إنّ أبرز عامل في نجاح النهضة هو حضور وعي القيادات النهضوية لأهمّية عامل الوحدة الثقافية، وما يتبعه من تجانس اجتماعي وتآلف شعوري بين أفراد الشعب، والاجتهاد في تدعيم هذه الوحدة الثقافية بمختلف الوسائل، والحرص على زيادة لحمتها، والابتعاد عمّا يخلخلها ويضعفها. وبالمقابل سيكون غياب هذا الوعي في أهمّية عامل الوحدة الثقافية عند القيادات النهضوية عاملاً رئيسياً في فشل النهضة، وقد أكّدَت هذه الحقيقة تجارب اليابان والصين وإسرائيل والعرب.
ففي اليابان تأكّد أنّ القيادات النهضوية التي قادت اليابان في القرن التاسع عشر حرصت على أن يكون النقل للتكنولوجيا الغربية بروح يابانية لذلك رفعت القيادات اليابانية شعاراً يعبّر عن المرحلة وهو: “تقنية غربية بروح يابانية”، وحرصت القيادات اليابانية على عدم النقل الحرفي للحضارة الغربية حتى لا يكون هذا التغريب هو حصان طروادة الذي يستخدمه الغرب من أجل استتباع اليابان له في وقت لاحق، كما حرصت القيادات النهضوية اليابانية على زيادة التجانس الاجتماعي بمعالجة طبقة المنيوذين ومحاولة دمجها في المجتمع، وهي طبقة محتقرة وفي أدنى السلّم الاجتماعي الياباني. كما حاولت القيادات النهضوية إيجاد حلّ لمشكلة الساموراي وهي طبقة عسكرية وذات تقاليد معيّنة، لكنّها حلّتها بالتفاهم، ودمجتها في المجتمع واستفادت من تقاليدها العسكرية في تكوين الجيش الياباني وبهذا تكون قد زادت في تآلف الشعب الياباني والاستفادة من كل طبقاته.
وفي الصين نجد أنّ دور قيادتها النهضوية يختلف عن دور القيادة النهضوية اليابانية في الإجراءات، لأنّ طبيعة المجتمعين مختلفتان، ولكنه يلتقي معه في الجوهر، فالصين التي تحوّلت إلى الشيوعية بعد الحرب العالمية الثانية بقيت متخلّفة اقتصادياً وتنمويّاً، لكنها حلّت هذه المشكلة مؤخّراً فصارت في طليعة الدول من حيث الدخل ونسبة التنمية وتطوّر الاقتصاد، فكيف حلّتها؟ لقد حلّتها باتخاذ إجراءات اقتصادية ذات طبيعة رأسمالية لصالح الفرد الصيني، وكان يمكن أن تؤثّر هذه الإجراءات على الوحدة الثقافية التي كوّنتها الايديولوجية الشيوعية، لكنّ الحزب الشيوعي الذي مثّل القيادة النهضوية رعى هذه الإجراءات وحافظ على الوحدة الثقافية ولم يسمح لهذه الإجراءات الاقتصادية بأيّ تأثير على الوحدة الثقافية للشعب الصيني وتماسكه وتآلفه.
وفي إسرائيل نجد أنّ القيادة الصهيونية التي نشأت في القرن التاسع عشر، توجّهت إلى توحيد اليهود المشرذمين في كل أنحاء العالم، والذين كانوا يتكلّمون لغات متعدّدة، ويمارسون عادات وتقاليد مختلفة حسب الشعوب التي يعيشون معها إلخ…، ومع ذلك فقد أخضعت القيادة الصهيونية اليهود الذين نقلتهم إلى فلسطين في القرن العشرين لبرامج العيش المشترك في القرى الجماعية (الموشاف والكيبوتز) التي أنشأها الهستدروت أو المؤتمر الصهيوني العالمي، كما علّمتهم العبرية كي تزيد من روابط الوحدة الثقافية والتجانس بين هؤلاء اليهود المختلفين.
ومن اللافت للنظر أنّ القيادة الصهيونية كانت تبحث في المؤتمر الصهيوني السنوي وضع اليهود في دولهم، وتضع الخطط لعرقلة اندماجهم في المجتمعات التي يعيشون فيها، والتي كانت تعطيهم الفرصة كاملة للانخراط والتمتّع بحقوق المواطنة الكاملة في مختلف المجالات السياسية والمعنوية والاجتماعية ثمرة لنشوء القوميّات في القرن التاسع، وقيام الأمم على أساس المواطنة وليس على أساس الدين أو الطبقة الاجتماعية، والذي كانت تعتبره الصهيونية تهديداً يحول بينها وبين تحقيق أهدافها في إبقاء اليهود أمّة واحدة.
ومن الجدير بالذكر أنّ القيادات الصهيونية كانت ذات توجّه علماني في معظمها إلاّ أنها كانت تحترم موروثها الديني وتستفيد منه في دعم الوحدة الثقافية بين أبناء الشعب اليهودي، وأبرز ما تحترمه التوراة والتلمود والمقدسات الدينية كالقدس والهيكل وغيرهما مع ما تحتويه هذه الموروثات من عناصر غير عقلانية، فقد أعلن هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في بال عام 1897 فقال: “إنّ العودة إلى صهيون يجب أن تسبقها عودتنا إلى اليهودية”، واعترف وايزمان -أول رئيس لدولة إسرائيل- بتلازم اليهودية والصهيونية فقال: “إن يهوديّتنا وصهيونيّتنا متلازمتان، ولا يمكن تدمير الصهيونية إلاّ بتدمير اليهودية”، وأعلن بن غوريون أول رئيس لوزارء إسرائيل فقال: “إنّ الصهيونية تستمدّ قوتها من أمرين هما: اليهودية، ومن الثورات التي قامت في القرن التاسع عشر”.
وإذا انتقلنا إلى الحديث عن القيادات النهضوية العربية فإننا نجد أنّ موقفها كان مغايراً ومخالفاً للقيادات اليابانية والصهيونية والصينية، فهي قد عملت على تمزيق الوحدة الثقافية والنسيج الاجتماعي لأمّتنا، وقد كان ذلك عاملاً أساسياً في إعاقة قيام النهضة، ويتضح ذلك في موقف قيادات الفكر القومي العربي والمصري من الموروث الديني الذي يشكّل عنصراً رئيسياً في بناء الوحدة الثقافية والنسيج الاجتماعي، فهي تجاهلته في المرحلة الأولى بعد الحرب العالمية الأولى، ولم تجعله عنصراً في تكوين الأمّة، بل اعتبرت الأمّة تقوم على عاملي اللغة والتاريخ في حال القومية العربية كما هو عند ساطع الحصري، وعلى عامل الجغرافيا في حال القومية المصرية كما هو عند أحمد لطفي السيد، لكنّ القيادات القومية العربية في المرحلة الثانية بعد الحرب العالمية الثانية انتقلت من تجاهل الدين ودوره في حياة الأمّة إلى معاداته كما حدث مع حزب البعث وحركة القوميين العرب وغيرهما من الحركات القومية ودولها في أكثر من قطر عربي، وأصبحت تعلن أنّ الدين أصل التخلّف والتأخّر والانحطاط، لذلك يجب انتزاعه من عقول الجماهير من أجل تحريرهم من الأوهام والخرافة والأساطير، ومن أجل إنهاء سيطرة الرجعية المتمثّلة بتحالف طبقة الأغنياء ورجال الدين، وبلغت هذه الدعوة ذروتها عندما تزاوجت القومية مع الاشتراكية في الستينات من القرن العشرين.
وإذا أردنا أن نرسم خطاً بيانياً لوضعية الوحدة الثقافية في العالم العربي منذ الحرب العالمية الأولى وإلى الآن، نجد أنها تتجه إلى التصدّع والتفتت بدلاً من أن تتجه إلى مزيد من التماسك والالتحام الذي هو أصل في كل نهضة، وخير دليل على ذلك ما يحدث في العراق الآن بين العرب والأكراد، واقتتال طائفي بين سنّة وشيعة، فأنا لا أعفي المحتلّ من دوره ومسؤوليته في تعميق الانقسام والاقتتال الموجود حالياً، لكن يجب أن لا نتجاهل جانباً من دور قيادات القومية العربية خلال القرن الماضي والتي أوصلت العراق إلى وضعه الحالي، والتي ساهمت في تصديع الوحدة الثقافية، وتفتيت النسيج الاجتماعي بدلاً من أن تساهم في زيادة تماسكهما، وتمتين أواصرهما.