بثّت قناة “المستقلة” الفضائية برنامجاً عن تراث ابن تيمية -رحمه الله- في شهر فبراير عام 2004م، كفّر فيه حسن السقاف ابن تيمية، واتهمه بالتجسيم، وشوّه شخصيّته وتراثه، وشكّك في مواقفه من القضايا المختلفة إلخ… ونحن لا نستطيع أن نحصي كل الأخطاء التي وقع فيها حسن السقاف، لأنه تحدّث على مدى أسبوعين تقريباً وخاض في كل المجالات، ولا نستطيع أن نردّ على كل ما قاله لأن ذلك يحتاج إلى كتب متعدّدة، لكننا سنتناول أبرز الاتهامات التي وجّهها حسن السقاف إلى ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، ونردّ عليها،
كما سنبيّن القواعد المنهجية التي حكمت موقف ابن تيمية العقائدي(1)، وسنؤجّل الردّ التفصيلي إلى وقت آخر.
كان أبرز الاتهامات التي كرّرها السقاف في حديثه عن ابن تيمية -رحمه الله- هو التجسيم، والحقيقة أن ابن تيمية أبعد ما يكون عن مثل هذه التهمة لأنه يفهم حق الفهم قوله تعالى:
(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى،11).
وهو يدرك أبعاد قوله تعالى:
(ولم يكن له كُفُواً أَحَد) (الإخلاص،4).
وقد عرف التاريخ فرقة مستقلة للتجسيم بدأها هشام بن الحكم، ولها أتباع على مدار التاريخ، ولم يكن ابن تيمية في لحظة من اللحظات من أتباعها، ولو أراد أن يكون من أتباعها لفعل، لأنه يملك الشجاعة الأدبية التي تؤهّله لقول ذلك وفعله. ومما يؤكّد ذلك أنه خالف الحكّام وبعض المتنفّذين في أمور أبسط من ذلك، وكانت مواقفه تنطلق جُلّها من قول كلمة الحق، والالتزام لها، ودَفْعِ ثمن ذلك إن احتاج الأمر.
والسؤال الآن: ما القواعد التي حكمت ابن تيمية رحمه الله في طرحه العقائدي؟ ما القواعد التي وجّهت موقفه من ذات الله وصفاته -سبحانه وتعالى-؟
هناك ثلاث قواعد حكمت منهج ابن تيمية رحمه الله تعالى فيما يتعلّق بذات الله وصفاته، هي:
الأولى: إثبات الصفات لله -تعالى- بكل أنواعها سواء أكانت صفة ذات أم صفة فعل أم صفة خبر.
يرى ابن تيمية أن نثبت لله -تعالى- كل الصفات التي أثبتها -تعالى- لذاته سواء أكانت صفة ذات أم صفة فعل أم صفة خبر. ويمكن أن نمثّل للصفات السابقة بالأمثلة التالية: فصفة الذات كصفة القدرة والإرادة والسمع والخبرة إلخ…، وصفة الفعل كصفة الاستواء على العرش، والنـزول في الثلث الأخير من الليل، والمجيء مع الملائكة المصطفّة يوم القيامة، والإحياء للأموات، وإماتة الأحياء إلخ…، وصفة الخبر كالعرش والوجه واليدين إلخ…
الثانية: نفي مماثلة صفات الخالق لصفات المخلوقين، وتنـزيهه عن ذلك تنـزيهاً كاملاً.
يرى ابن تيمية أنه يجب أن ننفي مماثلة صفات الخالق لصفات المخلوقين في اللحظة نفسها التي نثبت فيها هذه الصفة، ويقرّر أنه يجب أن نثبت لله قدرة وإرادة وسمعاً وخبرة لا تشبه ولا تماثل قدرة وإرادة وسمع وخبرة المخلوقين بحال من الأحوال، ويجب أن نثبت لله استواء ونزولاً ومجيئاً لا يشبه ولا يماثل استواء ولا نزول ولا مجيء المخلوقين بحال من الأحوال، ويجب أن نثبت لله عرشاً ووجهاً ويدين لا تشبه ولا تماثل عرش ولا وجه ولا يدي المخلوقين بحال من الأحوال.
الثالثة: نفي المجاز في القرآن الكريم بشكل خاص وفي اللغة العربية بشكل عام.
يرى ابن تيمية أنه ليس هناك مجاز في القرآن ولا في اللغة العربية، وأن الألفاظ التي ترد جميعها إنما ترد على الحقيقة وليس على سبيل المجاز، وهو رأي شاركه فيه بعض اللغويّين والمفسّرين القدماء.
ولا نريد في هذه العجالة من الحديث عن آراء ابن تيمية أن نتعرض لرأيه بالتوضيح التفصيلي من قضية المجاز، بل سنعتبره رأياً خاصاً به، وسنعتبر أن القاعدتين السابقتين هما محور رأي ابن تيمية في تقرير موقفه من صفات الله -تعالى-، وهو ما شاركه فيهما جمهور المسلمين.
وهناك سؤال يرد بعد هذا العرض السريع للقواعد التي قنّنت موقف ابن تيمية من ذات الله تعالى وصفاته، لماذا أخذ ابن تيمية رحمه الله تعالى بشكل خاص وأهل السنّة بشكل عام بقاعدة إثبات الصفات مع نفي مماثلتها لصفات المخلوقين؟
السبب في ذلك أنه في حال نفي هذه الصفات بحجّة تنـزيه الله تعالى عن مماثلة المخلوقين يؤدّي إلى عبادة العدم، كما قال أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- عندما عقّب على نفي الجُهْمِيَّة لصفات الله -تعالى- وتعطيلها كصفة الرحمة والحب والسمع والحكمة والخبرة إلخ… قال لهم: “إنما تعبدون عدماً ولا تعبدون ربّاً” وقد حاول جُهْم بن صفوان أن يقنع تلاميذه بخطأ إثبات الصفات فكان يأخذهم إلى مستشفى الجذام ويقول لهم مشيراً إلى المجذومين أمامه: “انظروا إلى آثار رحمة الله وحكمته” نافياً صفتي الرحمة والحكمة عن الله -تعالى-.
لذلك عندما يثبت ابن تيمية -رحمه الله تعالى- الصفات بكل أنواعها -صفات الذات وصفات الفعل وصفات الخبر- ويتبعه في ذلك أهل السنّة مع نفي مماثلتها لصفات المخلوقين، إنما يكون موقفه موقفاً وسطاً بين الذين يعطّلون الصفات فيعبدون عدماً (وأصل هذا الموقف بدأته الجُهْمِيَّة وتبعتهم المعتزلة) وبين الذين يجسّمون الذات الألهية في شخص إنساني كما حدث مع النصارى الذين قالوا إن الله حلّ في المسيح بن مريم عليها السلام، ولاشك أن هذا الموقف الوسط في التعامل مع الصفات من ناحية إثباتها وعدم تعطيلها ومن ناحية نفي مماثلتها لصفات المخلوقين، له آثاره النفسية والعقلية في كيان المسلم، وله حكمه ومقاصده التي يمكن أن نعرف بعضها ونجهل الكثير منها.
وهناك سؤال آخر يرد هو: لماذا لم يأخذ ابن تيمية -رحمه الله تعالى- بالتأويل؟ السبب في ذلك أمران:
الأول: أن التأويل لم يقل به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة -رضوان الله عليهم-، حتى الأشعري لم يقل به ولا تلميذه الأول الباقلاني، إنما عرفه الأشاعرة بدءاً من الجويني الذي توفّي عام 478ﻫ.
الثاني: أن التأويل هو الذي فتح أبواب الشرّ وأبواب التلاعب بالنصوص القرآنية والحديثية وتفسيرها حسب أهواء المبتدعين والزنادقة والمنحرفين من أصحاب الفِرَق الضالّة، وهو الذي أدّى إلى القول بأن للقرآن ظاهراً وباطناً، وأفقد نصوص النقل -بالتالي- أيّ معنى ثابت محدّد لها، وأفقد الدين ثوابته التي قام عليها.
هذه بعض القواعد والحقائق التي حكمت موقف ابن تيمية -رحمه الله تعالى- والتي نأمل أن نكون قد وضّحت جانباً من شخصيّته الغنيّة وآرائه السديدة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(1) تحدّثت عن إبداع ابن تيمية العلمي -رحمه الله-، وإبداعه في الردّ على علم الكلام والمنطق والفلسفة والتصوّف في كتابي “الجماعة في الإسلام: المشروعية والإطار” يمكن أن يعود إليه من شاء بعض التفصيل في آراء ابن تيمية ومواقفه.