تشغل عدّة قضايا المسلمين المعاصرين، لكنّ القضية الفلسطينية تمثّل القضية الأهمّ عندهم، وتحتلّ مكاناً خاصاً وحيّزاً كبيراً في حياتهم وقلوبهم وعقولهم، وذلك لعدّة اعتبارات أبرزها: وجود المسجد الأقصى الذي كان القِبلة الأولى للمسلمين، والذي انتهى إليه إسراء الرسول صلى الله عليه وسلم وكان منه معراجه، ولأنّ أرضها أرض مباركة عاش فيها معظم الأنبياء إن لم يكن جميعهم، ولأنّ انتصار اليهود كان ذروة الضعف عندهم ودحره سيكون بداية القوة والعزّة والمنعة لهم.
وقد أحسّ المتابعون للشأن السياسي بهذا المقام الخاص للقضية الفلسطينية، فاستغلّوها إعلاميّاً للترويج لأفكارهم، واعتبروها مدخلاً جيّداً لكي يجعلوا أنفسهم مقبولين عند الأمّة ويحقّقوا بعض المكاسب، ولكنهم لم يقدّموا شيئاً -في النهاية- للقضية الفلسطينية، وجعلوا القضية الفلسطينية تتأخّر إلى الوراء، وأبرز مثال على ذلك التيار القومي العربي اليساري الذي لو رجعنا إلى أدبيّاته في الخمسينات والستينات من القرن العشرين من خلال الأبواق البعثية والناصرية لوجدنا تسعين بالمائة من أقواله وطروحاته وتنظيراته وخطبه وأحاديثه تتركّز حول القضية الفلسطينية وأهمّيتها، وكانت الانقلابات التي قام بها في سورية والعراق ومصر واليمن والجزائر والسودان وليبيا إلخ… تتحدّث في البيان الأول لها بعد السيطرة على الإذاعة أنها جاءت لتحرير فلسطين من قبضة الصهاينة، وأنّ الجيش قام ردّاً على تخاذل الرجعيّين من الحكّام السابقين في مواجهة دولة إسرائيل، ولم يتحقّق أيّ هدف من الذي ادعته التيارات القومية العربية، بل توسّعت إسرائيل وزادت رقعتها، وانهزمت جيوش القومية العربية أمامها شر هزيمة كما حدث في حرب 1967 التي كانت منعطفاً في تاريخ القضية الفلسطينية بشكل خاص، وتاريخ المنطقة العربية بشكل عام.
ونحن نعتقد أنّ حزب الله وإيران التي تقف وراءه يلعبان نفس الدور الذي لعبه القوميون بعد نكبة فلسطين، فهما امتطيا القضية الفلسطينية من أجل احتلال موقع متقدّم في قلوب المسلمين وعقولهم، ومن أجل تحقيق مآرب سياسية في لبنان والعالمين العربي والإسلامي، ومما يؤكّد ذلك دور إيران في العراق التي تم الغزو الأمريكي لها في آذار (مارس) عام 2003 في بموافقتها والتنسيق معها. وقد أعلن عن ذلك عدد من الساسة الإيرانيين والأمريكيين، ولكنّ الأهمّ من ذلك، ماذا كانت نتائج ذلك الغزو على القضية الفلسطينية؟ كانت نتائج الغزو الأمور التالية:
1- تقسيم العراق:
من الواضح أنّ العراق يتجه إلى التقسيم وستكون هناك فيدرالية شيعية في الجنوب حسب الدستور الذي أقرّه البرلمان العراقي، وهذه الفيدرالية كان وراءها الفصيل الشيعي الرئيسي المرتبط بإيران وهو فصيل عبد العزيز الحكيم، فهل يخدم تقسيم العراق القضية الفلسطينية أم يضرّها؟ لاشكّ أنه يضرّها ضرراً بالغاً لأنه يلغي الجبهة الشرقية من الصراع مع إسرائيل بعد أن ألغيت الجبهة الجنوبية بخروج مصر من هذا الصراع بعد اتفاقيات كمب ديفيد عام 1978م، وينهي آخر الأخطار التي كانت تهدّد إسرائيل.
2- حلّ الجيش العراقي:
بعد أن احتلت القوات الأمريكية العراق كان أمامها خياران بخصوص الجيش العراقي، أحدهما: إبقاء الجسم الرئيسي للجيش العراقي وتسريح بعض قياداته ذات الولاء الصدّامي، وثانيهما: تصفيته كليّاً وتسريح كل قطاعاته، ومن البيّن أنّ الخيار الثاني كان في صالح إسرائيل بالدرجة الأولى، وليس في صالح الفصائل المعارضة لصدّام حسين، وهو ما أقدم عليه الاحتلال الأمريكي والذي كان يفترض ألاّ يمرّره التيار الشيعي المرتبط بإيران إذا كان حريصاً على القضية الفلسطينية بشكل حقيقي، لأنه يتعدّى هدف إزالة نظام صدّام حسين وهو الهدف الذي يبرّر به التيار الشيعي المرتبط بإيران تعاونه مع الولايات المتحدة في غزو العراق، هذا إذا تجاوزنا مناقشة أحقّية هذا التعاون.
3- تدمير البُنية التحتية في العراق:
لقد قام الغزو الأمريكي بتدمير كل عناصر البُنية التحتية في العراق: الاقتصادية والعلمية والثقافية إلخ… ومن مظاهر ذلك اغتيالات القيادات العلمية وأساتذة الجامعات، ونهب المتاحف وتدميرها إلخ…، وهذا ما يخدم إسرائيل بالدرجة الأولى، ويتعدّى هدف إزالة نظام صدّام حسين.
لذلك فإنّ إيران والأطراف الشيعية المرتبطة معها في داخل العراق تتحمّل المسؤولية الكاملة عن الأفعال الثلاثة السابقة وهي تقسيم العراق، وحلّ الجيش، وتدمير البُنية التحتية، والتي تصب في خانة تدعيم الكيان الصهيوني. وكانت من نتائج الأفعال السابقة انتهاء خطر الجبهة الشرقية على إسرائيل، وتغيير العقيدة القتالية كما أعلنت الأركان الإسرائيلية ذلك، وأصبحت غير محتاجة إلى الأرض خارج إسرائيل من أجل المقاتلة عليها، وهو ما كان تصرّ عليه سابقاً.
والآن نعود إلى حزب الله، فإذا كان مخلصاً هذا الحزب للقضية الفلسطينية ويريد تقدّمها، ويريد الانتصار الحقيقي على إسرائيل، فعليه أن يستنكر تصرّفات إيران ويقف بعيداً منها، ويدين سياساتها، ويقطع ولاءه لها، وينهي اعتماده عليها، وإذا لم يفعل ذلك فإنّ الموقف الحقيقي يكون هو استغلال القضية الفلسطينية لأجل مآرب سياسية وطائفية ومذهبية، ويشترك في هذا مع إيران، ويكون هذا الفعل منهما -أي من حزب الله وإيران- كموقف الأحزاب القومية السابقة خلال الخمسينات والستينات التي استغلّت القضية الفلسطينية وأضرّتها ولم تقدّم لها أيّ شيء.