مرت علينا الآن ذكرى الهجرة، وهي ذكرى عظيمة، تنقلنا من عام إلى عام، وهي إذ تمر علينا تذكرنا بانتصارات المسلمين السابقة، وبالتضحيات التي قدمها جيل الصحابة العظيم من أجل بناء الأمة، وإيجاد أرض لهذه الأمة. وإن أبرز ما يستوقف المسلم في انطواء عام هجري ودخول عام هجري جديد هو التساؤل أمام سر اختيار المسلمين للهجرة مبتدأ لتاريخهم، وهو اختيار غريب بكل المقاييس في ضوء تقاليد الأمم والشعوب السابقة والمعاصرة لهم التي كانت تختار تاريخاً مرتبطاً بملوكهم وأنبيائهم، كما حدث مع الرومان عندما سموا الأشهر بأسماء قياصرتهم،
وكما حدث مع المسيحيين الذين ربطوا التاريخ بميلاد عيسى عليه السلام ، لكن هذا الاستغراب يزول إذا عرفنا أن الإسلام وتربية الرسول صلى الله عليه وسلم صاغا القيادات الإسلامية صياغة جديدة تعي دور المنهج في تحريك التاريخ، وتعي دور الأشخاص في بناء الأمم، وتقدم المنهج على دور الأشخاص، وهذا ما سنجد تفصيله في مقال أنزلناه في هذا العدد وكنّا أجبنا فيه عن ثلاث تساؤلات: لماذا كان عمر بن الخطاب هو الذي اختار بداية التاريخ الإسلامي؟ ولماذ لم يعتمد المسلمون التواريخ التي كانت سائدة في محيطهم الثقافي؟ وما الذي يعنيه هذا الاختيار؟
نقلت الروايات التاريخية أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي اختار الهجرة مبتدأً للتاريخ الإسلامي، والمتأمل بهذه الواقعة ترد على خاطره عدة أسئلة منها:
لماذا كان عمر بن الخطاب هو الذي اختار بداية التاريخ الإسلامي؟
ولماذا لم يعتمد المسلمون التواريخ التي كانت سائدة في محيطهم الثقافي؟
وما الذي يعنيه هذا الاختيار؟
أما بالنسبة للسؤال الأول فإنه ليس ذلك بعيداً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه المؤسس الأول لقواعد الحكم الإسلامي في مختلف المجالات، فقد تمت الفتوحات الكبرى في عهده وأنشأ الدواوين، ونظم القضاء، وأحكم نظام الشورى إلخ …،
لذلك ليس بعيداً على رجل مثل عمر بن الخطاب أن يفكر في وضع بداية متميزة للتاريخ الإسلامي، لأنّ هذه الخطوة تكون استكمالاً للدولة التي وضع عمر بن الخطاب قواعد بنيانها.
لكن ليس معنى هذا أنّ عمر بن الخطاب هو الذي انفرد بمثل هذا القرار، ولابدّ أنه خضع للمشاورة مع الصحابة الآخرين، ككل القرارات الأخرى التي أخذها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والتي أخضعها للحوار المفتوح والمشاورة مع أهل الرأي من الصحابة رضي الله عنهم.
كما حدث في عدم توزيع أرض سواد العراق على المقاتلين المسلمين، فكانت الحصيلة اعتماد الهجرة مبتدأ للتاريخ الإسلامي وليس شيئاً غير الهجرة.
أما بالنسبة للسؤال الثاني فإنّ المسلمين لم يقلّدوا الآخرين في اتباع تاريخ من تواريخهم وذلك لامتلاء ذواتهم بشخصيتهم الحضارية المتميزة، وقد ساهم في تكوين ذلك الامتلاء ثلاثة أمور:
الإيمان بالرسالة المنوطة بهم المتمثلة في قوله تعالى:
(وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطاً لتكونوا شُهداءَ على الناسِ ويكون الرسولُ عليكم شهيداً) (البقرة،143).
وفي قوله تعالى:
(كنتم خيرَ أمةٍ أخرجَتْ للناسِ تأمرون بالمعروفِ وتَنْهَوْنَ عن المنكرِ وتؤمنونَ باللهِ) (آل عمران،110).
والتي عبّر عنها ربعيّ بن عامر رضي الله عنه عند مواجهته لرستم قائد الفرس في قوله:
“جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”.
الاعتقاد بأحقية الدين الإسلامي وبأنه آخر الأديان وأكملها، وبأنّ محمداً صلى الله عليه وسلم سيد الرسل وخاتمهم، وبأنّ القرآن الكريم معجزة الله الأخيرة للبشر.
تَمَيُّزُهم في عقائدهم وعبادتهم وأذانهم وصلاتهم وشعائرهم إلخ …، وكان هذا التميّز ثمرة من ثمرات توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم ومقتضيات الصراط المستقيم الذي يوجب مخالفة أصحاب الجحيم.
لقد ولّدت الأمور السابقة غنى في نفوس المسلمين، وثقة في المنهج، وتميزاً في السلوك، وإحساساً بالدور التاريخي الجديد الذي يجب أن يكون من مقتضاه تأريخاً متميزاً.
أما بالنسبة للسؤال الثالث عن معاني اختيار الهجرة كمبتدأ للتاريخ الإسلامي فتفرض عدة أسئلة نفسها على الباحث في هذا المجال أولها:
لماذا لم يختر الصحابة مولد الرسول صلى الله عليه وسلم منطلقاً للتاريخ الإسلامي؟
ومن المعلوم أنّ مولد الرسول صلى الله عليه وسلم كان عام الفيل، وهو العام الذي قصد فيه أبرهه الحبشي الكعبة ليهدمها وجلب معه الفيلة في حملته تلك، ولكن الله حفظ الكعبة وحدثت المعجزة بأن سلط عليهم طيراً أبابيل فأهلكتهم، وتحدثت عن ذلك “سورة الفيل” في القرآن الكريم.
ومما يقوّي هذا الاتجاه بأنّ دولة الروم كانت قد اتخذت ولادة المسيح عليه السلام منطلقاً لتأريخها.
وكان مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ليس مولداً نكرة بل كان مولداً مترافقاً مع أحداث بارزة ومشهورة في كل الجزيرة العربية عززته آيات قرآنية.
فلماذا لم يجعل المسلمون من مولد الرسول صلى الله عليه وسلم منطلقاً لتأريخهم الخاص بهم؟
أرجّح أنّ ذلك ثمرة لتربيتهم القائمة على تقديم المنهج على الشخص، وتقديم الرسالة على الرسول، وقد رسخ الإسلام ذلك ويتضح ذلك بعدة وقائع منها:
ومما ينمي هذا الاتجاه تأكيد القرآن الكريم على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم في عدة آيات منها قوله تعالى:
(قُلْ إنما أنا بشرٌ مِثْلُكُم يوحَى إلَيَّ أَنَّما إلَهُكُم إلَهٌ واحدٌ فَمَن كان يرجو لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيعمَلْ عملاً صالِحاً ولا يُشْرِكْ بعبادةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف،110).
وإبراز بعض أفعاله التي خالفت الأَوْلى من مثل اتخاذه الأسرى بعد غزوة بدر حيث قال تعالى:
(ما كان لنبيٍ أن يكونَ لهُ أسرَى حتى يُثْخِنَ في الأرضِ تُريدونَ عَرَضَ الدنيا واللهُ يُريدُ الآخرةَ واللهُ عزيزٌ حكيمٌ) (الأنفال،67).
ومن مثل إعراضه عن عبدالله بن أم مكتوم طمعاً في إسلام وجهاء قريش فقال تعالى:
(عَبَسَ وتَوَلَّى . أن جاءَهُ الأعْمى . وما يُدْريكَ لعلّهُ يزَّكَّى . أو يذَّكَّرُ فتنفَعَهُ الذّكْرى. أمّا مَنِ اسْتَغْنى . فأنتَ لهُ تَصَدَّى . وما عليكَ ألاَّ يَزَّكَّى) (عبس،1-7).
إنّ تقديم الرسالة على الرسول والمنهج على الشخص لا يتعارض بحال من الأحوال مع تعلّق المسلمين بالرسول صلى الله عليه وسلم وحبّهم إياه أكثر من أولادهم وذواتهم، واتخاذه قدوة لهم، ولا يتعارض مع اعتقادهم أنه سيد ولد آدم، وأنه خير الرسل وإمامهم، وأنه الرحمة المهداة إلى البشرية كما قال تعالى:
(وما أرسلناكَ إلا رحمةً للعالَمينَ) (الأنبياء،107).
وأنه خير العابدين على وجه الأرض. لا تعارض بين كل ذلك التعظيم والتوقير والتقدير للرسول صلى الله عليه وسلم وبين تقديم الرسالة على شخصه لأنّ الإسلام هو الذي وجههم إلى تلك الأفعال وهو الذي رسّخ في حسّهم ذلك التقديم.
إنّ تقديم الرسالة على الرسول وتقديم المنهج على الشخص كانت نقلة نوعية في تاريخ البشرية، لأنّ معظم الضلال الذي وقعت فيه الأمم السابقة على الإسلام كان من تعظيمهم الأشخاص وتقديمهم على المنهج والوقوع بالتالي في تأليههم وعبادتهم بعد ذلك.
إنّ اختيار الصحابة للهجرة وليس ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثمرة التربية السابقة التي تقوم على تقديم المنهج على الشخص وتقديم الرسالة على الرسول.
فالهجرة كانت جزءاً من حركة الرسالة على الأرض، وكانت منعطفاً مهماً في حياة المسلمين.
وكانت نقلة نوعية في المجتمع الإسلامي إذ نقلتهم من الاستضعاف إلى التمكين، ومن الدعوة إلى الدولة، ومن الجماعة إلى الأمة، لذلك اختيرت الهجرة لتكون مبتدأً لتأريخهم.