نفى السيد محمود الزايد في رده ( “الحياة” – صفحة أفكار – 14/1/1998م ) على مقالي السابق أن تكون هناك أمة إسلامية، ونفى أن يكون هناك تجانس بين الأعراق في السلطة العثمانية على الخصوص وفي كل مراحل الخلافة الإسلامية على العموم، وإنني من أجل حسم هذا الموضوع الذي ستكون فيه كتابتي للمرة الأخيرة سأبدأ بنقل تعريف موسوعة السياسة لمفهوم الأمة فقد جاء فيها ما يلي: “أمة (Nation) مجموعة بشرية يكون تآلفها وتجانسها القومي عبر مراحل تاريخية تحققت خلالها لغة مشتركة وتاريخ وتراث ثقافي ومعنوي وتكوين نفسي مشترك والعيش على أرض واحدة ومصالح اقتصادية مشتركة مما يؤدي إلى إحساس بشخصية قومية، وتطلعات ومصالح قومية موحدة ومستقلة.
ومع هذا فهذه الشروط ليست نهائية ولا قاطعة فهناك أمم لا تتوفر فيها كل هذه الشروط وهناك شعوب توفرت فيها ولم تبرز إلى حيّز الوجود كأمم بل جماعات قومية داخل أمم متفرقة أخرى”(1).
ذلك هو تعريف الأمة، ألا ينطبق ذلك التعريف على الأمة الإسلامية؟ لقد كوّن المسلمون على مدار التاريخ مجموعة بشرية متجانسة، عاشوا تاريخاً واحداً هو تاريخ بناء حقائق الإسلام في النفوس والعقول وعلى الأرض، وكوّنوا تراثاً ثقافياً واحداً يدور حول القرآن الكريم والسنة المشرفة في جانب منه، وكوّنوا عادات وتقاليد واحدة ساهمت أخلاق الإسلام وقيمه التي تقوم على الرحمة والتزكية والتطهر والعفاف في بلورتها وصياغتها، وكوّنوا شخصية معنوية متميزة ارتكزت على توحيد الله ونبذ الشرك وإعمار الأرض، وكوّنوا تطلعات موحدة اتجهت إلى نشر الإسلام وتمكينه وإعلاء رايته وصدّ أعدائه، ومن نافلة القول الحديث عن اللغة العربية الواحدة وعن الجوانب الاقتصادية المشتركة والأرض الواحدة التي كان يتنقل فيها المسلم كيفما شاء ويأخذ فيها حقوقه ووضعه القانوني.
الجدير بالذكر والتنويه أن لفظ الأمة ورد في القرآن أكثر من خمسين مرة بصيغة المفرد، ولا شك أن مفهوم الأمة في القرآن الكريم لا يعني فقط اجتماع الناس وتجانسهم، بل لا بد من قيام المسلمين بثلاثة واجبات حتى يصح إطلاق صفة الأمة عليهم، هذه الواجبات الثلاثة هي:
وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحقيقاً لقوله تعالى:
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) (آل عمران،104)
ويقتضي تحقيق هذا الواجب تطهير المجتمع الإسلامي من أية معوقات داخلية، ورفعه إلى أفق عال من الشفافية والحيوية، ومنحه ديناميكية فعالة من أجل التوازن المستمر.
وهو الشهادة عليهم تحقيقاً لقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) وتقتضي الشهادة على الناس العلم وتفتح الوعي من الشاهد، والتواصل مع المشهود عليه، حتى يستطيع أن يقوم بأمانة الشهادة المنوطة به.
وهو الاعتراف بقيادة أنبيائهم، والإقرار بأن أتباع الأنبياء -جميعهم- أمة واحدة تحقيقاً لقوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (الأنبياء،92) وقوله تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) (المؤمنون،52) وقد وردت الآيتان السابقتان بعد حديث مفصل عن سير معظم الأنبياء: نوح، موسى، وهارون، وإبراهيم، ولوط، وإسحاق، ويعقوب، وداود، وسليمان، وأيوب، وإسماعيل، وعيسى، إلخ… عليهم الصلاة والسلام.
وقد كان لقيام الأمة المسلمة بالواجبات الثلاثة السابقة ثمرات مختلفة لا مجال للتفصيل فيها، ولكن يمكن الإشارة إلى بعضها:
1- الاتصال التاريخي بالأمم السابقة: وقد أعطى هذا الاتصال الأمة الإسلامية سعة في الزمان وامتداداً في المكان، وسهولة في التواصل الحضاري مع الحضارات السابقة على الإسلام، وأبرزها حضارات أهل الكتاب، وقد تجسّد ذلك الاتصال التاريخي في قواعد أصولية أبرزها القاعدة التي تحدد موقف الدين من شرائع الأقوام التي سبقتنا وتقرر أن شرع من قبلنا شرع لنا.
2- التعارف بين الشعوب والقبائل: وقد جعل هذا التعارف قيادة الأمة الإسلامية غير محتكرة على العرب، بل إن العرب قادوها لفترة بسيطة هي الفترة الأموية والفترة الأولى لحكم العباسيين، ثم تداولتها أعراق شتى فكانت: الدولة السلجوقية، والدولة الزنكية، والدولة الأيوبية، ودولة المماليك البحرية، ودولة المماليك الشراكسة، والدولة العثمانية، إلخ…
3- اتساع النطاق المدني: لم يوزّع عمر بن الخطاب أرض سواد العراق على المقاتلين مراعاة لحق الأجيال القادمة من الأمة الإسلامية، وكانت هذه الخطوة نواة لأوقاف واسعة بلغت ثلث ثروة العالم الإسلامي على مدار التاريخ، وشكلت أساساً لحياة مدنية غنية.
وقد درس الدكتور ناصيف نصّار مفهوم الأمة في كتاب متميّز له تحت عنوان “مفهوم الأمة بين الدين والتراث” وقد أورد فصلاً تحت عنوان “مفهوم الأمة في القرآن الكريم” بيّن فيه مدلولات كلمة الأمة وانتهى فيه إلى تقرير النتيجة التالية:
“نستنتج من هذا كله أن التصور القرآني للأمة يقوم على جدلية بين الطريقة والجماعة، وأن الحل المعتمد لهذه الجدلية هو تصور الجماعة المتفقة على طريقة واحدة. وفي هذا الحل يتقدم معنى الطريقة على معنى الجماعة ، بحيث أن الجماعة تصبح محدودة ومعروفة بالطريقة التي تتبعها. أما مصدر هذه الجدلية فلعله الأصل الذي خرجت منه كلمة أمة بين فعل الأَمّ، الذي يعني القصد بنيّة الاقتداء واسم الأُمّْ، الذي يتضمن معنى المصدر أو المرجع. ومهما يكن من أمر حقيقة الأصل الذي اشتقت منه كلمة أمة، فإنها تجمع بين معنى القصد والاتجاه ومعنى التحدر والصدور، وتعرف هذين المعنيين كوجهتين للوحدة القائمة بين مجموعة معينة من الناس، وجهة الوحدة في المصدر ووجهة الوحدة في الاتجاه”(2).
ثم استقرأ الدكتور ناصيف نصار في كتابه السابق مفهوم الأمة عند عدد من الكتّاب على مدار التاريخ الإسلامي منهم : الفارابي، المسعودي، البغدادي، الماوردي، الشهرستاني، ابن خلدون، ابن الأزرق، ثم بيّن الإضافات التي أوردها كل كاتب على مفهوم الأمة، وأشار إلى قيمتها ومدلولاتها.
وقد ذهب بعض المستشرقين الذين دوّنوا مواد دائرة المعارف الإسلامية أبعد مما ذهب إليه السيد الزايد فاعتبروا أن كلمة “الأمة” في القرآن الكريم غامضة ولا يمكن تحديد معناها بالتدقيق، وقد ردّ عليهم أحمد محمد شاكر رداً مفحماً فقال “أصل معنى الكلمة محدود، واختلاف المراد بها في الآيات مرجعه إلى القرائن الدالة على المعنى الذي هو داخل في المعنى الأصلي للكلمة”(3).
ثم نقل كلاماً للراغب الإصفهاني في “المفردات” مستشهداً به على صحة ما قال، جاء فيه ما يلي:
“الأمة: كل جماعة يجمعهم أمر ما: إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد، سواء أكان ذلك الأمر الجامع تسخيراً أم اختياراً، وجمعها أمم. وقوله تعالى: “وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم” أي كل نوع منها على طريقة قد سخرها الله عليها بالطبع، فهي من بين ناسجة كالعنكبوت، وبانية كالسرفة، ومدخرة كالنمل، ومعتمدة على قوت وقته كالعصفور والحمام، إلى غير ذلك من الطبائع التي تخصص بها كل نوع. وقوله تعالى: “كان الناس أمة واحدة…” أي صنفاً واحداً وعلى طريقة واحدة في الضلال والكفر” – ثم قال: “وقوله: “إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله”: أي قائماً مقام جماعة في عبادة الله، نحو قولهم: فلان في نفسه قبيلة، وروى أنه يحشر زيد بن عمرو بن نفيل أمة واحدة”(4).
الأمة الإسلامية إذن كانت حقيقة قائمة على الأرض وليست في السماء، وكان تعايش الأجناس فيها حقيقة قائمة أيضاً، وقد استمر هذا التعايش خلال الفترة العثمانية، وخير من أشار إلى ذلك وأكده الدكتور زين نور الدين زين في أكثر من موضع من كتابه الرصين نشوء القومية العربية فقال:
“وليس صواباً القول إن العرب المسلمين ظلوا طوال أربع مئة سنة أمة مستضعفة تحت نير الأتراك، أو أن البلدان العربية نهبت خيراتها وخيم عليها الفقر من جراء الاحتلال التركي. كذلك ليس صواباً القول أن العرب المسلمين لم يكن يسمح لهم أن يتقلدوا سلاحاً أو أن ينضووا تحت العلم العثماني للخدمة العسكرية ذلك لأن جيوشاً عربية وضباطاً عرباً من ذوي المراكز العسكرية العالية كانوا يعملون في الجيش العثماني، وقد برهنوا على قدرة ومهارة في المعارك الحربية.
وقد شغل عدد كبير من العرب وظائف عالية حساسة في الامبراطورية العثمانية، لكن من العسير وضع قائمة بأسمائهم، وما ذلك إلا لأن دينهم وتربيتهم التركية وأسماءهم كانت تحول دون تمييزهم عن الأتراك. فقد كتب الجنرال نوري باشا السعيد، الذي كان رئيساً للوزارة العراقية مراراً عديدة، يقول:
“كان العرب، كمسلمين، يعتبرون شركاء للأتراك. كانوا يشتركون معهم في الحقوق والواجبات بدون تمييز عنصري. وكانت الوظائف العليا في الدولة، سواء العسكرية أم المدنية، مفتوحة للعرب. وقد كان للعرب ممثلون في مجلسي البرلمان العثماني، أصبح كثيرون منهم رؤساء وزارة. ومنهم من كان “شيخ الإسلام” ومن أصبح قائداً عسكرياً أو والياً، فكنت ترى الموظفين العرب في جميع دوائر الدولة”(5).
يتضح من خلال مقال السيد الزايد أنه يعتبر تجربة أوروبا الحضارية والتحولات التي مرّت بها هي المثال وهي النموذج وهي المقياس الذي يقيس عليها التجارب الأخرى، وطالما أن العالم القديم عرف امبراطورية مسيحية جمعت شعوباً متعددة ولم تكوّن أمة، فإذن الخلافة الإسلامية التي قامت في منطقتنا هي امبراطورية جمعت شعوباً متعددة ولم تكوّن أمة، وطالما أن الحضارة الغربية انبثقت من خلال التصادم مع الكنيسة، ومن خلال معاداة الدين فيجب أن تقوم النهضة عندنا من خلال التنكر للدين ومعاداته ومصادمته بغض النظر عن أي واقع موضوعي قائم وموجود، إن هذا التفكير وهذه الطريقة في النظر إلى الأمور وهي سحب كل ما يتعلق بالحضارة الغربية على أمتنا وعلى واقعنا وعلى حضارتنا تجاوزتها الدراسات الحديثة بعد أن ثبت الخطأ فيها، وقد أشار الدكتور الجابري إلى أن خطأ المنهج العلمي السائد في القرن التاسع عشر يكمن في تجاوز دراسة ظواهر العلوم إلى كتابة تاريخها، ومثّل على ذلك بعدّة علوم منها: الطبيعيات، وفقه اللغة، وعلم المستحاثات، ونظرية التطور، وفلسفة التاريخ(6) إلخ… ثم بين عدم علمية التفسير المادي لتاريخنا، فقال:
“وإذن فالتحليل “المادي” للتاريخ كما مارسه ماركس -دع عنك قوالب المادية التاريخية الستاليني- ليس “علماً” لتطور المجتمعات عبر التاريخ ، بل هو تنظير “متحيز” يُمارَس على الماضي الاقتصادي الاجتماعي -في أوروبا خاصة- الهدف منه لا الكشف عن “الحقيقة” كما هي، بل إبراز أو بناء “الحقائق” التي تزكي وتؤكد النتائج المستخلصة من الدراسة المشخصة للنظام القائم في “الحاضر” – حاضر ماركس.
وإذن فيجب أن لا ننتظر منها أن تنطبق على التاريخ العربي أو على أي تاريخ آخر إنطباق التحليل العلمي على موضوعه. إننا إن تعاملنا معها على أساس أنها “علم” بهذا المعنى وحاولنا تطبيقها على مجتمعنا العربي فإننا سنكون قد أقمنا بيننا وبين موضوعنا جملة من العوائق الأبستيمولوجية تجعل المعرفة العلمية الصحيحة مستحيلة. وهذا ما انتبه إليه منذ أوائل العشرينات من هذا القرن الفيلسوف المجري الماركسي “المجتهد” جورج لوكاتش الذي نرى من المفيد هنا عرض مجمل آرائه في الموضوع لما لها من أهمية ليس فقط بالنسبة لفهم موضوعنا بل أيضاً بالنسبة للتخلص من عدد من العوائق الأبستيمولوجية التي روجتها في الساحة العربية، وبشكل ردئ، الماركسية الرسمية التقليدية”(7).
إن التفكير العلمي العقلي أمر مطلوب، وهو ما كان قد ساد حضارتنا الماضية، فإذا أردنا أن نعيد أمتنا إلى التفكير العلمي علينا أن ننطلق من واقعنا، ونحلله، ثم نحدد العوامل التي حالت دون استمرار التفكير العلمي ونزيلها، هذا ما يجب أن نفعله، لا أن ننقل الكفر والإلحاد ومعاداة الدين الذي وقعت فيه أوروبا نتيجة لظروفها الخاصة، ونعمم علمانيتها في حين أن التجارب والدراسات الحديثة أكدت أن تلك العلمانية هي طريق أوروبا الخاص للحضارة، وأن علينا أن نشق طريقنا للحضارة من خلال واقعنا التاريخي ومعطياتنا الاجتماعية والثقافية من أجل أن تكون لنا مساهمتنا الخاصة في بناء الحضارة البشرية.
إن وجود الأمة الإسلامية هي الحقيقة الموضوعية الراسخة التي يجب أن ننطلق منها لبناء نهضتنا والتي أدى إنكارها والسعي إلى توليد أمة عربية بديلة عنها إلى تعثر نهضتنا لأكثر من قرن، فهل وعينا الدرس؟
(1) عبدالوهاب الكيالي ، موسوعة السياسة ، الجزء الأول ص305 .
(2) د. ناصيف نصار ، مفهوم الأمة بين الدين والتراث ، ص22 .
(3) دائرة المعارف الإسلامية ، ص632 .
(4) المرجع السابق ، ص632 .
(5) د. زين نور الدين زين ، نشوء القومية العربية ، ص26.
(6) د. محمد عابد الجابري ، العقل السياسي العربي : محدداته وتجلياته ، ص21 .
(7) المرجع السابق ، ص22 .