انطلق المشروع الغربي الصهيوني بعد الحرب العالمية الأولى لتجزئة وتفتيت أمتنا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا من أجل استغلالها ونهب خيراتها، وتحقيق زرع إسرائيل في فلسطين، ومحو شخصيتها الحضارية التاريخية من أجل تحقيق التغريب.
وقد نجح المشروع الغربي الصهيوني في تحقيق التجزئة السياسية، فقسم بلاد الشام إلى أربع دول هي: سوريا، لبنان، فلسطين، الأردن.
كما نجح في تدمير الخلافة العثمانية من خلال إثارة المكونين لهذه الخلافة، وهما: العرق العربي والتركي على بعضهما البعض، مما أدى إلى تقاتل العرب مع الأتراك في الحرب العالمية الأولى، وانقسام الخلافة العثمانية إلى قسمين: عربي بقيادة الشريف حسين، وتركي بقيادة كمال أتاتورك.
وقد توجه المشروع الغربي الصهيوني إلى تحريك الطوائف و الأعراق والإثنيات في العالم العربي، ودغدغة أحلامها بكيانات مستقلة من أجل تفتيت الأمة، وحقق ذلك من خلال دول للمسيحيين والعلويين والدروز بعد الحرب العالمية الأولى في كل من لبنان وسوريا.
وقد وعد اليهود بإقامة دولة لليهود في فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى، ونجح في إعلانها عام 1948، وهو الآن يدغدغ أحلام الأكراد في دولة تمتد من إيران شرقا إلى البحر المتوسط غربا مرورا بالعراق وسوريا وتركيا.
نستطيع أن نقرر أن المشروع الغربي الصهيوني حقق نجاحات إلى حد ما في تفتيت العاملين السياسي والاجتماعي من كيان أمتنا، ونجح إلى حد كبير في تحقيق النهب الاقتصادي وبخاصة فيما يتعلق بأسعار البترول، حيث موّل أوروبا وأحيا اقتصادها بعد الحرب العالمية الثانية من خلال فرض أسعار رخيصة لسعر برميل البترول لمدة أربعين سنة.
نجح المشروع الغربي الصهيوني في تحقيق التفتيت في مجالات الوحدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لكن الوحدة الثقافية بقيت عصية على التفتيت، وهي التي مثّلت الحلقة الأخيرة من مجالات التعبير عن حضور الأمة ووجودها، وقد ظهر ذلك في القضية الفلسطينية والجهاد الأفغاني.
لقد تعرضت الوحدة الثقافية لعدة محاولات للتفتيت كان أولها عن طريق الفكر القومي: الفرعوني والعربي، أما الفكر القومي الفرعوني فاعتبر أن الشعب في مصر ليس جزءا من الأمة العربية الإسلامية، بل اعتبره أمة مستقلة، ترتبط بتاريخ الفراعنة القديم، ودعا إلى هذه الأفكار عدد كبير من كتاب مصر وكبار مثقفيها من أمثال: أحمد لطفي السيد، وطه حسين، وسلامة موسى، وعباس محمود العقاد..إلخ. وبناء على تلك التوجهات دعا طه حسين إلى نقل الحضارة الغربية نقلا حرفيا لأن مصر تنتمي إلى الغرب وإلى البحر المتوسط وإلى أوروبا وليس إلى الشرق، ودعا إلى أخذ الحضارة الغربية: حلوها ومرها، وحسنها وسيئها دون تمييز ودون فصل.
وكذلك دعا ساطع الحصري رائد الفكر القومي العربي إلى اعتبار أهل العراق والشام جزءا من الأمة العربية التي لا يشكل الدين الإسلامي عاملا من عوامل بنائها ووجودها، لكن هاتين الدعوتين القوميتين: الفرعونية والعربية بقيتا دعوتين مختصتين بالنخب الثقافية في البلاد العربية، ولم يتعد ذلك إلى جماهير الأمة، لذلك بقيتا محدودتي الأثر، ويمكن أن نعتبر أنهما فشلتا في تفتيت الوحدة الثقافية.
ثم جاءت المحاولة الثانية لتفتيت الوحدة الثقافية عن طريق الفكر الماركسي الذي طبقه جمال عبد الناصر في مصر ثم تبعته عدد من الدول العربية منها سوريا والعراق والجزائر وليبيا والسودان واليمن.. إلخ. وقد اعتبر هذا الفكر الماركسي أن الدين هو أصل التأخر والانحطاط، وهو أصل التخلف في المجتمع، لذلك يجب استئصاله وإبعاده من أجل حياة حرة كريمة يسود فيها العقل والعلم والحضارة، ويجب أن نبعد الخرافات والأوهام والشعوذات التي يروج لها رجال الدين عن الآخرة والجنة والنار من أجل قيادة الجماهير لصالح طبقة الأغنياء والرأسماليين.
لكن هذه المحاولة فشلت في تحقيق أهدافها، وعلى العكس من ذلك جاءت الصحوة الإسلامية التي عاد فيها الناس إلى الدين، وانتشرت مظاهر إسلامية كانت مختفية، منها: الحجاب، والكتاب الإسلامي، والبنوك الإسلامية، والعمل الخيري الإسلامي إلخ.
ثم جاءت المحاولة الثالثة لتفتيت الوحدة الثقافية عن طريق “مشروع ملالي إيران” الذي انطلق بعد وصول الخميني إلى طهران 1979، وتقوم هذه المحاولة على افتعال التصادم بين “المذهب السني” و”المذهب الشيعي” اللذين يمثلان أكبر منظومتين ثقافيتين في الكيان الثقافي الإسلامي، ويعني تصادمهما أكبر نجاح في تفتيت الوحدة الثقافية، وزادت مخاطر التصادم والتفتيت في “مشروع ملالي إيران” بعد أن وقّعت إيران الاتفاق النووي مع دول مجلس الأمن الخمس وألمانيا في 14/7/2015، حيث أطلق التوقيع يد إيران في المنطقة، واعترف بها لاعبا أساسيا، وبدأت تحصد نتائج ذلك في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
ليس من شك بأن الأخطر في “مشروع ملالي إيران” هو استهدافها تحويل هذه الأمة من “أمة إسلامية” إلى “أمة شيعية”، ولكي تنجح إيران في تحقيق هذا الهدف لابد من تفتيت الوحدة الثقافية تفتيتا كاملا، وصياغتها صياغة جديدة لتكون مناسبة لتكوين هذه” الأمة الشيعية”.
وسخّر “مشروع ملالي إيران” كل إمكانات إيران المالية والاقتصادية والعسكرية والسياسية من أجل تحقيق ذلك الهدف، كما استغل الطوائف الشيعية في كل العالم الإسلامي، و حاول أن يربطها به من أجل الانتصار في معركته وتحقيق أهدافه.
ليس من شك بأن “ملالي إيران” يعيشون أوهاما مريضة عندما يستهدفون تحويل هذه “الأمة الإسلامية” إلى “أمة شيعية” وسيفشلون قطعا في ذلك، لأني أعتقد أن الأمة تملك وعيا كافيا بأن معركتها مع الغرب الذي يريد أن يفتتها لصالح إسرائيل ومن أجل نهب خيراتها، وليست معركتها بين “مذهبي سني” و”مذهب شيعي”، وأن هذه المعركة التي يفتعلها “ملالي إيران” إنما هي تضليل عن معركتها الحقيقية مع الغرب.
أما المحاولة الرابعة لتفتيت الوحدة الثقافية فقد جاءت عن طريق “داعش” (تنظيم الدولة الإسلامية)، والخطورة في وجود “داعش” هي دعواها أنها الممثل الرئيس لأهل السنة، والمدافع عن مظلوميتهم في العراق وغيرها في وجه “مشروع ملالي إيران”، وتدعي أنها الصورة الأنقى للوحدة الثقافية المرتبطة بالنص الصحيح من قرآن كريم وسنة شريفة، ولكن ممارستها العملية على الأرض من أسوأ الممارسات وأغلظها وأقساها، وهو ما يركز عليه الإعلام الغربي ويبرزه.
من الواضح أن الغرب يطيل في عمر “داعش” ويغذي مختلف الأطراف للتصادم معها من أجل توليد تيار يأتي معلنا نبذ الوحدة الثقافية القائمة على الدين، وتوليد ثقافة معادية للدين، أو على الأقل تدعو إلى تحييد الدين وإبعاده عن مجالات السياسة، كما حدث في الغرب عندما وقعت حرب الثلاثين عاما في أوروبا بين البروتستانت والكاثوليك، ثم نتج عن ذلك صلح وستفاليا بتاريخ 1648م، وكان ذلك الصلح هو بداية التيار العلماني الذي يقوم على فصل الدين عن الدولة، وهو ما يطمح الغرب إلى توليده في منطقتنا من خلال دعم “داعش” وخلق التصادم المستمر معها.
الخلاصة: لقد استهدف المشروع الغربي الصهيوني وحدة الأمة بالتفتيت، واستطاع أن يحقق نجاحات في مجالات الوحدة السياسية والاجتماعية، ولكنه فشل إلى حد ما في تفتيت الوحدة الثقافية، في محاولتين عن طريق الفكر القومي والماركسي، ولكنه لم ييأس، وبدأ بمحاولتين جديدتين.
ولما كانت الوحدة الثقافية أهم ما نملك الآن، وهي ملاذنا الأخير، وهي ما يمكن أن نبني عليه من أجل إعادة حضور الأمة الفاعل، فإن الوقوف في وجه محاولات التفتيت الأخيرتين المتمثلتين في “مشروع ملالي إيران” و “داعش”، وتبيان خطورتهما، والعمل على تحصين الأمة من أخطارهما هو واجب الوقت على علماء الأمة النابهين، وواجب الوقت على الجماعات والأحزاب والهيئات التي تجتهد في إنهاض الأمة وتحقيق دور حضاري لها.
المقال كما ظهر في الجزيرة نت الوحدة الثقافية.. ملاذنا الأخير