حول الديمقراطية والمواطنة في الربيع العربي

ليس من شك بأن هناك عدة عوامل كانت وراء الثورات العربية منها: الظلم الذي وقع على الشعوب العربية، والفساد الذي استشرى في كل نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية إلخ…، والاستبداد الذي طال كل طبقات المجتمع وهيئاته، والتخلف العلمي والتكنولوجي الذي ظهر في الجامعات وفي مراكز البحث، وضعف الأداء السياسي إزاء الأعداء إلخ…، وأمكن إزاحة أعتى نظامين وهما نظاما تونس ومصر، وهناك ثورات في ليبيا واليمن وسورية، وهناك تململ في عدد من الدول الأخرى، وأبرز الحلول المطروحة في الأفق أمران: الديمقراطية والمواطنة، ويكثر الحديث عن الأمرين عند كل الكتّاب والمحللين حتى أصبح وكأنه من المسلمات أن الحل في هذين الأمرين، لكن أحب أن أشير إلى ثلاث نقاط هنا في صدد الحديث عن الديمقراطية والمواطنة، هما:

الأولى: إن الديمقراطية والمواطنة ليستا جديدتين على منطقتنا بل تعاملت معهما خلال المائة سنة الماضية، وقد طبقت الديمقراطية في عدد من البلدان العربية وهي: مصر والعراق وسورية ولبنان والأردن وتونس والمغرب والسودان إلخ…..، بعد الحرب العالمية الأولى، ومع ذلك لم تترسخ الديمقراطية في أي من البلدان، بل زالت وبقيت تقريباً في لبنان.

وكذلك المواطنة فقد دعت إليها الأنظمة السياسية خلال القرن العشرين في معظم البلدان العربية من مثل مصر والعراق وسورية والأردن وتونس إلخ….، وروّجت لها وطبّقتها، ولكنها لم تترسخ في أي بلد، ولم تصبح حقيقة سياسية ولا قيمة اجتماعية في أي بلد من البلدان العربية مع وعي أهميتها في بناء الأوطان، والسعي إلى إقامتها.

الثانية: إن الديمقراطية والمواطنة ليستا حقيقيتين كونيتين بل حقيقتين محليتين نشأتا في الغرب نتيجة ظروف وملابسات محلية وهذا ما سنوضحه في الفقرة الثالثة.

وهذا يتطلب أن تشذب كل من فكرة الديمقراطية والمواطنة بما يناسب واقعنا من أجل أن ينجح تطبيقهما في واقعنا وحياتنا الاجتماعية والسياسية.

الثالثة: إن الديمقراطية والمواطنة قبل أن تنتقلا إلينا كمفهومين سياسيين، كانتا حقيقتين على أرض الواقع في أوروبا بنتهما في القرن الثامن عشر والتاسع عشر عشرات الوقائع والتطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية إلخ….، وساهم في التأصيل لهما والتقنين لهما: الفلاسفة والكتاب والفنانون والتربويون إلخ…..، فقد مهدت للديمقراطية كتابات فولتير وروسو في تهيئة الأذهان والعقول من أجل إيجاد صيغة جديدة بين الحاكم والمحكوم، وإرساء الدستور كوثيقة تحدد واجبات الحاكم وحقوقه، وتحدد علاقته بالمحكومين .

الديمقراطية

كما مهدت ولادة الطبقة البورجوازية والتصادم مع تحالف الطبقة الإقطاعية ورجال الدين إلى ولادة الثورة الفرنسية التي أعلنت حقوق الإنسان العالمي، وأعلن بعد ذلك إلغاء الرق، ثم جاء التصادم بين رجال العلم ورجال الدين في القرون الوسطى والذي أدى إلى الثورة على الكنيسة وإبعادها عن مجالات الحياة وحصر دورها في الكنيسة وإبعادها عن التعليم والمدارس والسياسة إلخ….

وأدى هذا التصادم أيضاً إلى اعتبار العلم والموضوعية محصوراً في المادة والكون وأن الحديث عن الجنة والنار والآخرة أوهام وخرافات، وأدى هذا التصادم إلى الاتجاه إلى الدنيا والإنسان والفرد مقابل التوجه السابق الذي كان يسيطر عليه الاتجاه إلى الآخرة والله والجماعة ومن هنا كان انبثاق مدنية السلطة، والتركيز على الفرد في النظام الديمقراطي.

ثم جاءت مرحلة استعادة الديمقراطية كإطار سياسي من الحضارة اليونانية، وإن هذه الصيغة الديمقراطية التي تقوم على إجراء انتخابات قد مرت بتطورات في مجال الانتخابات، فقد كانت مقصورة على دافعي الضرائب، ثم شملت النساء بعد أن كن ممنوعات من الاشتراك بها، ثم شملت كل المواطنين إلخ….

فالواضح من خلال العرض السابق أن الديمقراطية قامت على الأرض من خلال عدة حقائق وتطورات ومخاضات وأنها لم تنزل من السماء على أوروبا، وأنها حصيلة عدة توافقات سياسية وفكرية ودينية واجتماعية واقتصادية إلخ……، وجاءت هذه الديمقراطية كحل لمشاكل عاشتها أوروبا، ونتيجة تطورات مرت بها، وانتهت إلى أن الديمقراطية مبادئ وآليات، المبادئ هي:

  • أولا: نسبية الحقيقة وليس هناك حق مطلق في أي مجال.
  • ثانيا: المادية، ويعني ذلك أن الكون مادة وليس هناك روح أو غيب، وهذه خرافات اخترعها الإنسان.
  • ثالثا: الأصل في أي عمل المنفعة واللذة والمصلحة وإذا تعارضت هذه المصلحة مع الأخلاق تقدم المصلحة على الأخلاق.
  • رابعاً: الفردية المحلقة والتي لا يحدها شيء، والتي قد تؤدي إلى الإضرار بالجانب الجماعي.

أما الآليات فهيه: انتخاب الحكام، ومحاسبتهم، وتداول السلطة، وإقرار حرية الرأي، وإقرار التشاور إلخ..

ومن الواضح أن الآليات مقبولة في حين أن المبادئ تتناقض مع كثير من قيمنا ومبادئنا وثوابتنا.

المواطنة

أما في مجال المواطنة فهي أيضاً قد كانت مرتبطة بحقيقة على الأرض وهي (الوطن)، فقد تشكل الوطن في البداية في أوروبا، وقد تكونت الأوطان بعد أن تفككت الامبراطوريات الدينية التي كانت تقودها الكنيسة في القرون الوسطى، فتشكلت الأوطان مثل: الوطن الفرنسي، والوطن البلجيكي، والوطن الهولندي، والوطن الانجليزي، والوطن الألماني إلخ…..، ونشأت المواطنة مرتبطة بحقيقة الوطن القائمة على الأرض.

ولكننا نحن عندنا في بداية القرن العشرين طرحت فكرة (المواطنة) في أوطاننا لكنها لم تترسخ، والسبب في ذلك أنه لم تكن هناك أوطان مشكلة بل هناك تقسيمات سياسية كما حدث في بلاد الشام التي جزئت إلى أربعة كيانات وهي: سورية ولبنان والأردن وفلسطين، وكذلك العراق ألحقت به (الموصل) التي لم تكن له ذات ارتباط تاريخي بالعراق، وفصلت عنه دير الزور التي كانت جزءاً من العراق إلخ..

ومع أن الحديث استمر عن المواطنة طوال القرن العشرين في معظم البلاد العربية، لكنها لم تصبح قيمة حقيقية بسبب أنه ليس هناك أوطان مشكلة كحقائق تاريخية وإنسانية وثقافية واجتماعية واقتصادية إلخ….، وعلى العكس من ذلك فقد بدأت بعض البلدان التي قامت على أساس (المواطنة) بدأت بالتشطي والتشرذم كما حدث مع العراق بعد غزوه عام 2003.

فهل معنى ذلك أنه ليس هناك روابط جماعية توحد أفراد وساكني بلداننا العربية؟ الحقيقة أنه توجد أمة عريقة، وهي من أعرق الأمم على مدار التاريخ، ومن أكثر الأمم وحدة في العصر الحاضر، وتجمعها روابط تماثل الأمم الأخرى إن لم تكن روابط أقوى في توحيدها من الروابط الموجودة لدى أمم أخرى مثل الفرنسية أو الانجليزية أو الهولندية والأمريكية إلخ….، لكن هذه الروابط تلتقي مع بعض روابط الأمم الأخرى وتختلف عنها في غيرها، فمن أبرز الروابط التي تلتقي فيها مع غيرها: اللغة، التاريخ، الأرض المشتركة، العادات والتقاليد إلخ… لكنها تفترق عنها في أن الدين الإسلامي عامل أساسي في تكوينها، في حين أن الأمم الغربية تشكلت بعد أن أقصت الدين عن بعض جوانب حياتها، وفي مقابل رابطة (المواطنة) التي تجمع ساكني الأوطان الأخرى مثل: فرنسا، انكلترا، هولندان بلجيكا إلخ…. فإن (الأخوة) هي الرابطة التي تجمع أبناء (الأمة العربية الإسلامية)

لذلك أعتقد أن نسخ مفهومي (الديمقراطية والمواطنة) من التجربة الغربية، واستنباتهما في أرضنا بنفس مضمونهما الذي جاء نتيجة ظروف أوروبا التي مرت فيها خلال القرون السابقة، والذي أوضحنا معالمه في السطور السابقة، سيؤدي إلى التعثر مرة ثالثة بعد التعثر في نقل هذين المفهومين بعد الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية في معظم الأقطار العربية من خلال الفكر القومي العربي الذي طبق في العراق وسورية ومصر ولبنان والجزائر واليمن إلخ…..، وسيكون مثل تطبيق مفهومي (الديمقراطية والمواطنة) في منطقتنا العربية بنفس مضمونهما الأوروبي كمثل من أحضر طربوشاً ويريد أن يلبسه رأس شخص معين، وكان الطربوش غير مناسب لهذا الرأس، فبدلاً من أن يغير الطربوش، أراد أن يغير رأس الشخص اللابس للطربوش فيقطع منه جزءاً ليصبح رأساً آخر مناسباً لهذا الطربوش.

الخلاصة: أعتقد أن التحدي الذي يواجهه علماء الأمة ومفكروها هو اقتراح نظام سياسي يحقق العدالة والمساواة ويؤدي إلى محاسبة الحاكم وتداول السلطة ويستفيد من النموذج الديمقراطي، والتحدي الآخر هو تفعيل قيمة (الأخوة) التي أفرزتها الأمة العربية الإسلامية على مدار القرون الماضية، وتأصيل مضمونها، وتقنينه بحيث يصبح مناسباً للعصر، وكذلك تفعيل قضية أن الوطن العربي الإسلامي هو وطن لكل الأمة العربية الإسلامية

اترك رد