يتعرّض العراق الآن للتفكك، فالواضح أنه يسير في اتجاه التشرذم والانقسام، فقد أقام الأكراد حكماً ذاتياً منفصلاً منذ العام 1990 في الشمال، والأرجح أن يقيم الشيعة فيدرالية في الجنوب، وسيبقى السنّة في الوسط.
والواضح أنّ هذا التقسيم العرقي والطائفي مفاجئ لما يجب أن يكون عليه العراق، والذي يدعو إلى التعجّب هو أنّ العراق حكمه نهج وطني قومي عربي واحد منذ لحظة نشوئه على يد الملك فيصل في عام 1921 إلى لحظة سقوط بغداد عام 2003.
فالمرحلة الملكية التي بدأت عام 1921، والتي انتهت عام 1958 كانت ذات نهج وطني وقومي عربي، كما كانت الجمهورية التي بدأت بانقلاب عبد الكريم قاسم عام 1958 وانتهت عام 2003 ذات نهج وطني وقومي عربي في معظمها.
وقد تعاقبت على قيادة العراق شخصيات وطنية وقومية عربية بارزة من مثل ساطع الحصري وميشيل عفلق ومنيف الرزاز وشبلي العيسمي وإلياس فرح إلخ…، وهي ذات وزن فكري وتربوي، وبالذات ساطع الحصري وميشيل عفلق، ولم تكن تلك شخصيات منظّرة فحسب، بل احتلّت مواقع مؤثّرة في العراق، وكانت كلمتها نافذة فاحتلّت مناصب وزارية وإدارية وإعلامية وتربوية، وكانت تهدف إلى إنشاء مجتمع وطني موحّد في العراق ذي صبغة قومية عربية، ودعت إلى ذلك في محاضرات ومقالات وكتب وأصدرت قوانين ومراسيم ومناهج إلخ…، ولا يتسع المقام لاستعراض جهود كل تلك الشخصيات في بناء العراق الوطني والقومي ولكن سألقي الضوء على جهود شخصيتين من الشخصيات القومية العربية وهما: ساطع الحصري وميشيل عفلق، وسأبيّن جهودهما في بناء العراق الوطني والقومي والمآل الذي انتهت إليه هذه الجهود، وسبب ذلك.
قاد الملك فيصل العراق بعد أن طرده الفرنسيّون من سورية عام1920، وأصبح العراق موئل القوميين العرب من مختلف الأقطار، وجاء إليه ساطع الحصري بناء على برقية من الملك فيصل في 23 تموز “يوليو” 1921 بعد أن تم تتويجه ملكاً، وقد قصد الملك فيصل من دعوة الحصري أمرين:
الأول: أن يكون مساعداً له في بناء المعارف.
الثاني: أن يكون مساعداً له في تأسيس مملكة.
وبالفعل فإنّ ماضي ساطع الحصري العلمي والتربوي يؤهّله للعب دور أساسي إلى جانب الملك فيصل الذي كان يعرف هذه المؤهّلات ويدّرها حقّ التقدير، فهو (أي الحصري) عمل في مجال التربية بين عامي 1904-1919 في استانبول والبلقان، ثم عيّن مفتشاً للمعارف في سورية ثم مديراً عاماً للمعارف ثم وزيراً للمعارف في أول وزارة دستورية شكّلها الملك فيصل بعد إعلانه عن المملكة العربية السورية في آذار “مارس” 1920، وانصبّت جهود ساطع الحصري في دمشق بالدرجة الأولى على تعريب نظام التعليم من اللغة التركية وتعميم الدراسة باللغة العربية، وأصدر باسم مديرية المعارف مجلّة التربية والتعليم، ونشر فيها ساطع الحصري عدّة مقالات فكرية، وقد استطاع ساطع الحصري أن يحدث انقلاباً فكرياً تربوياً مصطبغاً بصبغة عربية خالصة تناسب ذلك العهد الفيصلي في سورية العربية.
ثم انتقل ساطع الحصري إلى مصر بعد أن طرد الجنـرال غورو الملك فيصل في تموز من عام 1920، وحاول ساطع الحصري الاستفادة من وجوده في مصر للوقوف على حالة التعليم باللغة العربية لأنها سبقت الدول العربية بذلك، فأخذ تصريحاً من وزير المعارف بزيارة بعض المدارس المصرية برفقة كبير المفتّشين لذلك العهد.
والآن: ماذا فعل الحصري في العراق بعد أن وصلها بناء على دعوة الملك فيصل؟ وما المناصب التي تقلّدها؟
ظلّ الحصري خلال الشهور الستة الأولى لا يتولّى أحد المناصب، وإنما بقي في معيّة الملك فيصل بمثابة مستشار في أمور المعارف، وكان عدم تولّي ساطع الحصري لأحد المناصب طيلة هذه الفترة بناء على رغبته هو، كي تكون فترة للدراسة والبحث والاستطلاع.
وقد باشر ساطع الحصري عمله معاوناً لوزارة المعارف في بغداد مدّة كانت أقلّ من عام منذ 5 تموز/يوليو 1922 وحتى 31 آب “أغسطس” 1927، وقد اجتهد أن يبثّ الشعور الوطني والقومي في نفوس المواطنين بوجه عام وفي نفوس النشء الجديد بشكل خاص، وقد اهتمّ إلى جانب هذا بالاعتبارات التربوية المهنية وتحسين نوعها وبالمعايير التعليمية الصحيحة، وقد أحضر معلّمين أكفاء من خارج العراق للتعليم الثانوي ضمن شرطين: الالتزام القومي الحق، ومبادئ التربية الصحيحة.
ثم تولّى منصب أستاذ في أغسطس/آب 1927 في دار المعلمين العليا (وكانت الدار قد أُقيمت بمبادرة منه عام 1923)، وكان الدافع الذي حدا بساطع على طلب تعيينه في دار المعلّمين هو قناعته بأنّ السبيل الوحيد لإصلاح التعليم هو البدء بإعداد المعلّم الجيّد، وقام ساطع بتدريس علم النفس وأصول التدريس والتطبيقات التدريسية، ولم تنحصر أعماله في التدريس بل ساهم إلى جانب ذلك بتدقيق الكتب المدرسية، وإصلاح البرامج، كما قام بوضع مشروع قانون المعارف 1929، وإصدار مجلّة التربية والتعليم، وألّف كتاب أصول التدريس، ثم أُلغيت دار المعلّمين، وأعُيد إلى منصب مراقب التعليم في وزارة المعارف العراقية من 1 تشرين “أكتوبر” 1930م إلى 31 كانون الأول “ديسمبر” 1931، ثم انتقل إلى العمل بكلية الحقوق، وعمل رئيساً لها لمدّة أربع سنوات في 22 كانون الأول “ديسمبر” 1931م إلى 15 أيلول “سبتمبر” 1935، ثم أُسند إليه خلال السنة والنصف الأخيرة مدير الآثار القديمة علاوة على منصبه، ثم اقتصر عمله بين 11 تشرين أول “أكتوبر” 1936م إلى 11 حزيران “يونيو” 1941 على مديرية الآثار القديمة.
إلى جانب هذه المناصب التربوية والتعليمية والثقافية الهامّة والمؤثّرة لم يتوقّف ساطع الحصري عن الكتابة والدعوة إلى الوطنية والقومية، فقال في محاضرة ألقاها عام 1923 في دار المعلّمين التي أنشأها في ذلك التاريخ قال عن الوطنية والقومية:
“الوطنية والقومية من أهمّ النـزعات التي تربط الفرد البشري بالجماعات، ومن المعلوم أنّ الوطنية هي حبّ الوطن والشعور بارتباط باطني نحوه، والقومية هي حبّ الأمّة والشعور بارتباط باطني نحوها. والوطن من حيث الأساس هو قطعة من الأرض. والأمّة -في حقيقة الأمر- هي جماعة من البشر. فنستطيع أن نقول بناء على ذلك، إنّ الوطنية: هي ارتباط الفرد بقطعة من الأرض تعرف باسم الوطن، والقومية هي: ارتباط الفرد بجماعة من البشر تعرف باسم الأمّة”.
وكانت هذه المحاضرة نواة لأهمّ كتبه عن الوطنية والقومية وهو “آراء وأحاديث عن الوطنية والقومية”، كما دوّن أهمّ وجهات نظره في عوامل القومية وفي التأصيل للقومية العربية أثناء فترة إقامته في العراق.
ثم استلم حزب البعث الحكم في العراق عام 1963، وقد احتلّ المفكّر القومي العربي ميشيل عفلق مكانة عالية آنذاك لأنه اعتبر القائد المؤسّس لحزب البعث، لذلك كانت أقواله وآراؤه في القومية والوطنية تأخذ مجراها إلى التطبيق والتنفيذ، وقد اجتهد حزب البعث أن يصبغ العراق في كل المجالات الإعلامية والتربوية والاجتماعية والفنية بصبغة وطنية وقومية عربية، ومن المؤكّد أنه استهدف التوحيد الوطني والقومي لكل الشعب العراقي.
خضع العراق كما رأينا لنهج واحد هو النهج القومي العربي لمدّة ثمانين عاماً، وقد تعاقبت على قيادته وتوجيهه قيادات ذات مستوى فكري عميق أرادت أن تجعل منه عراقاً وطنياً وقومياً، لكنّ العراق يجنح إلى التفكك بعد عام 2003 كما أشرت في بداية المقال فهل هذا الأمر مفاجئ؟ وأين نجد جذوره؟
الحقيقة أننا نجد جذور التفكك في الطرح الوطني والقومي العربي الذي جاء مع الملك فيصل، فالقومية والوطنية التي دعا إليهما ساطع الحصري وحزب البعث لم تفرز وحدة وطنية وقومية بل أفرزت توجّهات عنصرية رغم كل دعاوي إنسانية القومية ومضمونها الثقافي، واتضح ذلك عندما جرّد حزب البعث حملات “الأنفال” لتدمير الأكراد في الشمال، وأفرزت توجّهات استئصالية وقمعية للدين دون الاكتراث والاهتمام بعمق رسوخ الدين وتغلغله في كل فروع حياة الشعب العربي في العراق بسبب العلمانية التي لم تقف عند حدود الفصل بين الدين والدولة، بل حقّرت كل ما هو ديني وسخّفته، مما جعلت الفرد يلجأ إلى طائفته لحماية ذاته من مثل هذا التعدّي الشرس، وأفرزت الاستبداد الذي مثّله صدّام أبشع تمثيل بسبب النخبوية التي مثّلتها القيادات القومية طوال تاريخ العراق الحديث.
الخلاصة: حكمت العراق الحديث شخصيات وطنية وقومية متميّزة في فهمها الوطني والقومي، وفي ولائها كذلك لقوميّتها ووطنيّتها، وأخضعت كل مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية والفنية إلخ… لمنهجها الوطني والقومي العربي، ومع ذلك يتجه العراق الآن إلى التفكك، وما ذلك إلا بسبب ذلك المنهج الوطني والقومي الذي لم ينتج وحدة وطنية وقومية، بل أنتج عنصرية ومعاداة للدين واستبداداً.