ليس من شك بأن الاقتصاد والسياسة والثقافة أهم العوامل التي تجمع وتوحّد الأفراد والجماعات وتقومهم، وأوروبا الآن بدأت وحدتها بمضامين اقتصادية فأزالت الحواجز الحركية وصكت العملة الواحدة اليورو وذلك لأنها مختلفة ثقافياً: فهناك لغات متعددة، وتاريخ متناحر، وعادات وتقاليد متباعدة إلخ. . . لذلك قدمت أوروبا الخطوات الاقتصادية من أجل تحقيق توافق سياسي يؤدي إلى توحد ثقافي لأنه الأصعب منالاً، أما في حال أمتنا فإن العامل الثقافي هو الذي وحّدها وحافظ على كيانها رغم قيام دول سياسية متعددة ومتناحرة في بعض الأحيان على مدار القرون الماضية من أمثال دولة السلجوقيين والبويهيين والحمدانيين والمرابطين والأغالبة والأدارسة إلخ. . . ومن الأمور التي تؤكد أهمية الدور الثقافي في شخصية أمتنا هو أن صلاح الدين الأيوبي بالإضافة إلى دوره العسكري وخوضه المعارك الكثيرة، قام بتقريب العلماء، وبناء المدارس، وتشجيع الشعراء على قول الشعر الحماسي، وبث الوعاظ لتدريس سورتي التوبة والأنفال من أجل توضيح أحكام الجهاد والحث عليه إلخ. . .
من نافلة القول التذكير بأن الوحدة الثقافية لأمتنا قامت على عاملين أساسيين هما: الإسلام والعروبة، فقد صاغ الإسلام قيم أمتنا ومبادئها ومثلها التي تدعو إلى التوحيد والتطهر وتزكية النفس ومكارم الأخلاق وإعمار الدنيا ونبذ الشرك وإقامة شرع الله واتباع الأنبياء والخوف من عذاب الله ورجاء جنة الله إلخ. . . وقد وعى علماء الأمة أهمية هذين العاملين في حفظ كيان الأمة لذلك ابتكروا عشرات العلوم التي تستوعبهما وتحافظ عليهما فكان منها في مجال القرآن: أسباب النـزول، والناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني، ومدارس التفسير، وصور إعجاز القرآن إلخ. . . وفي مجال الحديث: علم التعديل والتجريح، وعلم الرواية والدراية، ومصطلح الحديث، وطبقات الرجال إلخ. . . وفي مجال اللغة العربية: علم النحو والصرف، والبيان والبديع، ومعاجم اللغة وقواميسها. . . وفي مجال الشعر: العروض والقوافي. وقد كان الاهتمام بحفظ نصوص القرآن والسنة وتحديد قواعد فهمهما ليس لقدسيتهما بل لأهمية دورهما في حفظ كيان الأمة.
وقد تعرّض عاملا بناء الوحدة الثقافية لأمتنا إلى هجمات عنيفة في الماضي والحاضر، ففي الماضي شككت فرقة الزنادقة بالقرآن الكريم وادعت تناقض آياته، مما اقتضى عالماً مثل أحمد بن حنبل إلى تأليف كتاب في الرد عليهم حمل عنوان “رسالة في الرد على الزنادقة والجهمية”، واقتضى تشكيل “ديوان الزنادقة” في خلافة المهدي العباسي من أجل المتابعة القضائية لهم مما يشير إلى استفحال خطرهم.
وقد هوّنت “الشعوبية” من شأن الجنس العربي، واستصغرته واستخفت به، وهوّنت من شأن اللغة العربية وبيانها ممّا دفع كاتباً مثل الجاحظ إلى تأليف أكثر من كتاب لتفنيد تلك التهم ومنها كتاب “البيان والتبيين” الذي أوضح فيه جمال البيان العربي واعتدال أصوله بالمقارنة مع بيان الأمم الأخرى.
وفي القرن الماضي تعرضت الوحدة الثقافية لأمتنا لأشرس حملة معادية لها استهدفت تغريبها في جزئياتها وفي كل شؤونها، وعبّرت عن هذه الدعوة المجنونة صيحات طه حسين في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” الذي دعا فيه إلى أخذ الحضارة الغربية حلوها ومرها لأنه طريق النهضة الوحيد في زعمه وتخيّله. وقد ترافقت دعوة التغريب تلك مع حركات اقليمية تدعو إلى تجاوز المرحلة العربية الإسلامية فكانت الفينيقية في بلاد الشام، والفرعونية في مصر، والبربرية في الشمال الأفريقي، والآشورية في العراق. وساهمت المرحلة الاشتراكية في ستينات القرن الماضي أيضاً في إضعاف الوحدة الثقافية لأمتنا وتفتيت جوانب منها، حيث انطلقت كتابات وحملات معادية للدين الإسلامي واعتبرته عامل الانحطاط الرئيسي في الأمة، لذلك يجب إبعاده عن منظومة الحياة الاجتماعية من أجل تحقيق نهضتها.
ومن الملاحظ الآن فشل بعض تلك الدعوات المعادية لوحدة أمتنا الثقافية ونجاح بعضها الآخر، فمن الدعوات التي ثبت فشلها الدعوة إلى التغريب الكامل، والدعوة إلى الاشتراكية، لكننا نجد في المقابل ازدهار الدعوات القطرية التي تجتهد الآن إلى التوصل لتأسيس ثقافي مستقل لكل قطر من أجل تحويل هذه الأمة الواحدة إلى أمم متعددة بحيث تكون هناك أمة أردنية، وأمة مصرية، وأمة جزائرية، وأمة عراقية إلخ. . .
لذلك من خلال الوعي بأهمية العنصر الثقافي في تكوين الأمة، ومن خلال الوعي بأهمية وحدتنا الثقافية أدعو “جريدة المستقلة” و”تلفزيون المستقلة” إلى تبني ميثاق يتعاهد فيه علماء هذه الأمة، وأهل الرأي فيها، ورجالاتها على تدعيم ثابتي الأمة المتمثلين في: الإسلام والعروبة، وعلى عدم مسهما بسوء، وعلى الانطلاق منهما من أجل إعادة الأمة إلى فاعليتها الحضارية، وعلى عدم التنكر لهما، لأن المتنكّر لهما يكون قد حكم على نفسه بأنه ليس من هذه الأمة.
إنني أدعو إلى تبني هذا الميثاق والعهد من أجل تدعيم المكاسب التي حصلتها أمتنا حتى الآن من جهة، ومن أجل عدم تكرير الأخطاء السابقة من جهة ثانية، ومن أجل التركيز على البناء والمستقبل من جهة ثالثة.