بدأ التحالف الأمريكي-البريطاني عدوانه على العراق في 20 من مارس/آذار 2003م وسقطت بغداد في 9 من ابريل/نيسان 2003م، وقد ادعى التحالف أنه شن عدوانه على العراق بشكل رئيسي من أجل إلغاء وتعطيل مفعول أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها، وادعى كذلك أنه جاء من أجل تحرير العراق وإزالة الديكتاتورية، وأنه جاء من أجل إبعاد خطره عن جيرانه إلخ…
لكن المؤكد أنه ليست الأسباب المذكورة سابقاً هي الأسباب الحقيقية للعدوان على العراق، فأمريكا تعرف قبل غيرها أن النظام العراقي ليس الديكتاتورية الوحيدة في المنطقة، وأنه لم يعد يشكل خطراً على أحد إلخ… فطالما أن الأسباب المعلنة ليست الأسباب الحقيقية للعدوان، فما الأسباب الحقيقية له؟ وكيف يمكن أن نواجهه؟
أما عن الأسباب الحقيقية للعدوان الأمريكي-البريطاني على العراق فيمكن أن نذكر منها الأسباب التالية:
غزت أوروبا العالم العربي في القرن التاسع عشر، واستكملت استعمار معظم أقطاره وبلدانه في القرن العشرين بعد الحرب العالمية الأولى، وقصدت تغريب أمتنا من خلال فرض الحضارة الغربية عليها، فأسقطت الخلافة، وغيرت التشريعات فأحلت القوانين الوضعية محل الشرائع الإسلامية، وفرضت الاقتصاد الرأسمالي الذي يقوم على الربا، وربطته بالاقتصاد الأوروبي، وحجّمت التعليم الديني ووسّعت التعليم المدني، ونصّبت حكومات تدعو إلى الايديولوجيا القومية لتكون بديلاً عن الرابطة الإسلامية، وجهر أتباعها من أمثال طه حسين وسلامة موسى وأحمد لطفي السيد وحسين فوزي بضرورة اتباع الحضارة الغربية بشكل حرفي، كما شكّكوا في كل قيمنا وأخلاقنا وعاداتنا وتقاليدنا وثوابتنا، فشكّكوا بصلاحية الإسلام للحكم، وشكّكوا بإلهية القرآن الكريم، وشكّكوا بعلومنا الإسلامية كالفقه وغيره، وشكّكوا في السنّة، وشكّكوا بقدرة اللغة العربية في مواءمة التطورات العلمية ودعوا إلى إحلال العامية مكانها تسهيلاً على الناس وخدمة للثقافة العامة!!!.
ثم جاءت المرحلة الاشتراكية وكان الموقف من الدين الإسلامي أشد عنفاً، فحاولت القيادات القومية الاشتراكية استئصال الدين الإسلامي من حياة المجتمع، واعتبرت الإسلام سبب التأخر، وأنه أفيون الشعوب إلخ… ولاشك أن المقام لا يتسع لعرض جهود أوروبا في فرض نموذجها الحضاري على أمتنا حيث أثار ذلك معارك ضارية في مجالات كثيرة ومتعددة، وكانت النتيجة أن أمتنا أفشلت التغريب، ودلّت على ذلك الصحوة الإسلامية التي انطلقت في سبعينات القرن الماضي، وهذا ما جعل أمريكا التي قادت الحضارة الغربية بعد الحرب العالمية الثانية إلى اعتبار الإسلام العدو الأول الذي يجب أن يُطوّع بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في عام 1989م، ولذلك فإن الهدف الحقيقي من احتلال العراق هو فرض التغريب على الأمة، واستكمال المهمة التي فشلت أوروبا في تحقيقها خلال قرن ونصف، وكالعادة فإن مثل هذا الهدف وضعت له عناوين برّاقة من مثل نشر الديمقراطية، وإشاعة مناخ الحرية، وإزالة الديكتاتورية، وإيجاد اقتصاد حر إلخ… وقد كانت تلك العناوين واضحة في “مبادرة الشراكة الشرق أوسطية من أجل الديمقراطية” التي أعلنها كولن باول في 12/12/2002م.
يشكل البترول سلعة رئيسية لتشغيل جميع المرافق الاقتصادية، بدءاً من السيارة، ومروراً بالمصنع، وانتهاء بالصاروخ، وقد أشارت الإحصاءات إلى أن أمريكا تستهلك منه في كل يوم (20) مليون برميل، تستورد 60٪ من هذه الكمية من بترول الشرق الأوسط، ومن المتوقع أن تزداد كمية الاستهلاك اليومي مع مرور الوقت، وبما أن الاحتياط الأمريكي من البترول هو (20) بليون برميل فقط لا يكفي لتغطية حاجات القرن الحادي والعشرين كله، فلابد من الاستيلاء على العراق التي تملك ثاني أكبر احتياط بترول في العالم وهو (112.5) بليون برميل في أقل التقديرات، ويمكن أن يصل (225) بليون أو أكثر من (300) بليون برميل في بعض التقديرات الأخرى، وتبرز أهمية الاستيلاء على نفط العراق في ضوء عدم اكتشاف العالم بديلاً مجدياً عن النفط حتى الآن مع كل النفقات التي صرفت خلال القرن الماضي على مثل تلك التجارب والأبحاث.
تهدف أمريكا من احتلال العراق إلى إزاحة إحدى القوى الرئيسية من مواجهة اسرائيل، وتهدف إلى تمكين اسرائيل لتصبح سيدة المنطقة، ولتفرض الاستسلام على العرب بالشروط التي تريدها، وها قد تحقق لها ما تريد، و”خارطة الطريق” أول الغيث الذي سيشطب المقاومة ويلغي السلاح، ويفتح الباب عريضاً للاقتتال الفلسطيني، كما أن اسرائيل ستكون أول المستفيدين من احتلال العراق فستستفيد من البترول العراقي الذي سيصل إليها من خلال إحياء خط البترول: كركوك-حيفا الذي كان يزوّد فلسطين بالبترول، ثم توقّف بعد قيام اسرائيل عام 1948م. وستستفيد اسرائيل من المياه العراقية، فمن المتوقع تزويدها بالمياه عن طريق أنبوب يمتد من الفرات ودجلة إلى صحراء النقب، وذلك لأن العراق يعتبر ثاني أغنى دولة في الشرق الأوسط بالمياه بعد تركيا. وستستفيد اسرائيل من قلة السكان في العراق مع اتساع الأرض الزراعية، فمن المتوقع أن تقوم بتهجير فلسطينيي الضفة الغربية وغزة واسرائيل إليها من أجل التخلص من القنبلة السكانية الفلسطينية التي تهدد اسرائيل من جهة، ومن أجل الاستيلاء على مزيد من الأرض الفلسطينية من جهة ثانية.
لاشك بأن التحرك الأمريكي السابق، والأهداف التي رسمتها يعتبر من أكبر التحديات وأخطرها على أمتنا في تاريخها كله، وهذا يستدعي أعلى درجات المقاومة الواعية من قيادات أمتنا ومفكريها ودعاتها وجماعاتها وأحزابها لإفشال مخطط التغريب الثاني، كما أفشلت الأول خلال القرن العشرين، لذلك يجب البناء على الإيجابيات التي حصلتها أمتنا خلال الصراع مع دعاة التغريب، ومعالجة السلبيات وعوامل الضعف في كيان الأمة، لذلك يجب التفكير الجدي والعميق بكل الوسائل التي تحتم انتصار أمتنا في المعركة القادمة، وأبرز الوسائل التي يجب الأخذ بها والتي تقوي ذلك، هي:
من الواضح أن جانباً كبيراً من عدم فاعلية جماهير المسلمين في التصدي لأعداء الأمة في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من الأماكن يعود إلى عدم وجود أطر جماعية توحّد طاقة هؤلاء المسلمين، وتنظم جهودهم، وتستوعب استعدادهم للبذل والتضحية، وتعرفهم بأوليائهم وأعدائهم، وترشدهم في كل خطوات الطريق إلخ… ولو تفحصنا الأسباب التي أدت إلى غياب هذا التأطير الجماعي لأفراد المسلمين، وإلى ضعف هذا الجانب الجماعي في حياتهم، لوجدنا أن أبرزها يعود إلى الاضطراب الفقهي في حكم الانتماء إلى جماعة، فبعض الفقهاء المعاصرين يحرمه، وبعضهم يبيحه بحسب الأحوال، وبعضهم يوجبه، وجاء الاضطراب من إسقاط الأحكام المترتبة على تحريم الخروج على جماعة المسلمين في حال وجود خليفة المسلمين وإمامهم على وقتنا الحاضر حيث سقطت الخلافة، مع أن الحكم الشرعي الأرجح هو وجوب الانتماء إلى جماعة شرعية وبخاصة في هذه الظروف الصعبة المحيطة بالمسلم والمملوءة بالمحن والفتن من كل نوع، لذلك لابدّ من إشاعة هذا المناخ الفقهي الذي يوجب العمل الجماعي على كل مسلم من أجل الانتقال بالمسلم من الفردية إلى الجماعية، حيث لا تستطيع الأمة مواجهة أعدائها، ولا حل مشاكلها، ولا بناء مستقبلها إلا من خلال بناء جماعي عريض يستوعب معظم أفراد الأمة إن لم يكن كلهم .
2- الانحياز إلى الأمة وثوابتها:
لاشك بأن المعركة القادمة مع دعاة التغريب ستكون من أخطر المعارك في حياة الأمة، لأنها تستهدف وجودها وشخصيتها وهويتها من جهة، ولأنها تأتي والعدو في أقوى حالاته وأمتنا في أضعف حالاتها من جهة ثانية، لذلك يجب رفع سقف الواجب المطلوب من أبناء الأمة نحو أمتهم، لذلك يجب أن يصبح المطلوب منهم الانحياز إلى الأمة وثوابتها، وأبرز هذه الثوابت : القرآن الكريم، والسنة المشرفة، واللغة العربية، والوقوف إلى جانب حقنا المشروع في فلسطين من البحر إلى النهر، والإقرار بعداوة اسرائيل وأمريكا لهذه الأمة، واعتبار أن أي احتلال لأرض عربية كارثة إلخ… فلم يعد مقبولاً من أحد يدعي الانتماء إلى هذه الأمة فرداً أو جماعة أو حزباً، وينكر ثابتاً من الثوابت السابقة، أو يشكك فيه، أو يوالي عدواً للأمة، أو يتعاون معه، أو يستهزئ بالمقاومة والاستشهاد، أو يستبشر بالاحتلال إلخ… إن معركة الأمة الإسلامية مع أمريكا ودعاة التغريب لن تكون سياسية فحسب بل هي سياسية وشرعية، فالعدو لا يستهدف بترول المنطقة واقتصادها وخيراتها فحسب بل يستهدف أيضاً دينها وعقيدتها ونموذجها الحضاري إلخ… لذلك فالمطلوب من أبناء الأمة أن يربطوا بين الموقف السياسي والموقف الشرعي في الدفاع عن الأمة.
3- الحرص على الوضوح والدقة الشرعيين:
يزعم دعاة التغريب – الآن – أنهم لا يريدون استئصال الإسلام من حياة المجتمع كما فعل الشيوعيون ذلك في الستينات، ويزاودون على أبناء الأمة في حرصهم على الإسلام، ويدعون أنهم يريدون إنقاذ الإسلام من أيدي علمائه التقليديين الذين أساءوا فهمه، لذلك لن تكون معركتنا القادمة مع دعاة التغريب حول الاعتراف بالإسلام، ولكن ستكون حول تأويلهم لنصوص الإسلام، فهم امتلكوا رصيداً كبيراً من التأويلات خلال القرن الماضي، شملت معظم أحكام الإسلام في مجال العقيدة والمرأة والحدود والميراث إلخ…، كما امتلكوا قائمة كبيرة من المؤولين خلال القرن الماضي، من أبرزهم: محمد شحرور، محمد سعيد العشماوي، محمد أركون، حسين أحمد أمين، نصر حامد أبوزيد إلخ…، فمن التأويلات التي زعمها المؤولون السابقون بأن الإسلام لم ينصف المرأة في مجال الميراث، وتعدد الزوجات إلخ… لذلك يجب تغيير هذه التشريعات فنجعل نصيب المرأة مساوياً لنصيب الرجل في الميراث، ونعاقب بالحبس من يتزوج بأكثر من واحدة، ومن التأويلات التي دعوا إليها في مجال العقيدة بأن نفهم النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة على ضوء ثقافة العصر، وسيفتح هذا الفهم باباً لشرور عظيمة في مجال العقيدة لا مجال للتفصيل فيه الآن. ومن الأمور التي دعوا إليها عدم إعمال أحكام الحدود لأن فيها قسوة ووحشية وكانت انعكاساً للبيئة الجاهلية، وزعموا بأنه ليس هناك نظام سياسي في الإسلام لذلك يمكن أن نقبل بأي نظام سياسي من الأنظمة المعاصرة إلخ… لذلك سيكون على العلماء والفقهاء الحرص على توضيح أحكام الشريعة في كل مجال، والوقوف عندها بشكل دقيق، من أجل إنجاء الأمة من فتنة التأويلات والمؤولين، لأن المهم عند هؤلاء المؤولين زحزحة الأمة عن بعض أحكام الإسلام في البداية من أجل استكمال إزاحة الإسلام بشكل كامل في مرحلة ثانية.
هذه بعض الوسائل التي تقوي موقف الأمة في مواجهة التغريب، فهل ستنتهي معركة التغريب في القرن الحادي والعشرين كما انتهت معركة التغريب في القرن العشرين بانتصار أمتنا الإسلامية؟ هذا ما نتطلّع إليه ونأمله، ونرجوه من الله تعالى.