قراءة في كتاب القاعدة عن “إدارة التوحش”

صدر كتاب “إدارة التوحش” عن “تنظيم القاعدة”، وهو من الكتب القليلة التي صدرت عنها بالإضافة إلى كتاب “إعلام الأنام عن قيام دولة الإسلام” الذي استعرضته في مقال سابق، وقد وضح الكتاب إستراتيجية “القاعدة” منذ التسعينيات ومنهجيتها في التعامل مع الواقع المحيط بها، وهو ما زال معتمدا لدى التنظيمات التي انبثقت عن “القاعدة” مثل “داعش” وغيرها.

وقد ذكرت تقارير أن مركز مكافحة الإرهاب في كلية “ويست بوينت” الأميركية ترجمه إلى الإنكيلزية ووزعه على مسؤولين في الإدارة الأميركية، وعلى بعض الضباط في الجيش والاستخبارات الأميركييْن.

وقد رسم الكتاب مراحل العمل الجهادي فقسمها إلى ثلاث مراحل: الأولى، شوكة النكاية والإنهاك، والثانية، إدارة التوحش، والثالثة، التمكين، الذي يعني قيام الدولة الإسلامية.

وسنعتمد في تقويمنا لكتاب “إدارة التوحش” على مدى مطابقة مضمون الكتاب للحقين: الشرعي والكوني، فالحق الشرعي: دليله النقل، والحق الكوني: دليله العقل والعلم. وسينجح أي تنظيم في تغيير الواقع بمقدار صواب الحقين: الشرعي والكوني عنده، تحقيقا لقوله تعالى: “قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا”.

ولكن نعتقد أنه من الضروري أن نقف قبل تقويم الكتاب أمام دور “القاعدة” في إسقاط نظام طالبان، وهي الدولة الإسلامية التي كانت “القاعدة” أنشئت من أجل إيجاد دولة مثلها، ومن الضروري أن نتبين حجم الخطأ الذي وقعت فيه في مجال الحقين: الشرعي والكوني إزاء دولة طالبان.

من الجدير بالذكر أن طالبان أقامت دولتها في أفغانستان تحت اسم “إمارة أفغانستان الإسلامية” عام 1995، بعد أن تغلبت على كل قادة الجهاد الأفغاني وفصائله التي قادها برهان الدين رباني، وحكمتيار، وسياف… إلخ.

ثم انتقل أسامة بن لادن مع قيادات “القاعدة” من السودان إلى “دولة طالبان” لأنها “الدولة الإسلامية” التي اعتقد إسلاميتها وأنها الدولة التي يجب أن يعمل في ظلها، وبالفعل فقد بايع أميرها الملا محمد عمر، ثم أعلن ولادة جبهة إسلامية جديدة تحت اسم “الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين” في 23 فبراير/شباط 1998. كما أعلن ولادة تنظيم جديد تحت عنوان “قاعدة الجهاد”، وهذا التنظيم تم باندماج تنظيميْ “القاعدة” و”الجهاد”.

ثم قام تنظيم “القاعدة” بعمليتيْ تفجير سفارتيْ أميركا في نيروبي ودار السلام في أغسطس/آب 1998، وبتفجيرات نيويورك وواشنطن في سبتمبر/أيلول 2001، ثم طلبت أميركا من طالبان تسليمها أسامة بن لادن لأنها اعتبرته المسؤول عن تفجيرات نيويورك وواشنطن، ولما رفضت طالبان ذلك غزت أميركا أفغانستان وأسقطت نظام طالبان 2001، وكانت عمليات أسامة بن لادن سببا مباشرا في سقوط هذه الدولة الإسلامية.

ولكن قد يقال إن أميركا كانت ستُسقط نظام طالبان سواء أقام أسامة بن لادن بتفجيراته أم لم يقم، وهذا احتمال وارد ولكنه ليس أكيدا، ولكن عندما يوجد أسامة بن لادن في أفغانستان ثم يقوم بتفجيرات ضد أميركا فإنه يقوّي احتمال غزوها لأفغانستان، وكان يمكن أن نضعف هذا الاحتمال في حال قيام بن لادن بتفجيراته من خارج أفغانستان، كما فعل حزب الله عندما قام بعمليات مشابهة ضد السفارة الأميركية في بيروت مع ارتباطه الأكيد بإيران، ولكن كل قياداته تقيم خارج إيران.

وقد يسأل سائل ما الذي كان يجب أن يفعله أسامة بن لادن و”القاعدة” بعد أن بايع طالبان وأقام فيها غير ما فعله؟ أعتقد أنه كان الأوْلى به أن يدعم هذه الدولة ويشد أزرها، ويعمل على دفعها إلى بناء الشعب الأفغاني بناء إيمانيا قويا وسليما بعد أن تطهره من كل أنواع الشرك، وبناء دولته علميا واقتصاديا وعسكريا حتى تكون قادرة على الدفاع عن نفسها، وتكون قادرة على بناء قدرات الأمة الإسلامية والاستفادة منها في معركة المواجهة مع أميركا وغيرها.

ومن الواضح أن “القاعدة” وقعت في خطأين: شرعي وكوني عندما تسببت في إسقاط نظام طالبان؛ الشرعي: لأنها ساهمت في إسقاط دولة تعتقد “أدبيات القاعدة” أنها دولة إسلامية في حدها الأدنى. والكوني: لأنها خالفت آداب الجندية التي كان يجب أن يقوم بها أسامة بن لادن ومن معه من رجال القاعدة في بناء أفغانستان وطاعة أميرها، لأن الأخبار نقلت أن بن لادن قام بالتفجيرين دون أخذ موافقة قيادة طالبان.

والآن: بعد أن بيّنا الخطأين: الكوني والشرعي اللذين وقعت فيهما “القاعدة” بإسقاط نظام طالبان، سننتقل إلى استعراض بعض مباحث الكتاب وتقويمها.

ذكر كتاب “إدارة التوحش” -في بحثه التمهيدي الذي حمل عنوان “النظام الذي يدير العالم بعد حقبة سايكس/بيكو”- أن دولة الخلافة انقسمت إلى عدة دول، ثم صور الكتاب كيفية إدارة هذه الدول من قبل القطبين الكبيرين: أميركا وروسيا بعد الحرب العالمية الثانية، واعتبر أن العلاقة بين الدول العربية والدول الكبرى علاقة تبعية لتحقيق مصالح القطب (أميركا أو روسيا) الاقتصادية والعسكرية، ويبرز هذا التصور جانبا من الحقيقة وليس كل الحقيقة، ويغفل عن أن الدول الغربية عندما أزالت دولة الخلافة كانت تسعى باستعمارها للدول العربية إلى أمور سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية وتربوية… إلخ.

فكانت تسعى إلى تغريب جماهير الأمة وسلخها عن ثقافتها وشخصيتها الحضارية التاريخية، وكانت تريد أن تفرض نموذجها الحضاري في كل المجالات الحياتية، فأرادت أن تكون الدول العربية ليبرالية في ثقافتها، وتابعة لها في إدارتها السياسية، ورأسمالية في تركيبتها الاقتصادية.

وكانت الأداة الرئيسية التي استخدمتها الدول الكبرى هي الفكر القومي العربي الذي أرادت أن يحل مكان الدين الإسلامي، ليصبح الإخاء العربي عوضا عن الأخوة الإيمانية.

ولذلك لعب مفكرون بارزون (مثل ساطع الحصري رائد الفكر القومي العربي) دورا بارزا في صياغة الدولة العراقية تحت قيادة الملك فيصل عام 1920، وكذلك لعب عباس محمود العقاد وسلامة موسى وطه حسين ومحمد حسين هيكل -وغيرهم من كبار المفكرين المصريين- دورا مؤثرا في صياغة التوجهات الثقافية والسياسية والفنية للشعب المصري بعد الحرب العالمية الأولى وبعد ثورة سعد زغلول عام 1919.

لقد أغفل كتاب “إدارة التوحش” كل الحقائق السابقة، لذلك غفل عن جانب من “الحق الكوني”، وظن أن علاقة الدول العربية بالقطب الغربي هي علاقة تبعية سياسية فقط وأن الموضوع يمكن أن يحل عسكريا فقط، لكن الحقيقة كانت أعقد من ذلك وأكثر تشعبا، لذلك من الواجب أن نواجه التبعية السياسية والعسكرية مع الأمور الفكرية والثقافية والاقتصادية، لنفلح في خلخلة الوجود الأميركي وإنهائه ونحقق الاستقلال الكامل.

ثم تحدث الكتاب في مبحث آخر -حمل عنوان “وهم القوة: مركزية القوى العظمى بين القوة العسكرية الجبارة والهالة الإعلامية الكاذبة”- عن القطبين العالميين (أميركا وروسيا)، وعن “عوامل الفناء الحضاري” التي أوردها الكاتب الأميركي بول كينيدي، وعن سقوط الاتحاد السوفياتي ودور أفغانستان في ذلك السقوط.

ثم بيّن أن أميركا تداركت الأمر واستمرت في التحكم في العالم، وحدد الكتاب ثلاثة أهداف “للقاعدة” في مرحلة التسعينيات من القرن العشرين. ونحن سنستعرض اثنين منها لضيق المجال، ونبين وجه الباطل فيهما ومخالفتهما للحقين: الشرعي والكوني.

الهدف الأول: القيام بعمليات عسكرية مثل عمليات نيروبي ودار السلام عام 1998 ونيويورك وواشنطن عام 2001، والقصد منها إسقاط جزء من هيبة أميركا وبث الثقة في نفوس المسلمين، واستدراج الجيوش الأميركية إلى المنطقة.

ونحن سنناقش الجزء الأول من الهدف، ونؤجل الجزء الثاني إلى حين مناقشة الهدف الثالث لأنه يلتقي معه ويكرره.

نلحظ أن الهدف الرئيسي من القيام بعمليات عسكرية -حسب تصور “القاعدة”- مرتبط بشقيه بالبناء النفسي للمسلم، لكن ذلك لا يكون بتنفيذ عمليات عسكرية بل بالعلم الصحيح بالله وأنه الكبير، العظيم، القوي، الجبار…، وبالامتلاء القلبي بذلك العلم من خلال تعظيم الله والخضوع له والثقة به سبحانه وتعالى.

ويكون أيضا بتعميق وعي المسلم بأن أميركا دولة مأزومة لأنها امتداد لحضارة أوروبا التي قامت كرد فعل على أخطاء الكنيسة ورجال الدين، فاعتبرت أوروبا الغيوب أوهاما وآمنت بمادية الكون، واعتبرت الحقيقة نسبية وأنه ليس هناك حق مطلق.

لذلك فإن هذه الحضارة مأزومة وما زالت تستفحل فيها الأزمات والأمراض والمشاكل، وتنتقل من حفرة إلى أخرى، وأكبر دليل على ذلك هو تفكك الأسرة، وزيادة نسبة الانتحار، وتفشي المخدرات، وشيوع الفاحشة والرذيلة، وقد أقر بذلك كبار الإستراتيجيين في أميركا مثل بريجينسكي.

لقد وقعت “القاعدة” -كما رأينا من خلال تقويم الهدف الأول- في خطأين: شرعي وكوني، أما الشرعي فهو أنها جهلت كيف يمكن أن تبني الثقة في نفوس المسلمين وتسقط هيبة العدو، وأما الكوني فهو استخدام العمليات العسكرية في غير مجالها الذي يجب أن تستخدم فيه، وهو: إضعاف العدو، وتدمير قواته وقتل قياداته، وتخريب منشآته العسكرية، وتحرير أراض منه… إلخ.

الهدف الثالث: استهدفت “القاعدة” من العمليات العسكرية هدفا ثالثا هو استدراج أميركا لتحارب بنفسها في المنطقة، وتظن “القاعدة” أن أميركا تتجنب هذا بشكل نهائي، وهذا وهم تعيشه “القاعدة” فأميركا تتدخل عندما تقتضي ظروفها وسياستها ومصالحها ذلك، وربما كانت أكثر الدول تدخلا -بشكل مباشر- في شؤون الآخرين في تاريخ البشرية، وما أساطيلها المنتشرة في كل المحيطات (الهادي، والأطلسي، والبحر المتوسط، والخليج) إلا دليلا على ذلك.

وبالعكس تحرص أحيانا على أن تتدخل بجنودها وحدهم كما حدث في الحرب على أفغانستان والعراق، ومن الأرجح أنها خططت لذلك باستدراج “القاعدة” لتضرب البرجين في 11 سبتمبر/أيلول 2001 من أجل تجييش شعبها ودفعه إلى قبول التضحيات التي سيقدمها من دمائه لأن الخطر وصل إليه، ولتزج بالجنود الأميركيين في حرب مباشرة مع دولتيْ طالبان والعراق لأنها تعتقد أن إسقاطهما لن ينجح إلا بجنودها.

وللعلم فإن أميركا تدقق أحيانا في نوعية الجنود، فهي استثنت الجنود السود ذوي الأصول الأفريقية من إنزال النورماندي عام 1945 وأبقت الجنود ذوي العيون الزرق من الأصول الأوروبية، وهو الإنزال الضخم الذي حسم الحرب العالمية الثانية وانتهى بانتصار الحلفاء على ألمانيا.

ومن خلال تقويمنا للهدف الثالث وجدنا أن الكتاب وقع أيضا في باطل كوني عندما جهل كيفية اتخاذ الإدارة الأميركية لقرارها، وعاش أوهاما عند صياغته لهذا الهدف فظن أن الأصل في سياسة أميركا العسكرية هو تجنيب جنودها أية مواجهات على الأرض، في حين أن هذا الحكم باطل، وهي تستخدم جنودها عندما يستدعي الأمر ذلك وضمن حسابات معينة.

الخلاصة: اعتمدنا في تقويم كتاب “إدارة التوحش” على مدى مطابقة مضمونه للحقين: الشرعي والكوني، وتجعلنا نتائج هذا التقويم نقرر أن “القاعدة” وتفريعاتها (مثل داعش في العراق، وحركة الشباب في الصومال، والقاعدة في المغرب العربي.. إلخ) تسير إلى طريق مسدود لأنها تقوم على باطل عند مخالفتها للحقين: الشرعي والكوني في أغلب أمورها.

المقال من الجزيرة قراءة في كتاب “القاعدة” عن “إدارة التوحش”

اترك رد