أمتنا هل مازالت حاضرة فاعلة؟
إن الاقتصار على مضمون المقال من جهة، وعدم تَقْويل الكاتب أشياء لم يقلها من جهة ثانية، أمران مهمّان في أي حوار. لكننا نجد السيد محمد بغدادباي في ردّه في المجتمع في العددين (1299و1300) الصادرين في 11مايو و18 مايو 1998م على مقال سابق لي في المجتمع عدد (1262) يُقَوِّلَني أشياء لم أقلها، ولم يُناقش بشكل دقيق ما عرضته بالنسبة لمالك بن نبي وإنما طرح أشياء أخرى، ولنبدأ بالقضية الأولى.
أنا لم أرفض أي تقسيم لتاريخنا ، ولم أقل إنّ تاريخ أمتنا خطّ مستقيم ، بل إنني من الداعين إلى الدراسة المُعمّقة لتاريخنا وإلى فرزه وتقسيمه إلى مراحل في أكثر من موضع من كتاباتي ، ويدلّ على ذلك أنني أثنيت على كتاب “الخِلافة والمُلك” لأبي الأعلى المَوْدودي ـ رحمه الله ـ الذي استشفّ مرحلتين متميّزتين في تاريخنا ، هما : مرحلة الخلافة ومرحلة الملك ، وأعطى مواصفات دقيقة لكل مرحلة (1) ، وقد نجح تحليله لأنه استهدى بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه : “ إنّ أول دينكم نبوّة ورحمة وتكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله سبحانه وتعالى ، ثم تكون خِلافة على منهاج النبوّة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله سبحانه وتعالى ، ثم يكون مُلْكاُ عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعه الله سبحانه وتعالى ، ثم يكون مُلْكاً جَبْرِياً فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعه الله سبحانه وتعالى ، ثم تكون خِلافة على منهاج النبوّة تعمل في الناس بسنة النبي ويُلقي الإسلام بجرانه في الأرض ويرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض ، لا تدع السماء من قطر إلا صبّته مِدْراراً ولا تدع الأرض من نباتها وبركتها شيئاً إلا أخرجته “ (رواه أحمد في مسنده) ، وتمنّيت عليه لو أنه أفرز الكلام عن مراحل أخرى ذكرها الحديث الشريف وهي الملك العاض والملك الجَبْري . إذن أنا مع الدراسة المُعمّقة لتاريخنا، ومع تقسيم التاريخ إلى مراحل، ومع تحديد مواصفات كل مرحلة من أجل الاستفادة من هذه الدراسة والتقسيم والفرز لربط الماضي مع الحاضر من أجل بناء المستقبل. لكنني أرفض إسقاط مَقولَتَيْ “عصر الانحطاط وعصر النهضة” على تاريخنا لأنهما مقولتان خاصّتان بالتاريخ الأوروبّي، وإنّ إسقاطهما على تاريخنا سيحمل تضليلاً علمياً، وتزييفاً للحقائق (2) ، وأنا من أجل توضيح ذلك سأُحدّد ما الذي تعنيه المقولتان بالنسبة لأوروبّا أولاً، ثم سأدرس مدى انطباقهما على تاريخنا ثانياً.
لقد كانت أوروبّا تُعاني في العُصور الوُسطى من أزمات في وجودها تتجلّى في تعارض الدين مع العقل ، والرَهْبَنة مع الفِطرة ، وخُرافات الكنيسة مع العلم ، وطبقة الكهنوت مع الإقطاع ، وشِراء الجنّة بصُكوك الغُفْران الخ . . . ، وقد أدّت أزمات الوجود تلك إلى ثورة الجماهير عل كل الأحوال التي كانت سائدة من قبل لعدم معقوليّتها، وأوصلت أوروبّا إلى تغيير نوعي في كل أمورها الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية الخ . . . ، فأصبحت تُعادي الدين ، وتُؤَلّه الشهوة ، وتكفر بالغيب ، وتُؤْمن بالمادّة والمحسوس ، وتُطارِد رجال الكهنوت الخ . . . ، وجاء المُؤرّخون الأوروبّيّون فأطلقوا على عصر أزمات الوجود السابق عصر الانحطاط ، وأطلقوا على العصر المنبثق من تلك الأزمات عصر النهضة ، فهل هناك أيّ تَماثُل بين تاريخ أوروبّا وتاريخنا ؟ لا يوجد تَماثُل ، فأمتنا لم تعرف أزمة بين الدين والعلم ، ولم تعرف طبقة الكهنوت ، ولم تعرف خُرافات الكنيسة ، ولم تعرف صُكوك الغُفْران ، وأنا أُؤكّد على هذه النقطة ، إنّ أمتنا لم تعرف أزمات في وجودها وكِيانها ، لأنّ الإسلام دين الفِطرة الذي يُلبّي كل حاجاتها ، إنما عرفت أمراضاً أضعفتها : كالبِدَع، والغفلة ، ورواج العصبية في بعض الأماكن ، وانتشار الأهواء والشهوات في بعض الأزمان الخ . . . ، وكان العلماء يتصدّون لهذه الأمراض ويُعالجونها ، ويبقى الأمر في سِجال مستمر ، وأنا أُؤكّد على التمييز بين أزمات الوجود والأمراض ، فأزمات الوجود تُنهي الكيان الاجتماعي السابق ، وتُولّد كياناً اجتماعياً جديداً يختلف اختلافاً نوعياً عن الكيان السابق في بنائه الفكري والثقافي والديني الخ . . . ، أما الأمراض فيمكن معالجتها بالعودة إلى مرجعية الأمة (القرآن والسنة في حالتنا كمسلمين) لتستمر الأمة في وجودها وعطائها الحضاري .
إذن لماذا نقل بعض الدارسين مصطلح الانحطاط والنهضة إلى تاريخنا؟ فعلوا ذلك من أجل إيصالنا إلى النتائج التي انتهت إليها أوروبّا وتطبيق الإصلاحات التي قامت بها وهي: إقصاء الدين عن كل شؤون الحياة وحصره في دُوَر العبادة واعتباره شأناً شخصياً، الإيمان بالمادة والمحسوس والكفر بكل ما هو روح وغيب، ترسيخ الأخذ بقاعدة نِسبيّة الحقيقة والابتعاد عن الأخذ بقاعدة أنّ هناك حقائق ثابتة مُطلقة الخ . . .، معتبرين أنّ الأخذ بهذه الخُطوات هو المدخل إلى الحضارة.
لقد قَوَّلني السيد محمد بغدادباي مقولة أخرى لم أقلها هي تحميلي المُستعمِر أسباب تعاستنا على الإطلاق، ولقد كان الحديث عن ظواهر محدّدة تعرّض لها مالك بن نبي في زمن خاص، هذه الظواهر المحددة هي: البطالة، والجهل، وانحطاط الأخلاق، وشيوع الرزيلة، ومحاربة الفضيلة، وتفرّق المجتمع وتشتّته، وانتشار الوسخ، والذوق القبيح. تلك هي الظواهر ، والزمن الخاص الذي صار الحديث فيه عن تلك الظواهر ليس قبل دخول المُستعمِر الفرنسي للجزائر حتى نقول إنها ظواهر ذاتية أفرزها مجتمعنا ولكن الحديث عنها في سنة 1947م سنة تأليف كتاب شروط النهضة أي بعد أكثر من مائة سنة من دخول المُستعمِر الفرنسي إلى الجزائر ، وقد كان سؤالي عن دور الاستعمار الفرنسي في توليد تلك الظواهر ليس من أجل تبرئة أنفسنا واتهام المُستعمِر ولكن من أجل تكوين وَعْي سليم لما يُحيط بنا ويجري حولنا ، لأنّ الوَعْي الزائف يقود إلى حركة خاطئة، وإنّ الوَعْي الصحيح يقود إلى حركة صحيحة وسليمة في اتجاه مُعالجة الواقع . والآن لو عُدنا إلى تلك الظواهر وأخذناها واحدة تِلو الأخرى وحلّلناها، فما هو نصيب الاستعمار في توليدها بالصورة التي انتهت إليه في منتصف القرن العشرين؟
ظاهرة البطالة: استعمرت فرنسا الجزائر عام 1830م، واعتبرتها فرنسا ما وراء البحار، فاقتلعت الجزائريين من أراضيهم وأحلّت مكانهم الفرنسيين، ورسمت المُخطّطات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية لتحويلها إلى أرض فرنسية، فعندما تكون هناك بطالة عند الجزائريين في منتصف القرن العشرين، أليس هناك دور للاستعمار الفرنسي في توليد ظاهرة البطالة؟!!! ما هو حجم هذا الدور؟ أليس سؤالي مشروعاً؟
ظاهرة الجهل: عندما دخل المُستعمِر الفرنسي الجزائر كان الشعب الجزائري أكثر تعليماً من الشعب الفرنسي، وكانت نسبة الأُمِّيّة في الجزائر أقل منها في فرنسا، وكان هذا الوضع ناتجاً من وجود أوقاف غنية تُغطّى ثُلث مدينة الجزائر، ووجود كَتاتيب ومدارس ذات مستويات مختلفة تُغطّي كل أرض الجزائر، فماذا فعل الاستعمار الفرنسي؟
استولى على الأوقاف، وحارب المدارس والكتاتيب ودمّرها بشكل نهائي، ولكنه اضطرّ بعد فترة من الزمن إلى السماح بجزء يسير منها من أجل إيجاد طبقة من المتعلّمين تكون صلة بينه وبين الشعب الجزائري كي يستطيع حُكمه، ثم ماذا كان وضع الجزائر عَشِيَّة الاستقلال؟
لقد أصبحت الثقافة الفرنسية ولغتها هي السائدة في الجزائر، لذلك كانت أولى مهام حكومات الاستقلال تعريب الثقافة وإعادة الشعب الجزائري إلى لغته الأصلية، وهذا ما عاناه مالك بن نبي ذاته عندما كتب بالفرنسية، ثم تعلّم العربية وكتب بها. هذه الظاهرة في منتصف القرن العشرين: الجهل والتجهيل واقتلاع الشعب الجزائري من جذوره الثقافية وغرس الثقافة الفرنسية، أليس هناك دور للاستعمار الفرنسي في توليد هذه الظاهرة؟ ما هو حجم هذا الدور؟ أليس سؤالي مشروعاً؟
وقل الشيء نفسه بالنسبة لبقية الظواهر: انحطاط الأخلاق، وشيوع الرذيلة، ومحاربة الفضيلة، وتَفَرُّق المجتمع، أليس هناك دور للاستعمار الفرنسي في توليد هذه الظواهر؟ وما هو حجم هذا الدور؟
إنّ البحث العلمي والموضوعي يقتضي أن يُحدّد مالك بن نبي دور كل طرف في وجود تلك الظواهر : دور الشعب الجزائري ودور الاستعمار الفرنسي ، لكي نشيد وعياً بأسباب تلك الظواهر، يُؤدّي إلى ممارسة سليمة من أجل استئصالها ، وما أظنّ كلام السيد بغدادباي في صدد الحديث عن الموضوع السابق يُقدّم إجابة على تساؤلي السابق عندما يشير إلى حديث مالك بن نبي عن المعامل الاستعماري مقابل القابلية للاستعمار، لأنّ مالك بن نبي انتقل من العموم إلى الخصوص ، انتقل من الحديث عن المسْتَعْمِرين والمسْتَعْمَرين بشكل عام إلى ظواهر خاصة تتعلّق بالمسْتَعْمَرين ، وهذا الخصوص يقتضي كلاماً خاصاً في تحليله وتعيين أسبابه .
أما بالنسبة لقضية القابلية للاستعمار فهي النقطة التي عرضها السيد بغدادباي حسب ما طرحه مالك بن نبي ، ولقد كانت ملاحظتي على مالك بن نبي ربطه بينها وبين مصطلح الانحطاط الذي وضّحت معناه في السطور السابقة ، وكان مالك بن نبي عند حديثه عن القابلية للاستعمار ميّز بين صورتين من الاحتلال : بين بلد مَغْزو مُحْتَل وبين بلد مُسْتَعْمَر ، واعتبر القابلية للاستعمار مرتبطة بالحالة الثانية ، وكنت أريده أن يعتبر احتلال بلادنا من الصورة الأولى ، لأنّ احتلال بلادنا كان نتيجة هزيمة عسكرية ، وهذا ما حدث سابقاً عندما اكتسح المغول شرقي الخلافة واحتلّوا بغداد ، ثم أوقفهم المماليك في معركة عين جالوت ، لماذا وقعت تلك الهزائم ؟ هل وقعت لأنّ المغول أرقى حضارياً أم أنها وقعت لأنهم كانوا أقوى عسكرياً؟ لا شك أنّ تلك الهزيمة وقعت لأنهم كانوا أقوى عسكرياً وليسوا أرقى حضارياً بدليل أنّ المغول تأثّروا بالإسلام، ودخل بعضهم الإسلام واستفادوا من الحضارة الإسلامية. وكذلك الحروب الصليبية، فقد احتلّ الصليبيّون في حملاتهم الصليبيّة قِسماً كبيراً من ساحل بلاد الشام والجزيرة ومُدُناً مُتعدّدة في لبنان وسورية وفِلَسْطين والجزيرة ومصر، واستمرّوا مُحتلّين لبلادنا ما يقرب من مائتي عام، لماذا وقعت تلك الهزائم؟ هل وقعت الهزائم لأنّ الصليبيّين كانوا أرقى حضارياً أم أنها هزائم عسكرية وحسب؟ ليس من شك بأنها كانت هزائم عسكرية فقط بدليل أنّ تلك الحروب كانت أحد العوامل الذي فجّر النهضة عندهم ،وولّد المذهب البْروتِسْتَنْتي الذي تأثّر بالمسلمين في صورة العبادة ، وفي المسؤولية الفردية ، وفي عدم احتكار فهم النص من قِبل شخص أو طبقة ، كنت أريد مالك بن نبي أن يفعل ذلك ، أن يعتبر استعمار أوروبّا لبعض بلادنا الإسلامية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين هزيمة عسكرية كما حدث في الهزائم السابقة وليس ناتجاً من انحطاط حضاري وأزمات وجود وقابلية للاستعمار تُحتّم استعماراً وتستدعيه ، فإنّ أمتنا براء من كل ذلك ، وإلا بماذا نُفسّر فوز جبهة الإنقاذ في الجزائر بمعظم الأصوات في انتخابات عام 1991م ، بعد استعمار دام 130 سنة أهلك الحرث والنسل وبعد حكم بومدين الديكتاتوري الذي أحرق الأخضر واليابس ؟ بماذا نُفسّر ظهور حزب الرفاه في تركيا واكتساحه الأصوات في انتخابات عام 1996م بعد علمانية أتاتورك الماحِقة، والتي حاولت إحداث تغيير قَسْري في كل تفصيلات حياة الشعب التركي: الدينية والفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية الخ . . .؟ بماذا نُفسّر ظهور الانتفاضة عام 1987م بعد حكم إسرائيل للضفة الغربية وغزّة دام عشرين عاماً استعملت فيه إسرائيل كل فنون الإفساد والإرهاب والاضطهاد والقهر والتجويع والإذلال؟ لا نملك إلا تفسيراً واحداً هو أنّ أمتنا مازالت حاضرة تحمل خيراً كثيراً، وتملك حيوية فاعلة رغم المخطّطات الرهيبة التي استهدفت تغريبها، واقتلاعها من جُذورها الحضارية لمدّة قرن أو أكثر، لذلك فإنّ أبرز واجباتنا الآن أن نعرف كيف نحافظ على هذه الحيوية، وكيف نوجّهها ونستفيد منها، وكيف يمكن أن نزيد من فاعليّتها، لذلك فعلى الباحثين الذين يقولون بأنّ الأمة ماتت وفقدت حيويّتها وفاعليّتها منذ قرون أن يُعيدوا النظر بمقولاتهم، لأنّ الوقائع تصرخ بغير ذلك.
الخُلاصة : يجب أن تكون نظرتنا علمية وموضوعية ومُتوازنة إلى واقع أمتنا، فلا ننظُر النظرة السوداء ولا نبالغ في جلد الذات من جهة، ولا نُغالي في تسطيح الأمور وتبسيطها من جهة ثانية، فالوقائع تشير إلى أنّ أمتنا ككيان ديني اجتماعي وثقافي وفكري مازالت موجودة بكل المقاييس التي تُعرّف الأمة، ومازالت تملك جانباً من الحيويّة تتجلّى بمظاهر متعدّدة، ولم تعرف أمتنا انحطاطاً يوجِب موتها ثم صِياغتها صِياغة جديدة، لأنها لم تعرف أزمات في وجودها بفضل الإسلام الذي يُلبّي حاجات الفِطرة، إنما عرفت أمراضاً تقتضي معالجتها بالعودة إلى مرجعيّة الأمة : القرآن والسنّة.
(1) أنظر كتابي “أبو الأعلى المودودي: فكره ومنهجه في التغيير” الفصل الخامس: مسيرة الأمة في فكر أبي الأعلى المودودي، فقرة “الخلافة والملك”، ص 150.
(2) لقد عانينا كثيراً من نقل المصطلحات الأوروبّية إلى شؤوننا الفكرية والثقافية والسياسية والأدبية والاجتماعية الخ…، وسأعطي في المجال الأدبي مثالاً آخر على مدى التضليل الذي سيلحقه نقل المصطلحات بشخصيتنا وكياننا، فقد عرف تاريخ أوروبّا الأدبي مدارس أدبية خاصة به، وهي : المدرسة الكلاسيكية ، المدرسة الرومانسية ، المدرسة الرمزية، المدرسة الواقعية ، المدرسة الواقعية الاشتراكية الخ … فحاول المقلّدون تصنيف تاريخنا الأدبي ضمن تلك المدارس، ولما كانت مسيرته مختلفة تماماً حاولوا استنبات مدارس تُطابق تلك المصطلحات، وقد أدّى ذلك إلى مسخ وتشويه كبيرين، إلى أن قيّض الله الدكتور شوقي ضيف الذي انطلق من تراثنا الأدبي وصنّفه ضمن مدارس أخرى مناسبة له وهي: مدرسة الصنعة، ومدرسة التصنّع، ومدرسة التصنيع.