لقد أنشأ حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، وقد احتوت الجماعة خلال مسيرتها الماضية عدداً من العلماء منهم: محمد الغزالي وعبد القادر عودة والبهي الخولي ومصطفى السباعي وعبد الكريم زيدان وغيرهم… ولكن أبرز العلماء الذين أحدثوا تغييراً نوعياً في بعض وجهات نظر الإخوان وآرائهم كان سيد قطب، فقد طرح أفكارا متعددة في مجال القومية والوطنية والديمقراطية والحكم والواقع العربي والإسلامي.
وإذا تجاوزنا الالتباس الذي حدث حول فكرة (تكفير المجتمع) التي فهمها بعضهم من بعض عبارات سيد قطب، فإننا لا خلاف على أن هناك إضافة وتسديدا وتصويبا لما طرحه حسن البنا في الحديث عن الديمقراطية والوطنية والقومية التي كانت سائدة في مصر آنذاك، فقد اعتبر سيد قطب القومية والوطنية نوعا من الأوثان الحديثة التي كانت تقتضي تعظيم الأقوام والأوطان والخضوع لها وصرف الحب لها، وجاءت لتجعل المسلم يستبدل أخوة القومية والوطنية بأخوة الإيمان، وكان هذا الموقف تسديدا لما طرحه حسن البنا عن القومية والوطنية والذي تجنب فيه أن يعطي الحكم الشرعي على القومية المطروحة آنذاك في حياة الشعب المصري، بل تحدث عن الأنواع المقبولة والمرفوضة من القومية والوطنية.
أما عن السلفيين فمن المعلوم أن السلفية منهج له بذور وأتباع في كل مناطق العالم الإسلامي، وتأتي نقطة القوة عند السلفيين في إحاطتهم بعلوم التراث، وحرصهم على تمحيص العقيدة واتباع السنة وإشهار أحاديثها الصحيحة، والبعد عن الأحاديث الضعيفة، لكن نقطة الضعف عندهم في سطحية وعيهم للواقع، وهذا جعلهم يقعون في خطأ إنزال أحكام شرعية صحيحة وسليمة على واقع مخالف، وهذا ما أوجد انفصالا لهم عن الواقع، وبعدا لهم عن مسار الأمة الحقيقي، والتفاعل معه، وبالتالي جعلهم موضع استغلال من بعض الحكومات، والحكام.
لكن الحركة السلفية بدأت التخلص من هذا الضعف في السنوات الأخيرة، وبدأ يتشكل عندها وعي سليم للواقع، وأكبر دليل على ذلك مسارها في مصر، ودخولها الانتخابات الأخيرة، وحصولها على 25% من مقاعد البرلمان.
وفي ظل هذا التطور في مسيرة الإخوان والسلفيين نحو الأفضل، تبقى عدة أسئلة مطروحة حول مستقبل الجماعتين، وحول العلاقة بينهما، وحول تطوير ذاتهما ومعالجة عوامل الضعف فيهما.
إن أولى الملاحظات التي يمكن أن نسجلها على حصول الإخوان على 47% من مقاعد البرلمان المصري، وعلى حصول السلفيين على 25% من مقاعده، وعلى حصول (النهضة) في تونس و(العدالة والتنمية) في المغرب على أكثرية في الانتخابات هي أن الإسلام مازال عميق الجذور في حياة شعوبنا مع كل محاولات التشكيك في أصوله ومبادئه، والتشويه لتاريخه وصحابته وأعلامه، ومع كل محاولات انتزاعه من حياة الشعوب واستئصاله من وجودهم والتي جرت خلال المائة سنة الماضية بعد الحرب العالمية الأولى بدءا من طروحات طه حسين وعلي عبد الرازق، ومروراً بعلمانية الحبيب بورقيبة واشتراكية جمال عبد الناصر وانتهاءً بهرطقات سيد قمني ومحمد أركون وأدونيس ومحمد شحرور وغيرهم.
إن ثاني الملاحظات على الانتخابات الأخيرة، تبين أن الأمة منحازة إلى الإسلاميين، وأنها عندما تعطى الحرية الكاملة في إبداء رأيها فإنها تختار الإسلاميين لأنهم خير معبّر عن ذاتها وشخصيتها وكيانها وهمومها وتطلعاتها، لذلك فعلى الإخوان والسلفيين أن يعوا أن الفضل في نجاحهم يعود للأمة بالدرجة الأولى، لذلك فإن قيمة الإسلاميين الحقيقية ليست في النجاح، ولكن قيمتهم الحقيقية تأتي من الإنجازات التي يمكن أن يقدموها في تمكين الأمة والدين وتحسين الأوضاع، وتطويرها في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والتربوية والأخلاقية والعسكرية والاجتماعية إلخ…، ومثال ذلك كوارث ورث عن أبيه مليون دينار فهذا المال قيمة والده، لكن قيمته تأتي عندما يحول هذا المليون إلى مليون ونصف المليون.
إن ثالث الملاحظات التي يمكن أن نضعها بين يدي الإسلاميين هي ضرورة وعيهم بالتجارب السابقة التي وقعت خلال العقود الثلاثة الأخيرة: وعي السلبيات والإيجابيات فيها ومن ذلك: تجربة حسن الترابي في السودان، وتجربة الجهاد الأفغاني في أفغانستان.
فقد استلم الترابي الحكم في عام 1989، وكان الأمل أن يصبح السودان بثرواته وخيراته بؤرة إشعاع، ونقطة انطلاق لإحياء الأمة من جديد، لكن لم يتحقق شيء من تلك الآمال، بل أدى حكم الترابي إلى تدمير السودان، وها هو السودان قد تمزق إلى شمال وجنوب، وانفصلت عنه دولة الجنوب المسيحية، وهناك احتمال أيضا أن تنفصل عنه منطقة ولاية دارفور الغربية، وهو الآن في وضع أسوأ مما كان عليه عندما استلمه الترابي في مختلف المجالات: الاقتصادية والدينية والعرقية والاجتماعية والثقافية، ولا شك أن حسن الترابي هو المسؤول الأول عن هذا التردي، ولا شك أن الآخرين الذين قادوا الإنقاذ مع الترابي يتحملون جانبا من المسؤولية ولكن بصورة أقل.
والتجربة الثانية القريبة هي تجربة الجهاد الأفغاني، فقد أعطت الأمة تأييدها الكامل لقادة الجهاد ومنهم: رباني وسياف وحكمتيار … ومنحتهم التأييد الكامل، ولم تبخل عليهم بمال أو سلاح أو خبرة أو شباب، فماذا كانت النتيجة؟ أصبحت أفغانستان ألعوبة بيد أميركا وأتباعها، ودفعت الأمة ثمنا باهظا في أفغانستان في مختلف المجالات: الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، وهذا سيجعلنا نتساءل: ما الدرس الذي يمكن أن يستفيده الإخوان والسلفيون من التجربتين السابقتين؟
الدرس المستفاد هو أن القيمة الرئيسية لهما في دفع مسيرة الأمة باتجاه أهدافها في مجال الاقتصاد والسياسة والثقافة والقيم والأخلاق والوحدة والعزة والبناء الحضاري، وليس الوصول إلى الحكم فحسب، وأن الفشل في الحكم سينعكس على أوضاع الأمة، وستدفع الأمة ثمناً باهظاً، ولا تتوقف آثار الخسارة عليهما فقط.
إن رابع الملاحظات التي يمكن أن نضعها بين يدي الإخوان والسلفيين في أن الأعداء سيشتغلون على إثارة الخلافات بينهما، وتعميقها من أجل القضاء على الطرفين، لذلك يجب عليهما ألا ينظروا إلى الاختلافات التي بينهما إلى أنها اختلافات تضاد بل اختلافات تنوع، وأن عليهما أن يعيا أنهما جزءان من أمة واحدة، فهذا ما يجعل الاختلاف بينهما وكأنه اختلاف أفراد في أسرة واحدة وفي مركب واحد.
إن خامس الملاحظات التي نضعها بين يدي الإسلاميين هي ضرورة انتباههم إلى أن التحدي الأكبر الذي تواجهه الجماعتان هو تفعيل جانب الوعي والإدراك والفهم عند المسلم المعاصر وتعميقه وزيادة مساحته، ومعالجة القصور الموجود حاليا، وخير مثال على ذلك القصور: قلة الدراسات التي تقوّم الإنتاج الثقافي والشرعي الإسلامي خلال المائة سنة الماضية في مختلف المجالات الاقتصادية والدعوية والعقائدية والفقهية إلخ، وتقوّم التجارب الإسلامية الجماعية المعاصرة من مثل جماعة أبي الأعلى المولودي في باكستان، وجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وجماعة النور في تركيا، وجماعة التبليغ في الهند.. إلخ…، وتقوّم أعمال العلماء المسلمين من أمثال محمد الغزالي وعبد القادر عودة ومحمد أبو زهرة وأبو الأعلى المولودي وسيد قطب ومصطفى السباعي، فإن الدين قام على جناحين هما: النقل والعقل، فالنقل كامل ومحفوظ، لكن العقل الذي يتعامل مع النقل هو مكان القصور.
لذلك كان أهم كتاب عرفه التاريخ الإسلامي –كما ذكر بعض الدارسين- هو كتاب (درء تناقض العقل والنقل)لابن تيمية، وفي مسمى آخر له (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول)، لأنه تناول القضيتين: النقل والعقل بالشرح والتوضيح، ولأنه بين أنه لا تناقض بينهما، وإن وجد فذلك ناتج من أن المنقول غير صحيح أو أن المعقول غير صريح.
لذلك فإن على الجماعتين أن تعالجا هذا القصور في الوعي بإصدار دراسات متعددة تقوّم الإنتاج الشرعي والثقافي المعاصر، وتقوّم علماءه وتجاربه الحركية، ثم تثري هذا الجانب أيضاً، بتقويمات لمختلف فروع الثقافة الشرعية الماضية وتطوراتها، من مثل: الفقه والأصول وعلوم القرآن وعلوم الفقه … وتثري هذا الجانب أيضا بتقويم الحضارة الغربية في مختلف مجالاتها المعرفية، ثم تبني على كل هذا استشراف المستقبل.
في النهاية: يتبين أن الفوز الأولي للإسلاميين ا(لإخوان والسلفيين) في الانتخابات المصرية رتب عليهما واجبات متعددة، منها: تحسين أوضاع الأمة في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والخلقية، ومنها: وعي التجارب الإسلامية المعاصرة والاستفادة منها والبناء عليها، ومنها: معالجة القصور في جانب تفعيل الوعي عند المسلم المعاصر.
Lorem Ipsum