استمرت الأمة الإسلامية في أداء دورها الحضاري الفاعل لأكثر من عشرة قرون في مختلف المجالات العلمية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والعسكرية الخ…، ويعود ذلك في تقديري إلى حيوية الفرد وفاعلية الجماعة.
لقد جاءت حيوية الفرد المسلم في تقديري من البناء النفسي الذي بناه الإيمان والإسلام في داخل الفرد المسلم، وإذا اعتبرنا أنّ أركان الإيمان هي:
الإيمان بالله، والملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقضاء والقدر.
فإنّ الإيمان بأنّ الله خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والليل والنهار يجعل المسلم يُعظّم الله لأنه خلق مخلوقات عظيمة، ويجعله يحب الله لأنه أنعم عليه بنِعَم كثيرة، منها:
ويرجو الله أن تستمر نِعَمه الكثيرة عليه: كالسمع، والبصر، والطعام، والشراب الخ…، ويثق بالله لأنه يرى الكوْن المُنظّم، والحركة الدقيقة لكل آياته : الليل، والنهار، والشمس، والقمر الخ…
أما الإيمان بالملائكة فإنه يبني في نفس المؤمن تعظيم الله لأنه خلق مخلوقات عظيمة في قدرتها وتأثيرها ومهماتها، ويبني حب الملائكة لأنها تُبشّر المؤمنين وتستغفر لهم وتحفظهم.
أما الإيمان بالكتب والرسل فإنه يبني في نفس المسلم تعظيم الله لأنه أنزل الكتب وأرسل الرسل الذين هدوا الناس إلى الخير في الدنيا والآخرة ، ويبني الثقة في الله لأنه نصر الأنبياء وأهلك الكافرين، ويبني الإحساس بالانتماء إلى الأنبياء رهط الخير والصلاح على مدار التاريخ ، وينفي الإحساس بالغربة الذي يُواجهه الداعية عندما يُخالف قومه في بعض سلوكهم وتصرّفاتهم.
أما الإيمان باليوم الآخر فإنه يبني في نفس المسلم الخوف من نار الله وعذابه، ويبني الرجاء في نعيم الله وجنّته.
أما أركان الإسلام فإنّ لكل ركن دوراً في تغذية البناء النفسي للمسلم ويمكن أن نمثّل على ذلك بالصلاة والزكاة
فالصلاة تبني تعظيم الله لأن المسلم يقف فيها بين يدي ربّه ذليلاً ضعيفاً خاشعاً سائلاً، وتبني الخضوع لله لأنه يَمْتَثِل أمر ربّه في الركوع والسجود، وتبني حبّه -تعالى- لأنه يتذكّر فيها نِعَم الله الكثيرة التي أنعمها عليه فيَحْمَدُه -تعالى- ، وتبني الرجاء حيث يسأل الله الجنّة’، وتبني الخوف حيث يسأل الله أن يُجنّبه النار .
أما الزكاة فإنها تبني في نفس المسلم الخضوع لله لأنه يَمْتَثِل أمر الله ويخرج جُزْءاً من ماله طاعة لله، وتبني تعظيمه لأنه يتخلّى عن شيء يُحبّه وهو المال من أجل محبوب أعظم وهو الله، وتبني الخوف من الله لأنه يُخرجها خوفاً من عِقاب الله يوم القيامة، وتبني الرجاء في الله لأنه يرجو المَثوبَة في الجنّة على إخراجها، وتبني الثقة في الله لأنه يعتقد بأنّ الله سيُخْلِفه عِوَضاً عنها.
إنّ هذا البناء النفسي الغني هو الذي أوصل المسلمين إلى افراز مؤسسة ضخمة كان لها أثر عظيم في حياة المسلمين هي مؤسسة الوَقْف، ولولا هذا البناء النفسي الغني الذي ستكون إحدى تجلّياته العطاء والتصدّق بالمال والأملاك والبساتين والبيوت تعظيماً لله وخضوعاً له وحبّاً له أكثر من كل محبوبات الدنيا ورجاء الجنّة في الآخرة وخوف عقاب الله لما أمكن وجود هذه الأوقاف الكثيرة والتي ملأت مختلف مناحي حياة المسلمين.
أول وقف خيري عُرِف في الإسلام هو وقف النبي لسبع بساتين بالمدينة كانت لرجل يهودي إسمه مُخَيْريق قُتِل في غزوة أُحُد، وأوصى: إن قُتلت فأموالي لمحمّد يضعها حيث أراه الله.
فقُتِل يوم أُحُد – وهو على يهوديته – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “مخيريق خير اليهود”، وقَبَض النبي تلك الحوائط السبعة وأوقفها.
وقد أوقف الصحابة بعد ذلك، فأوقف عمر رضي الله عنه أرضاً أصابها من أرض خَيْبَر ، وأوقف عثمان رضي الله عنه بئر رومة ، وأوقف أبو طَلْحَة رضي الله عنه بستان بَيْرَحاء.
ثم أوقفت الأمّة ثروة طائلة في الأوقاف بلغت ثُلث ثروة العالم الإسلامي ساهمت في تنمية مختللف مجالات الحياة الإسلامية التعليمية والصحية والاقتصادية والاجتماعية الخ . . .
ففي مجال التعليم ساهمت الأوقاف في تنمية التعليم والدراسة، سواء في داخل المساجد أو المدارس المنفصلة، وراعت الأعمال الوقفية التنمية من مرحلة الطفولة إلى المراحل الدراسية العُليا المتخصّصة، إذ إنّ أغلب فقهاء المسلمين وعلماء دينهم تخرّجوا من مدارس هيّأتها لهم أوقاف المسلمين.
وكانت هناك مدارس تقوم مقام الجامعات تُدرّس فيها جميع المذاهب الإسلامية إضافة إلى العلوم العقلية والطب وغيرها من العلوم، ومن هذه المدارس المدرسة الصالحية والمدرسة الظاهرية والمدرسة السعودية بمصر، والمدرسة الصلاحية بحلب، والمدرسة الغِياثية بمكة المكرمة، والمدارس الأربعة بمكة المكرمة التي كانت تُدرّس المذاهب الأربعة.
وقد تحدّث ابن خلدون عما شاهده في القاهرة من نشاط علمي، وأعاد الفضل في ذلك إلى الأوقاف، وقد أدّى كل ذلك أن تكون القاهرة متعة المتعلّمين، حيث يجد كل طالب علم حاجته من التعليم المجّاني والمادّي والطعام والراتب.
ومما يتبع المعاهد العلمية المكتبات، فقد أوقف المسلمون أموالاً لإيقاف الكُتُب وإنشاء خزائن لها، كما خصّصت أموال لإدارتها، وعُيّن لإدارة كل مكتبة خزّان وقوّام يقومان بالمحافظة على الكتب وصِيانتها.
وكانت ترتبط المراصد الفلكية بالمكتبات الموقوفة، وقد ساهمت المراصد الفلكية في نشر العديد من الرسائل المتعلّقة بعلم الفلك.
وقد أوقف المسلمون دُوَراً وأراضي لصالح علاج المرضى، كما أوقفوا الأوقاف الواسعة على إنشاء المستشفيات، كما أوقفوا بسخاء على تطوير علوم الطب والصيدلة والتمريض والعلوم الأخرى المرتبطة بالطب، وتعدّى الوقف الإنسان إلى الحيوان، فكانت العناية بالحيوانات وصحّتها أحد مجالات اهتمامات المسلمين وإيقافهم.
وقد ساهمت الأوقاف في تحقيق التنمية الاقتصادية للمجتمع الإسلامي، وذلك بما تُمثّله من رأس مال عيني ونقدي، وبما تتميّز به من وجوب البقاء والاستثمار ودوام النفع للمجتمع.
وهناك ألوان عجيبة من الأوقاف تدل على الرقي الاجتماعي الذي بلغته الأمة الإسلامية، ومنها:
لقد دعا الرسول أهل مكة والعرب إلى الإسلام، لكنه كان واضحاً منذ اللحظة الأولى أنّ دعوة الإسلام مُوجّهة إلى البشرية جميعاً، فقال الله مُخاطباً الرسول:
(وما أرْسَلناكَ إلا رحمةً للعالمينَ) (الأنبياء:107).
وأخبر الله عن القرآن الكريم بأنه ذِكْر للعالمين ، فقال تعالى:
( إنْ هو إلا ذِكْرٌ للعالمينَ ) (ص:87).
وقال الله عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
(قًلْ يا أيًّها النَّاسُ إنّي رسولُ اللهِ إليكُم جميعاً) (الأعراف:158).
لذلك انطلقت الدعوة الإسلامية بعد أن رسّخت قواعدها في الجزيرة العربية إلى بلاد الشام والعراق وفارس ومصر، وقد استهدف الإسلام إقامة أُمّة إسلامية من جميع الأجناس على أساس التعارف بينها تحقيقاً لقوله تعالى:
(يا أيُّها النَّاسُ إنّا خلقناكُم مِن ذَكَرٍ وأُنْثى وجعلناكُم شُعوباً وقبائِلَ لتَعارَفوا إنَّ أَكْرَمَكُم عندَ اللهِ أَتْقاكُم إنَّ اللهَ عليمٌ خبيرٌ) (الحُجُرات:13).
وقد نجح الإسلام فيما فشل فيه الاسكندر المقدوني الذي قصد أن يمزج بين العِرْقين الفارسي واليوناني عندما أقام حفلة الزواج الضخمة له ولضباطه في بابل قُبيل وفاته على كريمة كِسرى أنو شروان وكريمات أشراف المجتمع الفارسي من أجل خلق حضارة عالمية ومجتمع عالمي.
لقد نجح الإسلام في تكوين أمة إسلامية من أعراق وأجناس متعدّدة لأنه نجح في صهرها في بوْتقة ثقافية واحدة تقوم على حقائق القرآن والسنة، وقواعد التوحيد، وحب الفضيلة، والحرص على التطهّر، وتقدير العلم والعلماء، والتطلع إلى الآخرة الخ…
إنّ هذه الأمة كانت ذات فاعلية جماعية تجلّت في تصدي شُعوبها المختلفة للأعداء، فقد تصدى عماد الدين الزِّنْكي ذو الأصل التُرْكُماني مع قومه للهجمات الصليبية واستطاع أن يُحقّق أول نصر على الصليبيّين ويكسر شوكتهم.
ثم جاء بعده صلاح الدين الأيُّوبي ذو الأصل الكُرْدي الذي أَجْهَزَ على الصليبيّين في موقعة حِطِّين، ثم تصدّى قُطُز والظاهِر بيبرس مع المماليك ذوي الأجناس المختلفة وأوقفوا المغول في معركة عين جالوت.
وقد تصدّى العثمانيّون الأتراك للدولة البيزَنْطِيَّة فاحتلّوا عاصمتهم القُسْطَنْطينِيَّة في عام 1453م ثم نشروا الإسلام في أوروبّا، وقد نشر البربر الإسلام في أفريقيا الغربية.
إذن ساهمت شُعوب متعدّدة في الدفاع عن الأمة الإسلامية، وفي بناء صرحها الحضاري، وتفسّر لنا هذه الفاعلية الجماعية قُدرة الأمة على أداء دورها الحضاري على مسرح التاريخ رغم كل الصعوبات التي واجهتها.
الآن نستطيع أن نجيب على السؤال الذي طرحناه في بداية المقال عن:
تكونت حيوية الفرد نتيجة الاغتناء النفسي الذي بناه الإيمان والإسلام في الفرد المسلم، وتجسّدت في مؤسسة الوقف التي ساهمت في تنمية المجتمع في مختلف المجالات.
جاءت الفاعلية الجماعية نتيجة صهر للأجناس والشعوب في بوْتقة ثقافية واحدة، وتجسّدت في قيام أُسر وشعوب متعدّدة في التصدي لأعداء الإسلام وترسيخ كيان الإسلام الحضاري في الأرض.
Lorem Ipsum