تمر أمتنا بأوضاع في منتهى السوء، كما هو واضح، فلو أجرينا جرداً للتطورات التي حصلت خلال المائة سنة الماضية، نجد أنها تسير من سيئ إلى أسوأ، منذ أن بدأت بإسقاط الدولة العثمانية، ثم تبعها الاستعمار وتقسيم البلاد، ثم قيام اسرائيل عام 1948، ثم نكسة حزيران التي في وقعت في 5/6/1967 والتي احتلت فيها اسرائيل أضعاف ما قامت عليه، فاحتلت سيناء من مصر، والضفة الغربية من الأردن، والجولان من سورية، وما زلنا نعيش آثار ذلك الاحتلال ومشاكله.
ثم جاء احتلال آخر وهو احتلال أمريكا لأفغانستان عام 2001، ثم احتلال أمريكا للعراق عام 2003، ثم انتقلنا إلى احتلال إيران وروسيا وأمريكا لسورية بين عام 2011-2017م.
وإن أوضاع أمتنا الآخرى من اقتصادية وسياسية وعسكرية واجتماعية في البلدان الأخرى غير المحتلة سواء في المغرب العربي أو أفريقيا أو آسيا لا تقل سوءاً عن البلدان المحتلة، وهي من تدهور إلى آخر، ومن سفول إلى ما هو أسفل.
لو تساءلنا: ما هو السر في هذا التدهور والاحتلالات والسفول؟ لوجدنا الجواب على ذلك واضحاً وجلياً وهو: غياب الدولة الإسلامية التي يجب أن ترعى شؤون الأمة، وتحافظ عليها، وتنمي طاقتها ودورها، وهو العامل الأول في هذا التدهور والسفول، ولا شك أن هناك عوامل أخرى وراء ما يصيب أمتنا، لكنها تأتي ثانياً وثالثاً ورابعاً إلخ…
وهذه الأوضاع السيئة التي نعيشها، لا تمنعنا من أن نشير إلى فاعلية هذه الأمة وحيويتها التي تتضح في التضحيات التي تقدمها لكي تدفع المساوئ الناتجة عن مخططات الأعداء، في كل الساحات كفلسطين والعراق وسورية واليمن.
ولقد تحرك العلماء والمفكرون والزعماء بعد سقوط الدولة العثمانية، وأسسوا حركات في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من أجل إعادة الدولة الإسلامية بعد الحرب العالمية الأولى نتيجة القناعات التي كانت تملأ عقولهم وقلوبهم بوجوب إقامة الدولة الإسلامية، وتنصيب إمام للمسلمين، وكان أبرز هذه الحركات: الإخوان المسلمون في مصر على يد حسن البنا، والجماعة الإسلامية في باكستان على يد أبي الأعلى المودودي، ثم جاء حزب التحرير في القدس على يد تقي الدين النبهاني.
ومع كل الجهود التي بذلت من أجل تحقيق ذلك الهدف، فإن الدولة لم تقم خلال المائة سنة الماضية لكي تسدّ هذه الثغرة في حياة الأمة ووجودها، وهذا الهدف يتعرض -الآن- لثلاثة أنواع من المواقف هي:
وهم الذين استغلوا التطبيق السيء لتعاليم الإسلام في دولتي داعش وطالبان من أجل دفع الناس إلى الكفر بهذا المطلب الشرعي، والقول بأنه لن تكون أية دولة إسلامية قادمة بأحسن حالاً مما قامت به طالبان وداعش، فعليكم الإقلاع عن فكرة إقامة الدولة، وهم يركّزون على كل أنواع تطبيقات الدولتين إعلامياً من أجل الوصول إلى ذلك الهدف.
ومن ضمنهم بعض الكتاب من أمثال محمد عمارة وسعد الدين العثماني وفهمي هويدي وغيرهم، الذين ادعوا أن إقامة الدولة من الفروع، واستندوا في ذلك إلى أقوال ابن تيمية بالدرجة الأولى، وبعض الأئمة الآخرين كالغزالي، والمؤكد أن جميع الأئمة الذين قالوا إن “الإمامة من الفروع” إنما كان حديثهم رداً على الشيعة في اعتبارهم تعيين الأئمة بالنص أهم المطالب في الدين، ويمكن أن نأخذ مثالاً على ذلك قول ابن تيمية الذي رد فيه على ابن المطهر الحلي الشيعي بشأن (ولاية الأئمة) بأنها ليست من الأصول، وهو يعني أن تحديد الأسماء بالصورة التي يقولها الشيعة، وهو النص من الوحي على أن علي بن أبي طالب ومن بعده الحسن والحسين إلى آخر الأئمة الاثني عشر الذين تدعي الشيعة ضرورة مبايعتهم، وتعتبر –هذه المبايعة- من أهم المطالب في أحكام الدين ومن الأصول، فابن تيمية ينفي هنا ذلك المعنى الشيعي.
ومن أجل أن نوضح المعنى الذي انتهى إليه ابن تيمية، فإننا سنفصّل المحاور التي تقوم عليها الدولة الإسلامية، وعند التفصيل سنجد أنها تقوم على محورين، هما:
وعند العودة إلى مجمل كلام ابن تيمية في الفتاوى وغيرها عن المحورين نجد أنه يقول بفرضية المحورين ووجوبهما، وهو ما ينفي التلبيس والتدليس الذي لجأ إليه بعض الكتّاب من خلال الإيهام بأن ابن تيمية لا يقول بوجوب أحد المحورين أو كليهما.
قد يقول بعضهم إن الوصول إلى الدولة الإسلامية في هذا العصر مستحيل، وذلك بسبب النظام الدولي الذي يمانع في ذلك، ويحاربه أشد المحاربة، والحقيقة أن الشعب الذي يعوّل على النظام الدولي من أجل تحقيق أهدافه هو شعب واهم وغير مستحق للحياة، فالنظام الدولي لا يحقق أهداف الشعوب والأمم، بل يحقق مصالح واضعيه وصانعيه، وهو استغلال الشعوب وإخضاعها لبرامجه وثقافته وتجارته وصناعته.
بل على العكس من ذلك فمن الممكن تحقيق قيام الدولة، وليس ذلك مستحيلاً، شريطة أن نعي قيمة هذا الهدف ووجوبه، ونهيء الإرادة والعزيمة التي نحتاجها لتحقيق ذلك الهدف، وبخاصة إننا نملك مقوماً مهماً وأساسياً لتحقيق إقامة الدولة، وهو امتلاكنا لمقوم وجود الأمة الواحدة، وهو شرط أساسي لقيام هذه الدولة، فنحن نملك أمة واحدة تمتد من طنجة إلى جاكرتا، تمتلك وحدة ثقافية، وهذا الاتساع يعطي الدعاة فرصاً متعددة لإقامة هذه الدولة، في أكثر من بلد.
لكن إقامة الدولة يصبح مستحيلاً عند افتقاد هذا الشرط وعند غياب هذه الأمة، وعند تفتيت هذه الوحدة الثقافية. ومن الواضح أن الغرب بعد أن أسقط الدولة العثمانية، وأنهى الخلافة عام 1924، تحوّل إلى إنهاء وجود هذه الأمة عن طريق تفتيت الوحدة الثقافية والوحدة السياسية، وركّز على عوامل هذه الوحدة وهي: القرآن الكريم، والسنة المشرفة، واللغة العربية، والتاريخ المشترك، والدور الحضاري إلخ…، فهو قد شكك في تلك العوامل وسعى إلى تفتيتها على مدار قرنين من الزمان، أما الوحدة السياسية فها هو يعمل باستمرار على تفكيك البنى السياسية، فها هو قد جزّأ السودان إلى سودانين، والعراق إلى ثلاث دول، والحبل على الجرار كما يقولون.
لذلك أعتقد الآن، أنه يجب على كل الدعاة المخلصين والعلماء والأحزاب والجماعات والمشايخ العاملين في حقل الدعوة الإسلامية، والحاملين لهم الإسلام أن يعملوا على محورين في المرحلة القادمة:
إن أمتنا تمر بأسوأ ظروف مرت عليها في تاريخها من الضعف الاقتصادي والسياسي والعسكري..، وسبب ذلك عدم وجود دولة تقود هذه الأمة، ومع أن عدداً من الشخصيات والحركات استهدفت قيام الدولة في مطلع القرن العشرين، لكن ذلك لما يتحقق حتى الآن، وانقسم المسلمون إزاء عدم تحقيق ذلك الهدف إلى ثلاثة أصناف: المشوّه والمهوّن والمهوّل، لكن الحقيقة إن قيام الدولة أمر ممكن وضروري لأننا نملك أهم مقوّم لقيامها وهو وجود أمة حية وفاعلة تمتد من طنجة إلى جاكرتا.
Lorem Ipsum