالذكر أن إسرائيل أقامت مفهوم الأمة عندها على الدين وحده، وأقامت المواطنة على الدين وحده أيضاً، مع أن هرتزل مؤسس إسرائيل استفاد من النهوض القومي في أوروبا في إحياء الأمة اليهودية، لكنه لم يلتزم بإبعاد الدين كما فعلت قوميات أوروبا وكما فعل القوميون عندنا.
3- أما الديمقراطية فقد اتضح أنها لم تترسخ في المجتمع والسبب في ذلك نقل تطبيقاتها حرفياً كما جاءت في الغرب، وهذا ما يوجب على ثورة 25 يناير ألا تكون الديمقراطية هي ديمقراطية الأغنياء، فالذي يملك المال هو الذي يفوز وهو الذي يحكم في النهاية، بل عليها أن توجد آليات تجعلها ديمقراطية عموم الشعب، وأن تحرص على أن يكون عدد المقترعين فوق نصف الشعب، وإلا كانت ديمقراطية غير حقيقية، وعلى الثورات المعاصرة أن تستفيد من بعض القيم الإيجابية في تراثنا من مثل فكرة أهل الحل والعقد والشورى والبيعة، فهي أفكار إيجابية تزيد من الرصيد الإيجابي للتطبيق الديمقراطي.
ومن نافلة القول أن تبتعد الثورات المعاصرة عن فلسفة الديمقراطية التي تقوم على المادية الصرفة، والفردية المطلقة، والمصلحة واللذة والمنفعة وإن تعارضت مع الأخلاق، ونسبية الحقيقة، ويجب التأكيد على الاقتصار على الآليات مع تطويرها بما يناسب مجتمعنا.
4- ليس من شك بأن الثورات السابقة لم تقم العدل الاقتصادي بل ازدادت شريحة الفقراء، وكادت تنقرض الطبقة الوسطى في نهاية حكم مبارك، وليس من شك بأن أحد أهداف ثورة 25 يناير إقامة العدل الاقتصادي وإغناء الشعب المصري، لذلك فإن الخطوة الأولى من أجل تحقيق هذا الهدف هو الاستفادة من مخزون القيم في منظومتنا الثقافية والتي تدعم سد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتقليل التباين بينهما من مثل: الإيثار وقاعدة “كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم” (سورة الحشر، 7)، وإعطاء الزكاة، والقرض الحسن، وتفعيل الأوقاف القديمة وإنشاء مؤسسات وقف حديثة.
وتأتي الخطوة الثانية من أجل تحقيق الإغناء الاقتصادي في الاستفادة من كل الصور المناسبة في النظامين الرأسمالي والشيوعي من مثل التأمين، وإشراك العمال في جانب من أرباح المصنع الذي يعملون فيه، وإنشاء التعاونيات التي تقوم على نوع من تحقيق المنافع والأرباح مع ملكية الدولة لوسائل الإنتاج أو للأرض الزراعية.
ومن الجدير بالذكر أن إسرائيل قد طبقت صورة من الاشتراكية في مؤسستي الموشاف والكيبوتز من خلال إلغاء الملكية الخاصة للأرض، والاعتراف بالملكية العامة والعمل الجماعي وتقاسم الأرباح في إطار من الإخاء اليهودي، دون أخذ بالأحكام الطبقية، وإثارة العداء بين فئات المجتمع، ودون إسالة للدماء.
ومن نافلة القول أن هذه التطبيقات الاشتراكية في إسرائيل لم تأخذ بالفلسفة الشيوعية التي تعتبر الكون مادة، وتكفر بكل ما هو غيب وتعتبره خرافة وأوهاماً، وتسفه الأديان وتعتبر الدين أفيون الشعوب.
في النهاية نقول: على قيادات ثورات الأمة المعاصرة أن تستفيد من تجارب أمتنا السابقة، وأن تتجنب أخطاءها، وأن تنطلق من الواقع الحضاري للأمة لا من واقع أوروبا الحضاري، فلكل حضارة مسارها، وأن تأخذ الكوني العام من الحضارة الغربية وبمقدار ما يتناسب مع شخصية أمتنا.