انحطاط الأمم: الاتحاد السوفيتي نموذجاً
لقد كان انحطاط الاتحاد السوفيتي وتخلّيه عن الشيوعية آية من آيات الله، ويوماً من أيام الله حيث خرج السحرة – لأول مرة في التاريخ – يعلنون بطلان سحرهم أمام أتباعهم.
إن ذلك الحدث لم يأخذ حقه من التبصر والتبين والدراسة، مع أننا نحن الإسلاميين نكاد نكون أول الفئات التي واجهت أباطيل الشيوعية في العالم الإسلامي، ووضحت تناقضاتها للمسلمين، ودفعت ضريبة ذلك الدم الكثير من دماء أبنائها في تلك المواجهة، في حين مشى في ركابها معظم التيارات القومية والوطنية في العالمين العربي والإسلامي.
وأنا من أجل إلقاء الأضواء على ذلك الحدث الكبير والاستفادة من وقائعه، فسأبرز أهم العوامل التي سببت انحطاط الاتحاد السوفيتي وتخلّيه عن الشيوعية، ثم سأستخلص أنواع المشاكل التي تواجه الأمم، ثم سأقوّم المشاكل التي واجهت أمتنا في نهاية عهد الخلافة العثمانية على ضوء انحطاط الاتحاد السوفيتي، وأبيّن السبب في عدم النجاح في حلّها.
يعلل بعض الباحثين تصدّع الاتحاد السوفيتي وتخلّيه عن الشيوعية بعجزه الاقتصادي الذي نتج عن سباق حرب النجوم مع الولايات المتحدة الأمريكية ، لكن هذا العجز الاقتصادي ربما كان عاملاً في تسريع انحطاط الاتحاد السوفيتي وتمزقه ، لكنه غير كاف في تعليل التخلّي عن الشيوعية ، ومما يدل على ذلك ويؤكده أن نسبة النمو الاقتصادي السنوية في الاتحاد السوفيتي كانت من أوائل نسب النمو في العالم غداة تصدعه وتخليه عن الشيوعية ، لذلك لا بد من البحث عن عوامل في داخل النظرية الماركسية من أجل الوصول إلى تعليل تصدعه وتخليه عن الشيوعية ، لأن الماركسية كوّنت نظرته إلى التاريخ والإنسان والحياة ، وشكّلت فهمه لتطورات الحياة البشرية كما شكّلت مرجعيته في كل المجالات : الاقتصادية والسياسية والتربوية والثقافية والاجتماعية إلخ…
لقد فسّرت الماركسية التاريخ تفسيراً مادياً، وربطت التغيرات التاريخية جميعها بتطور وسائل الإنتاج من عبودية ومحراث وآلة حديثة، وقد حوت أفكاراً مناقضة للفطرة البشرية التي فطر الله البشر عليها، وكانت هذه الأفكار عاملاً أساسياً في توليد تناقضات في وجود الاتحاد السوفيتي أدت إلى انحطاطه وتصدعه وتخلّيه عن الشيوعية، وأبرز الأفكار المناقضة للفطرة البشرية، هي:
1- إقرار الإلحاد:
أنكرت الماركسية وجود إله، وقررت أنه “لا إله والكون مادة”، وليس من شك بأن هذا مخالف لفطرة الإنسان التي تقوم على التدين والتوجه إلى الله، فقد كان هناك عبادة وأماكن عبادة باستمرار على مدار التاريخ البشري، وكان هناك معبود دون انقطاع في كل المجتمعات، ولم تعرف البشرية مجتمعاً أنكر وجود الله إلا مجتمع الاتحاد السوفيتي ولم تعرف دولة رعت الإلحاد بشكل رسمي إلا دولة الاتحاد السوفيتي، وقد جاء كل ذلك من النظرية الماركسية.
2- إنكار حب التملك:
أنكرت الماركسية غريزة حب التملك عند الإنسان ، واعتبرتها مكتسبة وليست فطرية ، لذلك انتزع ستالين من الفلاحين مواشيهم وأراضيهم ومزارعهم وحوّلها إلى ملكية جماعية تطبيقاً للشيوعية التي تنكر غريزة حب التملك ، لكن الفلاحين ثاروا عند انتزاع أملاكهم منهم مما أدى إلى مواجهة بينهم وبين السلطة السوفياتية ، وكانت حصيلة الصراع مقتل 12 مليون شخصاً مما اضطر الاتحاد السوفيتي في النهاية إلى التراجع والإقرار بنوع من الملكية الصغيرة في دستوره في هذه المرحلة التي سمّوها المرحلة الاشتراكية على أن يعقب ذلك إلغاؤها في المرحلة الشيوعية التي ستجعل كل شيء مشاعاً في المجتمع ، وستجعل كل شيء ملكاً للجميع وذلك بعد انتهاء الصراع الطبقي حسب تخيلاتهم.
لقد اعترف علم النفس الغربي بغريزة حب التملك عند الإنسان، وقد ترتب على اعترافه ذاك معاداة الماركسية له وإيجادها علم نفس خاص بها يقوم على تجاهل غريزة حب التملك، وإنكار فطريتها في النفس البشرية.
3- تضخيم الجانب الجماعي:
ضخمت الماركسية الجانب الجماعي في المجتمع على حساب الجانب الفردي في الإنسان، وألغت ذاتية الإنسان، واعتبرته ترساً في دولاب المجتمع، واعتبرت أن تطور وسائل الإنتاج هي التي تغيّر كل شيء: الدين والأخلاق والعادات والتقاليد والفنون والثقافة إلخ… ولا دور للإنسان في ذلك إنما دوره هو أن يستقبل هذه التغييرات وينفذها، وركزت على مصلحة الطبقة العاملة على حساب مصلحة الأفراد، وقد تجسدت الطبقة العاملة في الحزب الذي تجسد في النهاية برئيسه الذي رُفع إلى مصاف الآلهة كما حدث مع ستالين.
لا شك بأن للإنسان جانبين فطريين هما: الفردي والجماعي وإلغاء أحدهما لمصلحة الآخر مناقض للفطرة، وهذا ما وقعت فيه الماركسية.
4- ديكتاتورية البروليتاريا:
دعت الماركسية إلى إقامة ديكتاتورية البروليتاريا من أجل النجاح في تطبيق النهج الاشتراكي والتوصل إلى الشيوعية ، وقد أدى تطبيق ديكتاتورية البروليتاريا إلى حصر السلطة في أيدي أشخاص محدودين ، لذلك فإن الصلاحيات التي عرفتها قيادة الحزب الشيوعي ، والتي تمتعت بها لم يعرفها الأباطرة ولا الأكاسرة ولا الفراعنة الذين ذهبوا مثلاً في سعة الصلاحيات وحرية التصرف بالأموال والعباد ، وقد أدى هذا الاحتكار للسلطة في الاتحاد السوفيتي إلى ظلم فريد في حجمه وأنواعه ونتائجه لا يمكن أن يقارن بأي ظلم عرفه مجتمع من المجتمعات ، ولا دولة من الدول السابقة .
لا شك بأن الدعوة إلى ديكتاتورية البروليتاريا هي دعوة إلى احتكار طبقة معينة للسلطة، وهي دعوة إلى ظلم الآخرين في الوقت نفسه وهذا مناف للفطرة البشرية.
5- إنكار المطالب الروحية للإنسان:
اعتبرت الماركسية الكون مادة، وانطلقت من حيوانية الإنسان، لذلك كان هدفها الرئيسي تحقيق حاجات الإنسان البيولوجية: الطعام والشراب، لكن الإنسان ليس جسداً فقط، بل هو جسد وروح، ولقد أنكرت الماركسية الجانب الروحي في كيان الإنسان، وأهملت بالتالي جانباً من حاجات الإنسان الأساسية، وناقضت الفطرة البشرية التي تتوق إلى تلبية الحاجات الروحية بالإضافة إلى تلبية الحاجات المادية.
6- إغفال المطالب القومية:
دعت الماركسية إلى الأممية ، واعتبرت تقسيمات الشعوب القومية من اختراعات البورجوازية ، لذلك دعت الطبقة العاملة من مختلف الشعوب إلى التلاقي وإلى تجاوز حدودها الإقليمية التي اصطنعها الرأسماليون ، ولكن النظرية الماركسية لم تستطع أن تحقق التعايش السليم بين الأعراق والأجناس والقوميات المختلفة التي احتواها الاتحاد السوفيتي ، بل بقي هناك تنافر قومي وعرقي وجنسي بين شعوب الاتحاد السوفيتي ، يشهد عليه سرعة تمزق الاتحاد السوفيتي إلى أعراقه وشعوبه وأجناسه السابقة بعد أقل من سبعين عاماً من نشوء الاتحاد السوفيتي .
هذه أبرز العوامل المناقضة للفطرة التي احتوتها النظرية الماركسية والتي ساهمت في انحطاط الاتحاد السوفيتي ، لذلك حاول قادته إنقاذه بطرح مشاريع إصلاحية من داخل النظام ، بدأها بريجينيف عندما أغرى العمال بحافز الربح لزيادة الإنتاج في المصانع ، ثم طرح بعده غورباتشوف – الغلاسنوست – في أول الثمانينات – والبريسترويكا – في منتصف الثمانينات ، لكن هذه الحلول لم تنجح بل تمزق الاتحاد السوفيتي وتخلى عن النظرية الماركسية ، وتبنى نهجاً آخر هو النهج الرأسمالي الديمقراطي ، فما سبب فشل تلك المشاريع في إصلاح شؤون الاتحاد السوفيتي؟ السبب هو أن الاتحاد السوفيتي كان يعاني تناقضات في وجوده وليس أمراضاً في وجوده، لذلك فإن الحل يجب أن يأتي من خارج النظرية الماركسية، وهذا ما تحقق عندما اتبع بوريس يلتسين النهج الديمقراطي الرأسمالي.
إذن تواجه الأمم نوعين من المشاكل:
الأولى: تناقضات وجود:
وهي المشاكل التي تأتي نتيجة ممارسات وأعمال وسلوك يخالف الفطرة البشرية، فالفطرة تصبر في البداية، لكنها تنفجر وتفجّر كيان الأمة معها في النهاية، والحل لمثل هذه التناقضات يأتي من خارج مرجعية الأمة.
الثانية: أمراض وجود:
وهي التي تعتور كيان الأمة نتيجة تداخلات أو أعمال أو ممارسات تخالف أصول المرجعية التي تعتمد عليها، والحل في هذه الحالة يأتي من خلال المرجعية التي تستند إليها الأمة.
والآن على ضوء ذلك يمكن أن نعتبر الاتحاد السوفيتي هو نموذج للأمة التي واجهت النوع الأول من المشاكل، وهي تناقضات الوجود المرتبطة بمخالفة الفطرة البشرية، ففي هذه الحالة يتولد الانحطاط الذي يؤدي بالأمة إلى الانهيار والتمزق ويكون الحل من خارج مرجعيته وقد كان حل تناقضات الاتحاد السوفيتي من الديمقراطية الرأسمالية، فلم تنجح الحلول التي طرحها بريجينيف وغورباتشوف من داخل النظرية الماركسية.
أما بالنسبة لأمتنا فلم تواجه في أية مرحلة من مراحل حياتها الطويلة أية تناقضات في وجودها لأن ممارساتها تقوم على مراعاة الفطرة البشرية المستندة إلى الدين الإسلامي الذي أنزله الله – تعالى – الخبير العليم بفطرة الإنسان وماضيه وحاضره ومستقبله ، لكنها واجهت بعض الأمراض التي ساهمت في إضعاف الأمة : مثل تفشي الأهواء والبدع ، ووجود التفسير الباطني لبعض أمور الدين ، وانتشار التصوف الغالي الذي ألهى قطاعاً من الأمة بأوهام الاتحاد بالله تعالى واستنزف طاقاتهم النفسية ، وظهور ضعف الاهتمام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أدى إلى تفشي بعض مظاهر المنكر في المجتمع الإسلامي إلخ… لذلك كان الحل لهذه الأمراض يجب أن يأتي من المرجعية الإسلامية التي ترتكز على القرآن الكريم والسنة المشرفة ، وهذا الذي قام به علماء الأمة وصالحوها على مدار التاريخ الإسلامي ، فكانوا يقللون من حجم هذه الأمراض في بعض الأحيان ، ويستأصلونها في أحيان أخرى ، ولكن المشكلة التي تولدت في العصر الحديث عندما حاولت بعض الحركات الإصلاحية بأن تأتي بالعلاج من خارج مرجعية الأمة : القرآن الكريم والسنة المشرفة ، ومن خارج نسقها الحضاري ، وسألقي الضوء على ثلاث محاولات في هذا المجال : الأولى في أواخر عهد الخلافة العثمانية ، والثانية في عهد محمد علي باشا في مصر ، والثالثة بعد الحرب العالمية الأولى على يد الفكر القومي العربي .
فقد حاولت الخلافة في أواخر عهدها حل مشاكلها ومعالجة أمراضها من خارج مرجعية الأمة القرآن الكريم والسنة المشرفة ، وكان محمود الثاني (1808م-1839م) أول من بدأ ذلك فقضى على الجيش الانكشاري عام 1826م وأصدر خط كلخانة عام 1839م الذي يعتبر بمثابة إعلان حقوق الإنسان ، وأصدرت الخلافة العثمانية بعد ذلك الخط الهمايوني عام 1856م الذي غيّر بعض الأسس الاقتصادية وغيّر وضع الأقليات المسيحية ، ثم أصدرت الخلافة دستوراً عام 1876م على غرار الدساتير الغربية ، وأجرت تحديثاً كاملاً لأنظمة التعليم والكتب المدرسية عام 1846م ناقلة المدرسة الفرنسية ، وأتبعت ذلك بإنشاء وزارة المعارف العمومية التي رسّخت ازدواجية التعليم الديني والرسمي عام 1847م ، وأنشأت محاكم مختلطة في عام 1847م ، وأنشأت قانوناً تجارياً في عام 1850م على غرار القانون التجاري الفرنسي إلخ… ثم ماذا كانت نتيجة محاولة الإصلاح من خارج النسق الحضاري الإسلامي ومن خارج مرجعية الأمة المتمثلة بالقرآن الكريم والسنة المشرفة ؟ كانت النتيجة سقوط الخلافة العثمانية وعدم نهوض الأمة.
وقد حاول محمد علي باشا تحديث مصر في مطلع القرن التاسع عشر، فاستعان بأتباع سان سيمون المطرودين من استانبول إلى مصر لتنظيم وزارة التعليم العام ، وأشرف الكاهن دوم رافائيل على مطبعة بولاق عام 1821م ، وقصر تعيين الموظفين في الدولة على المتخرجين من المدارس الرسمية دون المدارس الدينية واستكمل الإجهاز على المدارس الدينية عندما صادر الأوقاف المصرية متعللاً بأنه سينفق من أموال الدولة على هذه الأوقاف ؛ وكذلك أنشأ المحاكم المختلطة ، وجاء بقوانين مترجمة عن القوانين الفرنسية والسويسرية والبلجيكية إلخ… ثم ماذا كانت نتيجة محاولة الإصلاح من خارج النسق الحضاري الإسلامي ، ومن خارج المرجعية الإسلامية ؟ كانت النتيجة غرقها في الديون للدول الأجنبية ثم وقوعها تحت الاحتلال البريطاني عام 1882م.
وقد حاول الفكر القومي العربي بعد الحرب العالمية الأولى أن ينهض بالمنطقة، فأخذ النهج الديمقراطي الرأسمالي، ونقل نموذجه الثقافي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي إلخ… وطبقه في كل مجالات الحياة والمجتمع، ثم نقل الفكر القومي العربي النموذج الاشتراكي بعد الستينات، ونقل فلسفته للحياة وتفسيره الاقتصادي للتاريخ، وأدخل مبادئه وأصوله في كل شعب حياة المجتمع العربي، فماذا كانت نتيجة الإصلاح من خارج النسق الحضاري الإسلامي ومن خارج مرجعية الأمة المتمثلة بالقرآن والسنة؟ كانت النتيجة ضياع قسم كبير من أبناء الأمة، ورسوخ القطرية، وبروز الولاءات الإقليمية والطائفية، وتمكين إسرائيل.
تلك تجارب عاشتها أمتنا وكانت كلها تقوم على معالجة الأمراض من خارج النسق الحضاري لها، ومن خارج مرجعيتها القائمة على القرآن والسنة، فلم تنجح تلك التجارب في حل مشاكلها، بل زادت مشاكلها تعقيداً، وولّدت أمراضاً جديدة، لأن أمتنا تعاني أمراض وجود وليس تناقضات وجود، لذلك كان يجب أن يكون حل هذه الأمراض من داخل المرجعية التاريخية لهذه الأمة وهي القرآن الكريم والسنة المشرفة.
الخلاصة التي يمكن أن ننتهي إليها هي أن المشاكل التي تواجه الأمم تنقسم إلى نوعين : تناقضات وجود وأمراض وجود، أما تناقضات الوجود فهي المشاكل التي تأتي نتيجة مناقضة المرجعية التي تستند إليها الأمة للفطرة في بعض جوانبها وهي التي تؤدي بالأمة إلى الانحطاط ثم الانهيار والتمزق ، أما أمراض الوجود فهي التي تصيب الأمة بالضعف وتأتي نتيجة تفشي الأهواء والمنكرات والبدع إلخ… ، ويكون حل مشاكل تناقضات الوجود من خارج مرجعية الأمة ، أما أمراض الوجود فيكون حلها من داخل مرجعية الأمة ، وقد كان الاتحاد السوفيتي مثالاً لتناقضات الوجود لذلك انهارت الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفيتي وكان الحل بالنهج الديمقراطي الرأسمالي ، وقد كانت أمتنا مثالاً لأمراض الوجود لذلك يجب أن يكون الحل من مرجعية الأمة:
القرآن الكريم والسنة المشرفة ، لكن محاولات الإصلاح خلال المائتي سنة الماضية اتجهت إلى خارج مرجعية الأمة لذلك كان مصيرها الفشل وزيادة أمراض الأمة.
انهيار الاتحاد السوفيتي: رؤية إسلامية