تتطلّع المنطقة إلى النهضة منذ قرن أو يزيد، لكنّ النهضة لم تتحقّق ليس هذا فحسب، بل زاد حجم التأخّر والضعف في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية إلخ….
ونحن من أجل رصد ظاهرة النهضة بشكل دقيق، ومن أجل التوصّل إلى نتائج محدّدة في عدم تحقّقها، سنأخذ مصر كنموذج تطلّع إلى النهضة، وعايشها، واحتكّ بالغرب في مرحلة مبكّرة منذ مجيء نابليون إلى مصر واحتلالها عام 1799م.
ثم قاد محمد علي باشا تجربة تحديث مصر بعد أن استولى على الحكم في عام 1805م، فأنشأ جيشاً قوياً، وأرسل البعثات إلى فرنسا، وفتح المدارس، واهتمّ بالزراعة والصناعة، ثم جاء الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882م ليزيد فرصة احتكاك مصر بالحضارة الغربية.
ثم حدثت الانعطافات الجذرية في مصر بعد الحرب العالمية الأولى، لتصبح القومية المصرية هي الرابط بين الناس، وقامت ثورة 1919م بقيادة سعد زغلول معبّرة عن ذلك، لكن هل هناك أمّة مصريّة على أرض الواقع؟ ومن أين جاءت هذه المقولة؟
لقد جاءت هذه المقولة من قياس مصر على فرنسا، وإسقاط الوضع الجغرافي لفرنسا على مصر، فلمّا كان العامل الجغرافي هو العامل الحاسم في نشوء الأمّة الفرنسية، وكان العامل الجغرافي من مثل النيل والصحارى المحيطة بها ذات أثر كبير في حياة الشعب المصري، كان القول بالأمّة المصرية على غرار الأمّة الفرنسية.
لكن هل يستطيع العامل الجغرافي أن يفسّر الأبعاد الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للشعب المصري في مطلع القرن العشرين كما فسّرها لدى فرنسا؟
لا أظنّ ذلك بحال من الأحوال، بل لابدّ من إضافة العامل الديني لتفسير كل الأبعاد السابقة لدى الشعب المصري، كما أنّ مصر لم تبق منعزلة عن محيطها كأمّة مستقلّة، بل ساهمت في خطوات معاكسة للتأصيل المصري الفرعوني الذي قامت عليه بعد الحرب العالمية الأولى.
وشاركت في إنشاء الجامعة العربية عام 1945م، وأصبحت القاهرة مقرّها الرئيسي، ثم شاركت مصر في حرب فلسطين عام 1948م. وكانت هاتان المساهمتان ردّاً عملياً على دعوى فرعونية مصر وإقراراً بارتباط مصر بمحيطها العربي والإسلامي، ثم جاء انقلاب عام 1952م ليرسّخ هذا الارتباط، وليلغي كل المقولات السابقة حول الدعاوي الفرعونية، وليبرز أنّ مصر جزء من الأمّة العربية وليرسّخ ذلك في أول دستور أقرّته الثورة بعد عام 1952م.
كذلك مرّت مصر بمرحلة ليبرالية رأسمالية بعد الحرب العالمية الأولى، فما صورة هذه المرحلة؟ وكيف تشكّلت؟
لقد اعتمدت مصر النظام البرلماني بعد الحرب العالمية الأولى، وأقرّت دستوراً عام 1923م، وقد تضمّن ذلك الدستور تكوين الأحزاب، وإقرار الحرّيات العامة، وإصدار الصحف، وإجراء الانتخابات إلخ…
ونشأت رأسمالية محلية مرتبطة بالرأسمالية المركزية في أوروبا، وقامت على البنوك الربوية وحرية التجارة، والارتباط بالسوق العالمي إلخ…
وكان الأساس الذي قام عليه هذا النقل للجانبين الرأسمالي والليبرالي من الحضارة الأوروبية القول بأنّ مصر جزء من أوروبا كما قال الخديوي اسماعيل، أو أنّ مصر جزء من البحر المتوسّط ومرتبطة بالغرب وأن العقل المصري لم يكن شرقياً في أيّ وقت من الأوقات، بل كان غربياً باستمرار كما قال طه حسين.
ثم انهارت التجربة الليبرالية بعد انقلاب عام 1952م، ولم تترسّخ أيّة قِيَم ليبرالية في الحياة المصرية، وجاء نظام مغاير رسّخ قيماً ديكتاتورية جديدة والسبب في ذلك أنّ التجربة الليبرالية بنيت على خطأين:
الأول: بأنّ مصر جزء من أوروبا، وهذا ليس صحيحاً بحال من الأحوال ولا حاجة لمناقشته. الثاني: النقل الحرفي للتجربة الأوروبية في المجال الليبرالي الرأسمالي دون النظر إلى الواقع المصري، وعدم الانطلاق من الحاجات المصرية والاستفادة من الآليّات الليبرالية، وعدم الإبداع في المواءمة بين المجتمع المصري والتجربة الليبرالية.
ثم تبنّت مصر الفكر القومي العربي في الخمسينات، وجعلت هدفاً رئيسياً لها إقامة الوحدة العربية، وكان عماد هذه المرحلة أيضاً القياس والمشابهة مع بعض التجارب الأوروبية في القومية وفي الوحدة وبالذات ألمانيا.
وليس من شكّ بأنّ قيام الوحدة العربية حلم جميل، ولكنّ الحلم والمشابهة لا يكفي لتحقيق الوحدة بل لابدّ من الانطلاق من المواقع لإقامة هذه الوحدة.
والآن: كيف حاول الفكر القومي العربي نقل التجربة الألمانية حرفياً؟ وكيف قاس الفكر القومي العربي القضية العربية على القضية الألمانية؟
لقد كانت ألمانيا مجزّأة ومقسّمة إلى عشرات المقاطعات والولايات في القرن التاسع عشر، لكنها أمّة واحدة لأنها تملك لغة واحدة وتاريخاً واحداً حسب النظرية القومية الألمانية، ثم ساعدها ذلك على إقامة الوحدة الألمانية أمران:
الأول: وجود القطر-القاعدة التي كانت أساساً لإقامة هذه الوحدة وهي بروسيا أكبر المقاطعات الألمانية.
الثاني: وجود شخصية قيادية تتحمّل مسؤولية التوحيد، وهي (بسمارك) الذي قاد ألمانيا إلى التوحيد.
وقياساً على ألمانيا فإنّ مصر أو العراق يمكن أن يكون القطر-القاعدة التي تكوّن نواة للوحدة العربية، وإنّ جمال عبد الناصر أو صدّام حسين يمكن أن يكون بسمارك العرب.
وبالفعل قامت وحدة عربية بين مصر وسورية عام 1958م، لكنها انتهت بعد ثلاثة أعوام في عام 1961م.
وكذلك قام بسمارك العرب صدّام حسين بغزو الكويت عام 1990م ليطرد منها عام 1991م ثم قامت بعض الصيغ الاتحادية في الغرب والشرق عام 1989م لكنها عادت وانهارت.
وها قد مرّ قرن كامل على ترديد شعار الوحدة، ولم تتحقّق أيّة وحدة حتى الآن، والسبب في ذلك ليس أنّ الوحدة مستحيلة لكن لأنّ النقل الحرفي للتجارب لا يكفي لإقامة هذه الوحدة، بل لابدّ من فهم الواقع، وإدراك العوامل التي تجمع الأمّة، والعمل على تقويتها وإنمائها، وإضعاف العوامل المضادة للوحدة.
ثم مرّت مصر بمرحلة اشتراكية في الستينات في مصر، واعتبر الدارسون بناء على التشخيص الماركسي للتاريخ أنّ هناك طبقة مستغلّة هي الطبقة البرجوازية، وأنّ هناك طبقة مسحوقة هي طبقة البروليتاريا، وأنّ هناك صراعاً طبقياً، ويجب أن تحكم البروليتاريا، وتعزل الطبقة البرجوازية.
لذلك اتجهت الحكومة المصرية بناء على تلك المعطيات الماركسية إلى تأميم كل القطاع الخاص في الستينات، وإلى محاربة الدين واعتباره عاملاً من عوامل ترسيخ الرجعية والخرافة والتأخّر والانحطاط ويمكّن الطبقة البرجوازية من التحكّم في المجتمع والدولة.
وقد جاءت كل تلك المقولات من خلال مشابهة وضع مصر الاقتصادي ومقايسته على وضع الدول الأوروبية، ومن خلال إسقاط أوضاع أوروبا على أوضاع مصر.
لقد أدّى مثل هذا النقل الحرفي في التحليل الطبقي إلى نتائج كارثية على مستوى الاقتصاد والاجتماع والسياسة إلخ…، وقد تجلّى ذلك في نكبة حزيران عام 1967م، وفي تدمير الاقتصاد المصري، وفي ازدياد مساحة الفقر، وتراكم الديون، وضياع الاحتياط النقدي إلخ…
مع أنّ هناك فسحة في التحليل الماركسي للأوضاع الطبقية والاقتصادية في العالم، فقد اعتبر ماركس ذاته أنّ هناك نمطاً أسيوياً للإنتاج يختلف عن تطوّر أوروبا الاقتصادي الذي درسه ماركس بالتفصيل والذي وضع على أساس دراسته نظريّته في الصراع الطبقي وفي ضرورة وصول البروليتاريا إلى الحكم.
لكن الرغبة في المشابهة والمقايسة، والنقل الحرفي للأحكام، واختفاء الإبداع في المواءمة بين الواقع والنصوص هو الذي جعل الاشتراكيين والماركسيين العرب لا يستفيدون من تلك الفسحة مع أنه يفترض أن يكون الواقع هو الأصل في التحليل والدراسة وبناء الأحكام وفي تلمّس الحاجات.
الخلاصة: لقد تعثّرت النهضة على مدار القرنين الماضيين لعدّة أسباب لكنّ أبرزها هو النقل الحرفي لتجارب الغرب وإسقاطها على مصر، وعدم الاجتهاد في المواءمة بين الواقع وبين تجارب الغرب، وعدم الإبداع في هذه المواءمة.