تطبيق الديمقراطية: قراءة في الفشل وإمكانية النجاح
ارتفعت خلال السنوات الماضية كثير من الأصوات التي تدعو إلى تطبيق الديمقراطية في كل البلاد العربية، وإلى الأخذ بمبدأ السوق وتوسيع الحريات الاقتصادية، وإلى الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان، ودعت هذه الأصوات إلى التزام المواثيق الدولية ومؤسساتها ومعاييرها في تطوير حياتنا على كل الأصعدة من أجل أن نستطيع تأهيل ذاتنا لدخول عصر العولمة.
وقد يتبادر إلى بعض الأذهان إلى أنّ الدعوة إلى الديمقراطية والحرية الاقتصادية والمناداة بحقوق الإنسان هي دعوة جديدة تناولتها أقلام المتخصصين لأول مرة.
لكن الحقيقة هي أنّ كل تلك المفردات تناولتها الأقلام سابقاً في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فقد دعا بعض الكتاب في القرن التاسع عشر الخلافة العثمانية إلى إصدار وثيقة تقر بحقوق الإنسان، ودعوا إلى تحرير اقتصاد الخلافة من القيود الاقتصادية المختلفة وربط الخلافة باقتصاد السوق.
كما دعوا إلى إقرار دستور للبلاد يحدّد الحقوق والواجبات لكل المستويات في الخلافة العثمانية، كما دعوا إلى القيام بإجراءات ديمقراطية تتمثل بإقرار انتخابات وإنشاء برلمان يصدر التشريعات المناسبة لمختلف شؤون الخلافة.
وقد مارست الدول الأوروبية الضغوط من أجل تحقيق ذلك وتنفيذه، وقد استجابت القيادة العثمانية لكل تلك الضغوط الداخلية والخارجية فأصدرت خط كلخانة في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1839م الذي يعتبر بمثابة إعلان حقوق الإنسان في الخلافة العثمانية، كما أصدرت الخط الهمايوني الشريف في 18 شباط/فبراير عام 1856م الذي ألحق اقتصاد الخلافة العثمانية باقتصاد السوق.
كما أصدرت دستوراً عام 1876م نص على وجود مجلس للنواب وآخر للأعيان وعلى انتخابات تشريعية، وبالفعل فقد جرت عدة انتخابات في أوقات متعددة، وصدرت عن المجلس التشريعات المناسبة التي تعالج أوضاع المسلمين الاقتصادية والاجتماعية والقانونية إلخ. . .
وقد كانت هناك تجارب مماثلة في مصر في القرن التاسع عشر في الدعوة إلى الديمقراطية وتحرير الاقتصاد وإقرار حقوق الإنسان إلخ. . . خلال فترة حكم محمد علي باشا وأولاده وأحفاده التي ابتدأت عام 1805م.
فقد صدرت تشريعات وأحكام وقوانين تتعلق بإقامة مجلس للشورى وإجراء انتخابات وإقرار تعليم المرأة وفتح مدارس خاصة بها إلخ…..
وما دمنا في صدد استعراض التجارب الماضية في القرن التاسع عشر فلابد من الإشارة إلى تجربة خير الدين التونسي في تونس الذي أقر دستوراً في عام 1860م، أقام على أساسه مجلساً للشورى.
أما في القرن العشرين فقد انتشرت بعد الحرب العالمية الأولى أوسع التطبيقات للديمقراطية وحرية الأحزاب وإنشاء البرلمانات وحرية الصحف وإقرار حقوق الإنسان وحرية السوق إذ شملت العراق ومصر وسورية ولبنان إلخ….
ثم ازدادت الدول العربية المطبقة للديمقراطية واقتصاد السوق والمنفذة لمبادئ حقوق الإنسان بعد الحرب العالمية الثانية عندما استقلت وتحررت من الاستعمار الأوروبي في الخمسينات والستينات مثل: ليبيا، تونس، السودان، المغرب، الجزائر، موريتانيا إلخ…
إذن ليست الدعوة إلى تطبيق الديمقراطية وحرية السوق والأخذ بحقوق الإنسان جديدة كل الجدة على واقعنا الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بل هي مفردات مطروقة منذ القرن التاسع عشر، بل وأخذت طريقها إلى التطبيق في معظم أنحاء العالم العربي.
لذلك فمن الواجب على الداعين إلى الأخذ بها الآن أن يدرسوا تلك التطبيقات، ويبحثوا عن الأسباب التي جعلت تلك القيم والمبادئ لا تصبح جزءاً من تكوين المجتمع وبيئته، بل بقيت شيئاً خارجياً غير متجذر في واقعه.
ويمكن أن نمثل على ذلك الفشل بدولتي العراق ومصر فهما دولتان كبيرتان نسبياً وقد استقلتا بعد الحرب العالمية الأولى في ثلاثينات القرن الماضي، ثم دخلتا عصبة الأمم بعد الاستقلال.
وقد أخذت كل منهما بالنظام الديمقراطي وحرية اقتصاد السوق، فقد صدر في مصر دستور عام 1923م أقرّ حريات الصحف وسمح بتشكيل الأحزاب، وأوجب إجراء الانتخابات البرلمانية وجعل الوزارة مسؤولة أمام البرلمان وفصل بين السلطات.
وقد ترأس سعد زغلول العائد من المنفى الوزارة عام 1924م، ثم ترأس البرلمان عام 1926م، وقد حدث الشيء نفسه في العراق حيث صدر دستور عام 1923م نظم العلاقة بين السلطات الثلاث.
لكننا نجد أنّ الأوضاع انقلبت في كلا البلدين في ستينات القرن العشرين إلى الضد فيما كانت عليه فألغيت الديمقراطية ونظام حرية السوق وانتقل البلدان إلى نظام ديكتاتوري اشتراكي مورست فيه أقصى انتهاكات لحقوق الإنسان.
فما الذي أدى إلى هذا الفشل؟ وما الذي جعل تلك المبادئ لا تصبح جزءاً من واقع المجتمع وتكوينه؟
الأرجح أنّ أحد الأسباب الرئيسية في فشل تلك المبادئ هو النقل الحرفي لصورتها الغربية دون أدنى مراعاة لمنظومة أمتنا الثقافية وشخصيتها الحضارية، وفي هذا تجاهل أنّ الديمقراطية ككل نتاج اجتماعي وليدة عدة ظروف اقتصادية ودينية وسياسية خاصة.
لذلك يجب أن نراعي عند إعادة تطبيقها المنظومة الثقافية والشخصية الحضارية لساحة التطبيق، وهذا بكل أسف لم تقم به القيادات القومية التي كانت تقود بلادنا العربية بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، بل طبقت الديمقراطية بصورتها الحرفية التي كانت موجودة عليها في أوروبا.
ويمكن أن يتضح لنا خطأ القيادات القومية إذا قارنا فعلها بفعل قيادات أخرى إزاء تطبيق الديمقراطية وهي قيادة دولة إسرائيل، فعندما طبقت إسرائيل الديمقراطية راعت الجانب الديني التوراتي في حياة الشعب اليهودي.
لذلك نجد أنها احترمت ميراثه الديني فهي لم تشرع أية تشريعات مخالفة لهذا الميراث بل على العكس كانت التشريعات متفقة مع القيم الدينية التي يطرحها الدين اليهودي كعطلة السبت وإيجاب عدم العمل في هذا اليوم، والسماح للأحزاب الدينية بالنشاط السياسي، ورعاية المدارس الدينية والإنفاق الحكومي عليها، واحترام رجال الدين وتقدير رأيهم في الشؤون العامة إلخ. . .
ويتضح لنا خطأ القيادات القومية مرة ثانية عند تطبيقها الحرفي للاشتراكية الشيوعية في ستينات القرن العشرين حيث روّجت لكل المبادئ التي تعادي الدين وتصطدم معه اصطداماً كاملاً وتستهدف اقتلاعه من واقع المسلمين من مثل:
لا إله والكون مادة، الدين أفيون الشعوب، تـأجيج الصراع الطبقي، وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا، واعتبار القيم الدينية تخدم الطبقة الرجعية إلخ. . .
ويتضح لنا حجم هذا الخطأ إذا قارناه بموقف قيادة دولة إسرائيل من التطبيق الاشتراكي الذي تجسّد في الكيبوتز والموشاف، وهي قرى ومستوطنات تأخذ بالنهج الاشتراكي الشيوعي، لكنها لم تطبق الاشتراكية الشيوعية حرفياً بل قامت بعملية فرز للنظرية الاشتراكية الشيوعية، وأخذت منها ما لا يتعارض مع ميراثها الديني، وكان منها المبادئ التالية:
وإني في نهاية حديثي عن قيادة إسرائيل أكرر أسفي لاستشهادي بقيادة إسرائيل مرتين، ولكنها المفارقة المؤلمة التي تجعل الدارس لا يستطيع السكوت عليها وهي أن تحترم قيادات إسرائيل ميراثها الديني في حين لا تفعل ذلك القيادات القومية العربية.
لم يكن النقل الحرفي للديمقراطية الغربية والاشتراكية الشيوعية هو الخطأ الوحيد الذي وقعت فيه القيادات القومية في بلادنا العربية، بل ربما كان هذا الخطأ نتيجة خطأ آخر وهو نقل القومية بصورتها الحرفية كما جاءت في الغرب.
فقد اعتبرت تلك القيادات القومية أنّ الأمة تتكون بتأثير عناصر اللغة والتاريخ أو بتأثير عنصر المكان إلخ. . . لكنها لم تعتبر الدين عنصراً من عناصر بناء الأمة وبالذات الدين الإسلامي.
مع أنّ دراسة أحوال منطقتنا العربية يجعلنا نقول إنّ الدين الإسلامي عامل رئيسي في بناء الأمة التي تقطن العالم العربي إن لم يكن العامل الوحيد في وجودها، فهو الذي وحّد ثقافتها وقيمها وموازينها وعاداتها وتقاليدها ولغتها واقتصادها وأجناسها إلخ. . .
إنّ هذا الخطأ في تقدير دور الدين الإسلامي في بناء أمتنا مع وضوح ذلك الدور كان مرده إلى نقل النظريات الغربية في بناء الأمم وتطبيقها على واقعنا دون أدنى مراعاة لهذا الواقع، ودون النظر المستقل إليه بمعزل عن النظريات الغربية.
والآن على ضوء ما سبق يمكن أن نقرر بأنّ خطأ النقل الحرفي للديمقراطية كنظام سياسي دون مراعاة لمنظومة الأمة الثقافية وشخصيتها الحضارية كان نتيجة لخطأ أسبق هو النقل الحرفي للقومية الغربية، ونفي اعتبار الدين الإسلامي عاملاً من عوامل بناء الأمة العربية.
طالما أنّ بلادنا العربية مدعوة إلى تطبيق الديمقراطية، ولكي لا نكرر الأخطاء السابقة علينا أن نتعامل تعاملاً جديداً مع الديمقراطية يقوم على تحليل المبادئ والقيم والآليات التي تقوم عليها هذه الديمقراطية ثم نعرضها على منظومة أمتنا الثقافية وشخصيتها الحضارية، فنقر ما يتوافق معها ونرفض ما يتعارض معها.
ففي حال التحليل والتفكيك للديمقراطية نجد أنها تقوم على المبادئ والقيم والآليات التالية:
وعند استعراض العناصر السابقة نجد أنّ بعضاً منها يتعارض مع ديننا الإسلامي الذي هو أصل منظومتنا الثقافية وشخصيتنا الحضارية، ومن هذه العناصر المتعارضة:
أما بقية العناصر الديمقراطية وآلياتها التي أشرنا إليها سابقاً فهي لا تتعارض مع ثوابت ديننا الإسلامي بل هي في بعض الأحيان من مبادئ الدين الإسلامي: كإيجاب الشورى بين الحاكم والمحكوم، واعتبار الانتخاب وسيلة لشرعية الحاكم، وتقنين الوسائل التي تحاسب المسؤولين إلخ. . .
رأينا فيما سبق أنّ القيادات القومية نقلت الديمقراطية الغربية نقلاً حرفياً دون أدنى اعتبار لمنظومة الأمة الثقافية وشخصيتها الحضارية، وقد أدى ذلك النقل الحرفي إلى نتائج سلبية على المستوى الحضاري، لذلك فالأمة الآن مدعوة إلى تعامل جديد مع الديمقراطية يقوم على إعادة النظر في قيمها ومبادئها وآلياتها على ضوء منظومة أمتنا الثقافية وشخصيتها الحضارية المنبثقة عن ديننا الإسلامي، والأخذ بما يوافق هذه المنظومة وإبعاد ما يخالفها.