حوار مع مجلة البيان بعنوان “علماء الأمّة ودورهم في نصرة القضية الفلسطينية”
س1: لماذا ينبغي على العلماء الاهتمام بالقضية الفلسطينية؟
ج1: تتشابه القضية الفلسطينية مع قضايا الأمّة الأخرى من مثل قضية كشمير وأرتيريا والفلبين والبوسنة إلخ… بأنها قضية محاولة اغتصاب أرض إسلامية، وتشريد شعب واستئصال وجوده، لكنها تختلف عن كل القضايا بأنها ترتبط بعدد كبير من المقدّسات الإسلامية، وهذا الارتباط يوجب على علماء الأمّة الاهتمام بها، أمّا أبرز المقدّسات المرتبطة بالقضية الفلسطينية، هي:
أ – المسجد الأقصى:
بيّن القرآن الكريم أنّ المسجد الحرام كان أول بيت وضع للناس، قال تعالى: “إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين” (آل عمران،96)، ثم بيّن الحديث الشريف أنّ المسجد الأقصى بُني بعد ذلك بأربعين سنة، فقد جاء عن أبي ذر قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع للناس أولاً؟ قال: “المسجد الحرام”، قلت: ثم أي؟ قال: “المسجد الأقصى”، قلت: كم بينهما؟ قال: “أربعون سنة”. (أخرجه البخاري).
ب- قِبلة المسلمين الأولى:
صلّى المسلمين في بداية الهجرة باتجاه المسجد الأقصى، وكان قبلتهم الأولى، قبل أن يأمرهم الله بالتحوّل إلى المسجد الحرام، قال تعالى: “قد نرى تقلّب وجهك في السماء فلنولّينّك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره وإنّ الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون” (البقرة،144). وقد نقلت الأحاديث وكتب السيرة أنّ المسلمين صلّوا ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً إلى الأقصى قبل أن يأتي الأمر بتحويل قبلتهم إلى المسجد الحرام.
ج- مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم ومعراجه:
أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من مكّة إلى القدس، وبالذات من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم صلّى بالأنبياء جميعاً في الأقصى المبارك، ثم عرج جبريل -عليه السلام- به إلى السماء، وهناك كلّم محمد صلى الله عليه وسلم ربّه، فقال تعالى عن الإسراء: “سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير” (الإسراء،1)، وتحدّثت سورة النجم عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل -عليه السلام- عند سدرة المنتهى فقال تعالى: “ولقد رآه نزلة أخرى . عند سدرة المنتهى . عندها جنّة المأوى . إذ يغشى السدرة ما يغشى . ما زاغ البصر وما طغى . لقد رأى من آيات ربه الكبرى” (النجم،13-18).
ح – أرض الأنبياء:
لقد عاش معظم الأنبياء الذين تحدّث عنهم القرآن الكريم في فلسطين، فعاش ابراهيم -عليه السلام- في الخليل، وعاش ولداه إسحاق ويعقوب -عليهما السلام- في فلسطين، ثم انتقل يعقوب وعاش مع ابنه يوسف -عليهما السلام- في مصر، ثم هاجر موسى -عليه السلام- ببني اسرائيل من مصر إلى فلسطين، ثم وُلد عيسى -عليه السلام- في بيت لحم، ونشأ في الناصرة، وتنقّل بين القدس وطبريا وبقيّة مدن فلسطين وقراها.
س2: كيف يمكن استنهاض هِمَم العلماء تجاه القضية الفلسطينية؟
ج2: يمكن استنهاض همم العلماء تجاه القضية الفلسطينية من خلال تذكيرهم بواجبهم نحو أخطر قضية تهدد الوجود الإسلامي، فقد اجتمع فيها المكر اليهودي مع الإمكانات الصليبية، وهما لم يجتمعا في أيّة قضية أخرى، فمن الواضح أنّ اليهود لعبوا دوراً قيادياً ريادياً في الحضارة الغربية الموجودة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتجسّد هذا الدور في أمور فكرية وسياسية ومالية وثقافية وفنّية إلخ…
ثم استثمروا هذا الدور في توجيه أوروبا على مساعدتهم في إقامة دولتهم في فلسطين، فحصلوا على وعد بلفور عام 1917، ثم أسقطوا الخلافة العثمانية من خلال التعاون مع الإنجليز، ومن خلال إيجاد التناحر بين أهم عرقين تقوم عليهما الخلافة العثمانية وهما العرب والأتراك، فأوجد الإنجليز أحزاباً قومية عربية، وأحزاباً قومية تركية، وقامت الأحزاب القومية العربية بالثورة ضدّ الخلافة العثمانية فأشعلت الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين الذي وقّع اتفاقية مع المندوب البريطاني مكماهون في القاهرة من أجل إقامة عروش هاشمية في بلاد الشام، لكنّ الإنجليز كانوا قد اتفقوا مع الفرنسيين على اقتسام المنطقة من خلال اتفاقية سايكس بيكو، وفي النهاية وضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني الذي سخّر كل إمكاناته من أجل تسهيل دخول اليهود المهجّرين من أوروبا إلى فلسطين، وساعدهم في الاستيلاء على أراضي الدولة والأوقاف، وعلى بناء كيانهم الاقتصادي والمالي والعسكري والسياسي إلخ… ثم ساعدهم على قيام دولة اسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية، وتحكم اسرائيل التي قامت في 15 مايو 1948 نظريتان:
الأولى: إيجاد اسرائيل الكبرى، ويكون ذلك بالتوسّع الاستيطاني في الشرق والغرب حتى يتحقّق الحلم الصهيوني وتتمدّد دولة اسرائيل من الفرات إلى النيل.
الثانية: اسرائيل العظمى، ويكون ذلك بإيجاد قوة عسكرية واقتصادية وتكنولوجية تكون لها السيادة الأولى في المنطقة المحيطة بها، وبالذات في كل دول الشرق الأوسط.
لذلك فإنّ اسرائيل تسعى من أجل تحقيق هاتين النظريتين على تفتيت العالم العربي والعالم الإسلامي إلى كل ما هو ممكن من الإثنيات العِرقية والمذهبية، ويمكن أن نتلمّس لها دوراً في كل الحركات السياسية والعِرقية والمذهبية التي قامت من أجل الانفصال عن الدولة الأمّ في القرن العشرين، بدءاً من كردستان ومروراً بكشمير وانتهاء بجنوب السودان ودارفور، كما تسعى اسرائيل إلى إضعاف العالم العربي والإسلامي اقتصادياً، كما تسعى إلى عدم امتلاكه أيّة قوة نووية حقيقية تضاهي القوة التي تمتلكها اسرائيل، وهذا ما يفسّر جانباً من محاربتها لمحاولة باكستان امتلاك القنبلة النووية.
كذلك تسعى اسرائيل إلى تحقيق إحدى هاتين النظريتين من خلال إقامة الحروب المستمرّة على دول المنطقة بشكل مباشر وبشكل غير مباشر، ومن أمثلة الحروب المباشرة حرب السويس عام 1956، وحرب الأيام الستة عام 1967، وحرب 82 على لبنان إلخ…، ومن أمثلة الحروب غير المباشرة احتلال أفغانستان عام 2001, والعراق عام 2003 من قِبَل القوات الأمريكية والتي قام بها المحافظون الجدد والتي كانت أحد أهم أهدافها الرئيسية خدمة اسرائيل وتدعيم الوجود الاسرائيلي في المنطقة بالإضافة إلى بعض الأهداف الأخرى من مثل السيطرة على البترول.
إذن لا تمثّل اسرائيل -الآن- دولة معتدية فقط على جزء من الأمّة المسلمة في فلسطين وسورية ومصر والأردن، لكنها تمثّل تهديداً للوجود الإسلامي في كل جوانبه: الثقافية,والاقتصادية، والعسكرية، والاجتماعية، والسياسية، والمعنوية إلخ… من هنا كان واجب العلماء تنبيه المسلمين في بلادهم إلى هذا الخطر القادم، والسعي إلى مدافعته بكل الوسائل الممكنة.
س3: ما الدور الإيجابي الريادي الذي ينبغي أن يقوم به علماء الأمّة في الوقت الحاضر تجاه القضية الفلسطينية؟
ج3: علماء الأمّة، هم قادتها، وهم ورثة الأنبياء كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “العلماء ورثة الأنبياء، إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، إنّما ورّثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظّ وافر” (راواه الترمذي وأبوداود).
وقد اتصف علماء الأمّة الإسلامية على مدار التاريخ بأنهم فاعلون ومؤثّرون في مسيرة الأمّة، فهم يستكشفون الأخطار القادمة، ويحذّرون من الأمراض الموجودة، ويقودون الأمّة من من خير إلى ما هو أخير منه إلخ…، وكذلك يجب أن يفعل علماء الأمّة المعاصرون، فعليهم أن ينبّهوا شعوبهم إلى خطر اسرائيل، وإلى تطلّعات اسرائيل في السيطرة، وإلى استهدافها تمزيق الأمّة الإسلامية وتفتيتها وتقسيمها، وإلغاء دورها، عليهم أن يوضحوا ذلك لأنّ المسلمين العاديين لا يستطيعون استكشاف ذلك.
وهم من أجل أن يحقّقوا ذلك عليهم أن يبيّنوا أهمّية الجهاد في حياة الأمّة، وأن يوضّحوا كيفية تخليص الأمّة من أمراضها، وكيفية إعادة حيويّتها، وأن يقدّموا الدراسات العلمية في مختلف المجالات ومنها: دراسة الحروب الصليبية، وكيفية الاستفادة من انتصار الأمّة الإسلامية فيها من أجل توجيه المسلمين إلى الانتصار في المعركة الحالية مع اسرائيل والصهاينة ومن يقف وراءها من قوى الغرب.
س4: ما أبرز الخطط المناسبة لتنسيق الجهود العالمية وتضامن أيادي العلماء في خارج فلسطين مع علماء فلسطين للنهوض بالواقع الفلسطيني؟
ج4: أبرز الخطط المناسبة المقترحة على مؤسسة علماء فلسطين ومؤسسات علماء المسلمين في الأقطار الأخرى، الأمور التالية:
أ – عقد لقاءات دورية ومؤتمرات بين مؤسسات علماء الطرفين من أجل تدارس ظروف القضية الفلسطينية، ومدى التقدّم الحاصل فيها، ووضح الخطط المناسبة لمواجهة العدو الصهيوني في مختلف المجالات.
ب- يجب أن يوجّه علماء فلسطين إخوانهم علماء المسلمين في مناطق العالم الإسلامي إلى محاربة النفوذ الصهيوني بكل أشكاله الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتعليمية إلخ… والموجود في بلادهم.
ج- توفير هيئات علماء المسلمين في العالم الإسلامي المال اللازم من أجل دعم الوضع الاقتصادي للفلسطينيين، ومن أجل دعم الأوقاف القائمة وزيادة مساحتها كما فعل صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- بعد أن طرد الصليبيين وحرّر الأقصى، توجّه إلى شراء الأراضي وتحويلها إلى أوقاف إسلامية من أجل عدم ذهابها إلى أعداء الأمّة في المستقبل بصورة من الصور.
د– توجيه علماء المسلمين مواطنيهم في بلادهم إلى مقاطعة بضائع ومنتجات الدول التي تساند اسرائيل وتزوّدها بالأسلحة والتكنولوجيا والمال إلخ…
س5: كيف يمكن استثمار القوة الكامنة في الأمّة لنصرة القضية الفلسطينية؟
ج5: لقد عبّرت الأمّة الإسلامية خلال القرنين الماضيين عن حيوية فائقة ومدهشة ولافتة للنظر، فمع كل المحاولات لتغريبها كما اتضح في احتلال واستعمار قسم كبير من أراضيها في القرن التاسع عشر، من مثل أندونيسيا والفلبين والهند وباكستان وماليزيا ومصر والجزائر وتونس والمغرب إلخ…، وقد أكمل الاستعمار احتلال معظم العالم الإسلامي بعد الحرب العالمية الأولى، فقد احتلّّت فرنسا سورية ولبنان، واحتلّت انكلترا العراق وسورية والأردن إلخ…، ثم جاء فرض الفكر القومي والنموذج الرأسمالي بعد الحرب العالمية على الدول العربية، ثم فرض الفكر الاشتراكي الشيوعي بعد الحرب العالمية الثانية، وقد كان الهدف من تلك المحاولات تغريب الأمّة ومحو شخصيّتها الحضارية التاريخية، لكنّ تلك المحاولات في التغريب فشلت، وذلك بسبب الوحدة الثقافية المتأصّلة في الأمّة، وذات الجذور العميقة.
هذه الوحدة الثقافية هي التي تجعل الأمّة تتجاوب مع كل مرحلة من مراحل القضية الفلسطينية، فرأينا تجاوبها الكبير مع أحداث جنين عام 2002، كما رأينا هذا التجاوب مع عدوان اسرائيل على غزّة في نهاية عام 2008، لذلك أرى من أجل الاستمرار في عطاء الأمّة على العلماء أن يقوموا بما بلي:
أ – تدعيم الوحدة الثقافية التي تجمع عناصر الأمّة من خلال دعوة المسلمين إلى الحرص على التوحيد والابتعاد عن الشرك، والتمسّك بسنّة الرسول صلى الله عليه وسلّم، فهما من أكبر العناصر التي تحقّق وحدة الأمّة، وتغذّي حيويّتها، وتجعلها موحّدة في تفكيرها ومشاعرها وأشواقها وأذواقها وتطلّعاتها وقِيَمها وأخلاقها وحلالها وحرامها إلخ…
ب- تحذير العلماء من القطرية، والنعرات العنصرية والمذهبية والطائفية إلخ… والتي تؤدّي إلى تقسيم الدول العربية وتفتيتها، وتحذير جماهير الأمّة منها، لأنّ اسرائيل هي المستفيد الرئيسي من عمليات التفتيت تلك، وهي التي تقف وراء التخطيط والتنفيذ لتلك العمليات, وخير مثال على ذلك ما يحدث في العراق والسودان والمغرب العربي إلخ….
ج- إبراز علماء الأمّة للمخطّطات الفكرية التي تحاول مساس ثوابت الأمّة من قرآن كريم وسنّة مشرّفة ولغة عربية والتي تتمثّل في محاولة التلاعب بالنصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة ومحاولة تأويلها في اتجاه التعقيل أو التأريخ أو التأنيس أو ما يسمّى أحياناً ﺑ (العقلنة أو الأرخنة أوالأنسنة) ، وهي أخطر ثلاث مدارس تحاول التلاعب بثوابت الدين الأمّة، ويتبنّاها العلمانيون بثوب من دعوى الحرص على التقدّم والعلم والحضارة!
س6: هل هناك نماذج لتجارب معاصرة لبعض العلماء في نصرة القضية الفلسطينية؟
س6: إنّ اأبرز مثال يمكن أن نقدّمه في هذا المجال الشيخ الجليل عزّ الدين القسّام -رحمه الله- الذي نشأ وترعرع في الساحل السوري جنوب اللاذقية، واضطرّته ظروف الصراع مع الاستعمار الفرنسي أن يهاجر إلى فلسطين في العشرينات من القرن العشرين، وعمل إماماً في مسجد الاستقلال في حيفا، وتجاوز كل الحدود الجغرافية، واعتبر قضية فلسطين قضيّته، واستغلّ منبره في توعية المسلمين بأخطار الاستعمار وأخطار الهجرة اليهودية، وأنشأ تنظيماً جهاديّاً سمّاه “الجهادية”، وقد خرج إلى جبال فلسطين وأشعل ثورة مسلّحة، واستشهد في عام 1935 في معركة كبيرة مع الجيش الإنجليزي في أحراش قرية يعبد في محيط نابلس، ثم أدّى تلاميذه ومريدوه دوراً رئيسيّاً في الصراع مع الإنجليز والصهاينة في التاريخ اللاحق للقضية الفلسطينية في الثورة الكبرى عام 1936 إلى عام 1939، ثم أدّوا دوراً آخر كبيراً مع الحاج أمين الحسيني في الصراع مع الصهاينة عام 1947 و1948 قبل قيام اسرائيل.
Lorem Ipsum