إنّ تلبية مطالب الفطرة أحد العوامل الرئيسية في نشوء الحضارات وحيويتها واستمراريتها، وإنّ عدم تلبية مطالب الفطرة أحد العوامل الرئيسية في أزمة الحضارة وتعثرها ودمارها، ويمكن أن نمثل بالحضارة الإسلامية على النموذج الذي يلبّي مطالب الفطرة ويحققها، ويمكن أن نمثل بحضارة أوروبا في العصور الوسطى قديماً وبالاتحاد السوفييتي حديثاً على النموذج الذي لا يلبّي مطالب الفطرة في بعض جوانبها، فيتأزم المجتمع، ويتعثّر، ويقوده ذلك إلى الانفجار وإلى التغيير الجذري في مختلف النواحي، وهذا ما سنجتهد في توضيحه، ثم سنتطرّق إلى الحضارة الغربية في القرن الحادي والعشرين، وسنجتهد في استكشاف مدى تلبيتها لمطالب الفطرة، وسنبرز العوامل التي تخالف الفطرة الكامنة فيها.
الحضارة الإسلامية كنموذج محقّق للفطرة:
جاء الإسلام ملبّياً للفطرة فقال I: ]فأَقِمْ وَجْهَكَ للدِّينِ حَنيفاً فِطْرَةَ اللهِ التي فَطَرَ الناسَ عليها لا تبديلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلك الدِّينُ القَيِّمُ ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمونَ[ (الروم،30)، وزّكى القرآن الكريم ملة إبراهيم u التي هي صورة من صور اتباع الفطرة، قال I: ]ومَن يَرْغَبُ عن مِلَّةِ إبراهيمَ إلاّ مَن سَفِهَ نفسَهُ ولقدِ اصْطَفَيْناهُ في الدنيا وإنّهُ في الآخرةِ لَمِنَ الصالحينَ. إذْ قال لهُ ربُّهُ أَسْلِمْ قال أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمينَ[ (البقرة،130-131)، وقال I: ]ومَنْ أحسنُ دِيناً مِمَّنْ أسلمَ وجهَهُ للهِ وهو مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيمَ حَنيفاً واتَّخَذَ اللهُ إبراهيمَ خَليلاً[ (النساء، 125)، لذلك جاء أمر الله إلى الرسول r باتباع ملة إبراهيم فقال I: ]ثمّ أوحينا إليكَ أَنِ اتَّبِعْ مَلَّةَ إبراهيمَ حنيفاً وما كان مِنَ المشركين[ (النحل،123)، وإنّ المتفحص في الآيات والأحاديث يجد أنّ أبرز مظاهر الفطرة التي أشار إليها الإسلام هي: التدين، والتعلم، والشهوات المتمثلة بالنساء والأموال والزرع إلخ… أما التدين فقد عبّر القرآن الكريم عن فطريته بأنّ الإنسان عرف ربّه وهو في عالم الذر وهو في ظهر آدم وأولاده قال I: ]وإذْ أخذَ ربُّكَ مِن بَني آدمَ مِن ظُهورِهِم ذُرِّيَتَهُم وأّشْهَدَهُم على أنفُسِهِم أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قالوا بَلَى ، شَهِدْنا ، أَن تقولوا يومَ القيامةِ إنّا كُنّا عن هذا غافِلينَ[ (الأعراف،172)، وقد وصفت الأحاديث الشريفة التوحيد بأنه الفطرة، فقال الرسول r: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يُهوّدانه أو يُمجّسانه أو يُنصّرانه” (رواه مسلم)، أما التعلّم فقد أشار القرآن الكريم إلى أنه كان السبب الرئيسي لتفضيل آدم u على الملائكة في اختياره للخلافة، وذلك بعد اعتراضهم على استخلافه بأنه يفسد ويسفك الدماء، وقد بيّن القرآن بأنّ ميزة آدم عليهم هي قدرته على التعلم وحفظ الأسماء وعجز الملائكة عن ذلك، وقد أقرت الملائكة بذلك بعد تحديهم بأن ينبئوا الله بتلك الأسماء وقد عرضت سورة البقرة كل ذلك فقال I: ]وإذْ قال ربُّكَ للملائكةِ إنّي جاعِلٌ في الأرضِ خليفةً قالوا أتجعلُ فيها مَن يُفْسِدُ فيها ويسْفِكُ الدماءَ ونحنُ نُسَبِّحُ بِحمدِكَ ونُقّدِّسُ لكَ قالَ إنّي أعلَمُ ما لا تعلمونَ . وعلّمَ آدمَ الأسماءَ كلها ثم عَرَضَهُم على الملائكةِ فقال أنبِئوني بأسماءِ هؤلاءِ إن كنتم صادقينَ . قالوا سبحانكَ لا علمَ لنا إلاّ ما علَّمْتَنا إنّكَ أنتَ العليمُ الحكيمُ . قال يا آدمُ أنبِئْهُم بأسمائِهِم فلمّا أنبَأَهُم بأسمائهم قال أَلَمْ أَقُلْ لكم إنّي أعلمُ غيبَ السماواتِ والأرضِ وأعلمُ ما تُبْدونَ وما كنتم تكتمونَ[ (البقرة،30-33)، أما الشهوات فهي من الفطرة وهي كثيرة منها: حب المال والذهب والفضة والثمار والزروع إلخ. . . ومنها الحب المتبادل بين الذكر والأنثى، ومنها حب الآباء والأبناء والأوطان والمساكن إلخ. . . فقد تحدثت عنها كثير من الآيات والأحاديث فقال I: ]زُيِّنَ للناسِ حُبُّ الشهواتِ مِنَ النساءِ والبنينَ والقناطيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذهبِ والفضَّةِ والخيلِ المُسَوَّمَةِ والأنعامِ والحرثِ ذلك مَتاعُ الحياةِ الدنيا واللهُ عندَهُ حُسْنُ المآبِ[ (آل عمران،14)، وقال I: ]وتأكُلونَ التُراثَ أكلاً لَمّاً . وتُحِبّونَ المالَ حُبّاً جَمّاً[ (الفجر،19-20)، وقال I: ]قُلْ إن كان آباؤكُم وأبناؤكُم وإخوانُكُم وأزواجُكم وعشيرَتُكُم وأموالٌ اقْتَرَفْتُموها وتِجارَةٌ تخشونَ كَسادَها ومساكِنُ تَرْضَوْنها أَحَبَّ إليكم مِنَ اللهِ ورسولِهِ وجهادٍ في سبيلِهِ فَتَرَبَّصوا حتى يأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ واللهُ لا يهدي القومَ الفاسقينَ[ (التوبة،24).
وقد وضع الإسلام البرامج التي تحقق عناصر الفطرة وتلبي نوازعها، ففي مجال التدين بيّنت آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة صفات الله التي استحق من أجلها العبادة I كالعلم والقدرة والحكمة والخبرة إلخ. . . وأوجبت التوحيد وحرّمت الشرك، وفصّلت أمور العبادة كالصلاة والصيام والحج إلخ. . . ووعدت المسلم الذي يؤدي عباداته بالثواب الجزيل، وأوعدت المسلم الذي يعصي ربه بالعذاب الشديد، ووضحت أمور الغيب كالجنة والنار والملائكة والشياطين، ورغّبت بالجنة وخوفت من النار إلخ. . .
وفي مجال التعلم حث الإسلام على التفكير والتدبر، وامتدح ذوي الألباب والعقول، واحترم العلماء واعتبرهم ورثة الأنبياء، وحرّم الخمر وأوجب لها الحدّ لأنها تذهب بالعقل، ويكفي للتدليل على أهمية فطرة التعلّم في الإسلام إلى أنّ أول أمر أنزل إلى الرسول r هو الأمر بالقراءة التي هي بداية التعلم حيث قال له جبريل في غار حراء في أول لقاء بينهما “اقرأ” ثلاث مرات، ثم كانت أول آية في القرآن الكريم قوله I: ]اقْرَأْ بِاسْمِ ربِّكَ الذي خلقَ. خلقَ الإنسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وربُّكَ الأَكْرَمُ. الذي عَلَّمَ بِالقلمِ. عَلَّمَ الإنسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ[ (القلم،1-5).
وفي مجال الشهوات أباح الإسلام الزواج وحض عليه، وأباح اقتناء الأموال وأباح التجارة والصناعة، وأباح امتلاك عروض التجارة والمساكن والزروع والثمار إلخ.. وقد أصدر التشريعات التي تضبط ذلك وتحدّد حلاله وحرامه وصوره، والأهم من ذلك أنّ الإسلام اعتبر قضاء تلك الشهوات جميعها عبادة فقال رسول الله r مخاطباً الصحابة: “في بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إن وضعها في الحلال كان له فيها أجر” وقال r: “إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فليغرسها فإنّ له بها أجراً”.
ومن مظاهر تلبية الفطرة أنّ تكاليف الإسلام جاءت حسب الوسع فقال I:
]لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاّ وُسْعَها[ (البقرة،286)، وقال I: ]فاتَّقوا اللهَ ما اسْتَطَعْتُم[ (التغابن،16)، وقد جاءت الفروض بالحد الأدنى الذي هو في وسع كل إنسان، فكانت الصلاة المفروضة خمس صلوات، وكانت الزكاة ربع العشر من المال، لكن الحد الأعلى مفتوح بحسب إرادة المسلم ورغبته، فهناك السنن المؤكدة وغير المؤكدة لكل صلاة، وهناك قيام الليل، وهناك صلاة الضحى، وسنّة الوضوء إلخ. . . وهناك تصدّقُ المسلم الذي يمكن أن يصل إلى ثلث ماله. ومما يشير إلى مراعاة الإسلام للفطرة وجود الرخص كرخصة التيمم وقصر الصلاة من أجل رفع الحرج عن الأمة، قال I: ]وما جعلَ عليكم في الدينِ مِنْ حَرَجْ مِلَّةَ أبيكُم إبراهيمَ هو سَمّاكُمُ المسلمينَ مِن قبلُ[ (الحج،78).
وقد أشار علماء الأصول وأبرزهم الشاطبي إلى أنّ استقراء جميع آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة تبيّن أنّ جميع الأنبياء والرسالات جاءت لتحقيق خمسة أمور هي: حفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ المال، وسمّاها الضروريات واعتبر أنّ بقية أمور الدين تدور حول تلك الضروريات وسمّاها: الحاجيات والكماليات، وإذا تأملنا الضروريات الخمس التي اعتبرها الشاطبي مقاصد الشريعة والتي جاءت الرسالات لحفظها وتحقيقها نجد أنها مطابقة لأمور الفطرة التي تتطلبها النفس البشرية وهي: التدين والتعلم والشهوات إلخ. . .
والآن: بعد أن بيّنا كيفية تحقيق الحضارة الإسلامية لمطالب الفطرة سننتقل إلى تقديم نموذجين حضاريين عن عدم تلبية مطالب الفطرة أوّلهما: أوروبا في العصور الوسطى، وثانيهما: الاتحاد السوفييتي في القرن العشرين.
أوّلاً: أوروبا في العصور الوسطى:
لعبت الكنيسة دوراً مميزاً في أوروبا في العصور الوسطى، وكانت مبادئها وتعليماتها ذات دور فاعل فيها، وأبرز مبادئها التي ناقضت الفطرة فيها مبدآن:
الأول: القول بثنائية المقدّس والمدنّس، فاعتبرت الشهوات والجسد والمرأة والدنيا أموراً مدنّسة يجب الترفّع والابتعاد عنها، واعتبرت كل ما يتصل بالله والروح والآخرة مقدّساً يجب التوجّه إليه والحرص عليه والقيام به، واعتبرت الرهبنة هي الجسر الذي يجب أن يسير عليه المسيحي من أجل أن ينتقل من المدنّس إلى المقدّس، واعتبرت تعذيب الجسد وقتل الشهوات هو الطريق الذي يجب أن يمشي عليه المسيحي من أجل أن يحرّر جسده، لذلك ازدهرت الأديرة التي ترعى الرهبان الذين يتركون عالم الدنيا، وازدهرت الممارسات التي تعذّب الجسد من أجل الخلاص الروحي، كحمل الأثقال، والجوع، واعتزال الناس.
الثاني: القول بأنّ الله عاقب آدم فأخرجه من الجنّة لأنه أكل من شجرة المعرفة، وولّد هذا الموقف بذرة العداء للعلم، واستُكمل العداء عندما حكمت الكنيسة على بعض علماء أوروبا بالهرطقة والزندقة والموت عندما قالوا ببعض الحقائق العلمية ككروية الأرض، وبأنّ الأرض تدور حول الشمس إلخ…
إنّ هذين المبدأين المناقضين للفطرة ولّدا أزمة في المجتمع الأوروبي، مما دفع الجماهير إلى الثورة على الكنيسة، والتمرّد على أقوالها وتعاليمها، ووضع القيود على رجال الدين فيها، وإبعادهم عن كل شؤون المجتمع والحياة، وحصر دورهم في شؤون العبادة وحدها.
ثانياً: الاتحاد السوفييتي في القرن العشرين:
أما الاتحاد السوفييتي الذي طبق النظرية الماركسية فقد أقر الإلحاد وأنكر وجود إله ونظر إلى الإنسان نظرة مادية بحتة وهذا مخالف لفطرة الإنسان التي تقوم على التدين والتوجه إلى عبادة إله، فقد عرفت كل المجتمعات البشرية التدين والعبادة وأماكن العبادة، والأرجح أنّ الاتحاد السوفييتي كان أول دولة رعت الإلحاد بشكل رسمي، وصادم الاتحاد السوفييتي -أيضاً- غريزة حب التملك عند الإنسان، واعتبرها مكتسبة وليست فطرية، لذلك انتزع ستالين من الفلاحين مواشيهم ومزارعهم وأراضيهم وحوّلها إلى ملكية جماعية تطبيقاً للشيوعية التي تنكر غريزة حب التملك، لكن الفلاحين ثاروا عند انتزاع أملاكهم ما أدى إلى المواجهة بينهم وبين السلطة السوفياتية ومقتل 12 مليون شخصاً، مما اضطر قيادة الاتحاد السوفييتي إلى التراجع عن قانونها والإقرار بنوع من الملكية الصغيرة في دستور هذه المرحلة التي هي المرحلة الاشتراكية على أن يعقب ذلك إلغاؤها في المرحلة الشيوعية التي ستجعل كل شيء مشاعاً في المجتمع، وستجعل كل شيء ملكاً للجميع وذلك بعد انتهاء الصراع الطبقي حسب طروحاتها النظرية، ومن أغرب مواقف القيادة السوفييتية أنها عادت علم النفس (الفرويدي) لأنه اعترف بغريزة حب التملك عند الإنسان واعتبرها فطرية، وأوجدت علم نفس خاص بها يقوم على تجاهل غريزة حب التملك وإنكار فطريتها في النفس البشرية.
لا شك أنّ سقوط الاتحاد السوفييتي ساهمت فيه عدة عوامل داخلية وخارجية ولم يكن نتيجة عامل واحد، لكن من المؤكد في الوقت نفسه أنّ تصادم الاتحاد السوفييتي مع بعض عوامل الفطرة كان أحد أهم العوامل في سقوطه وعدم استمرارية وجوده.
عوامل معاداة الفطرة في الحضارة الغربية:
والآن: ما هو الوضع في الحضارة الغربية في القرن الحادي والعشرين؟ هل استفادت من أزماتها السابقة التي عاشتها في القرون الوسطى فصحّحت الاتجاه أم أنّ هناك عوامل تعادي الفطرة تولّدت في كيانها؟ قبل الإجابة على السؤال السابق علينا أن نستعرض مسار الحضارة الغربية بعد الانفجار الذي شهدته في العصور الوسطى، فكيف سارت الأمور؟
لقد بقيت ثنائية المدنّس والمقدّس تحكم المجتمع الغربي، لكن بعد أن تحوّل المدنّس إلى مقدّس، والمقدّس إلى مدنّس، فأصبحت الشهوات والمرأة والدنيا مقدّسة في الحضارة الغربية المعاصرة بعد أن كانت مدنّسة في العصور الوسطى وأصبح المقدّس وهو الله والملائكة والآخرة والغيب والوحي محلّ شكّ واتهام وإقصاء بعد أن كان محلّ يقين وتقديم واحترام، لقد انتقلت الحضارة الغربية من نقيض إلى نقيض، لكنها لم تنفلت من عقال معاداة الفطرة.
أمّا بالنسبة للمبدأ الثاني وهو تصادم الكنيسة مع العلم ثم الانتهاء إلى تأليه العقل، فإنّ هذا التأليه لم يقدها إلى اليقين، بل أصبحت نسبيّة الحقيقة هي الأصل الكبير الذي تقوم عليه الحضارة الغربية في كل المجالات: الإنسانية والاجتماعية والتربوية والخُلُقية إلخ…
لقد انتهت الحضارة الغربية إلى أمرين: تقديس الشهوات المادية من جهة، ونسبية الحقيقة من جهة ثانية، وهما أمران مناقضان للفطرة، لأنّ تقديس الشهوات يعني استهلاك الإنسان في الشهوات، ويعني أنه لم تعد لديه فضلة من طاقة وجهد لبناء الحضارة، وذلك لأنّ الحضارة تقوم -كما قال توينبي- على الفضلة التي يوفّرها الإنسان من ضبطه لشهواته، أمّا نسبيّة الحقيقة فتعني أنه ليس هناك شيء ثابت، وأنه ليس هناك غرض ولا هدف ولا غاية من الوجود الإنساني، وأنه ليس هناك مطلقات، وأنّ كل شيء نسبي، وأنّ المادة هي التي تتحكّم في كل شيء، وأنّ كل شيء يردّ إلى المادة، وأنّ العلم والجنس والصناعة والزراعة إلخ… تستمدّ معياريّتها من ذاتها وليس من أيّ معيار أو قيمة من خارجها.
الخلاصة: نعود إلى السؤال الذي طرحناه وهو هل هناك عوامل معادية للفطرة في الحضارة الغربية المعاصرة؟ نقول: إنّ الحضارة الغربية تملك عناصر متعدّدة تناقض الفطرة وأبرزها تقديس الشهوات من جهة، ونسبيّة الحقيقة من جهة ثانية، أمّا تقديس الشهوات فهذا يعني استهلاك الإنسان، وأمّا نسبيّة الحقيقة فهذا يعني أنه ليس هناك معظّم ولا ثابت، وهذا منافٍ لأصل من أصول الفطرة، لأنّ الفطرة تحتاج إلى معظّم وثابت تعضده وتعظّمه وتدور حوله.
في النهاية: إنّ وعي العلاقة بين الفطرة والحضارة أمر مهم في توجّه أمّتنا لبناء ذاتها، لتبتعد عن عناصر التفجير في الحضارة الغربية، فليس كل ما في الحضارة الغربية ثواباً وخيراً وسليماً كما يدّعي أصحاب الحداثة، بل فيها ما هو خطأ وشرّ وأعوج علينا أن نتجنّبه، ونبتعد عنه في حال بنائنا لشخصيّتنا الحضارية، وأبرز الخطأ والشرّ والاعوجاج هو امتلاكها لعناصر معادية للفطرة ستعمل على نخر جسمها وإضعاف قوّتها.