تناولت دراسات متعددة في الفترة الأخيرة الجانب العقلي(1) في المسلم المعاصر، لكن الدراسات التي تناولت الجانب النفسي معدودة ومحدودة، وانطلاقاً من هذه الحاجة سألقى الضوء على بعض جوانب هذه الأزمة، لعلها تكون فاتحة لدراسات أخرى.
برزت عدة ظواهر سلبية مؤخراً في حياة المسلم المعاصر النفسية منها: التواكل، السلبية نحو المحيط الاجتماعي، بروز الفردية، ضعف التوجه الجماعي، الرغبة في الخلاص الفردي، القلق والانهزام أمام الحضارة الغربية إلخ…
وقد أَرجع كثير من المفكرين الإسلاميين وعلى رأسهم محمد عبده ومالك بن نبي هذه الظواهر إلى انحطاط فهم القضاء والقدر، وإلى انتشار التصوف، وبيّنوا أن إيمان المسلمين الأوائل بالقضاء والقدر في صورته الصحيحة كان عامل امتياز وفاعلية، في حين أن إيمان المسلمين المتأخرين بالقضاء والقدر في صورته الخاطئة أصبح عامل انحطاط وتأخر، وذلك أن المسلمين الأوائل فهموا أن الإيمان بالقضاء لا يتناقض مع الأخذ بالأسباب، بل يأمر الفهم الصحيح والإيمان الصحيح بالقضاء والقدر بأن يأخذ المسلم بالأسباب، في حين أن المسلم الذي عاش في العصور الأخيرة فهم الإيمان بالقضاء والقدر على أنه ترك الأسباب، كما ندّدوا بالتصوف ووضّحوا آثاره السلبية في حياة المسلمين الاجتماعية والعقلية والنفسية، وبيّنوا مخالفته للتعقّل والحكمة في الإسلام.
وإن تقصي أسباب تلك الظواهر يجعلنا لا نقف عند ذلك التعليل فحسب، بل يجعلنا نسأل: لماذا كان هناك خطأ في فهم القضاء والقدر في مرحلة من التاريخ الإسلامي؟ ولماذا انتشر التصوف؟ ولماذا قبله المجتمع الإسلامي في وقت معيّن؟ إن الجواب على هذه الأسئلة وأمثالها يجعلنا نضع يدنا على السبب الجوهري لانتشار هذه الظواهر في المجتمع الإسلامي. ونحن من أجل أن نجيب على هذين السؤالين سنبحث عن جوابهما في فرعين رئيسيين من البناء الثقافي الإسلامي: العقيدة والفقه، وذلك ضمن الفقرات التالية:
إن البناء العقائدي للمسلم يقوم على الإيمان وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء القدر، وقد وضّح هذه الأركان حديث جبريل المشهور الذي سأل فيه جبريل الرسول صلى الله عليه وسلم ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، ونحن اعتماداً على هذا الحديث سنوضح البناء العقائدي للمسلم.
إن أبرز ما يميز القرآن الكريم في حديثه عن الله تعالى هو ليس الكلام المجرد، إنما كلامه من خلال أفعال لله لها علاقة بالكون كخلق الإنسان، وخلق السماوات والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، وقد عرض القرآن كذلك صفات الله تعالى كالقدرة والعلم والرحمة والسمع والبصر من خلال آيات الكون ومظاهر الطبيعة وعالم الغيب الشهادة.
إن هذه الطريقة في الكلام كان لها أثرها في البناء النفسي، وأنا من أجل توضيح هذا الأثر في البناء النفسي سآخذ مثالاً هو كلام الله عن خلقه الإنسان وأبيّن هذه الطريقة القرآنية في البناء النفسي عند المسلم.
بيّن الله تعالى خلق الإنسان من طين فقال تعالى:
(ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) (المؤمنون،12)
وبيّنت الآيات استخلاف الله للإنسان وإخبار الملائكة بذلك وسؤالهم عن سر أحقيته في هذه الخلافة فقال تعالى:
(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدّس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) (البقرة،3)
وبيّن أنه طلب من الملائكة السجود لآدم فسجدوا إلا إبليس، قال تعالى:
(ولقد خلقناكم وصوّرناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين) (الأعراف،11)
وبيّن تعالى أن الله خلق للإنسان زوجاً منه فقال تعالى:
(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة لعلكم تتفكرون) (الروم،21)
وقد بيّن الله تعالى أنه أنعم على هذا المخلوق بنعمة السمع والبصر والفؤاد قال تعالى:
(وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة) (المؤمنون،78)
وقال تعالى:
(قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) (الملك،23)
وقال تعالى:
(وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) (النحل،78)
وقد بيّن الله تعالى أنه هو الذي سخّر للإنسان كل ما في الأرض، وسخّر له الشمس والقمر والليل والنهار وسخّر له البحار التي تجري الفلك فيها ويستخرج الحلية واللحم الطري منها فقال تعالى:
(وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون. وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذّكرون. وهو الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) (النحل،12-14).
إن المسلم عندما يعلم تلك الحقائق بأن الله خلقه فأصبح هذا الإنسان الذي يسمع ويحس ويعقل ويتحرك، لا شك أن الإنسان عندما يتأمل الهوة الكبيرة التي تفصل بين المادة التي ابتدأ منها والصورة التي انتهى إليها يعظّم الله تعالى.
وعندما يعلم أن الله استخلفه دون بقية المخلوقات وأن الله تعالى أكرمه بأن طلب من الملائكة السجود له يعظم الله تعالى ويحمده على هذا الإكرام.
وعندما يعلم المسلم أن الله أنعم عليه بنعمة السمع والبصر والفؤاد، وأنعم عليه بالزوجة عندما يعلم المسلم ذلك ويوقن به يعظّم الله تعالى ويحبه تعالى ويرجوه أن يستمر في تسخيره هذه النعم التي يستمتع فيها.
وعندما يعلم المسلم أن الله تعالى سخّر له الليل والنهار والشمس والقمر وسخّر له البحار التي تجري السفن فوقها ويستخرج اللحم الطري من داخلها، وسخّر له الأرض التي تخرج النبات والزرع الذي يأكل منه ويستفيد، عندما يعلم كل ذلك يعظّم الله لأنه خلق هذه المخلوقات العظيمة، ويحبه تعالى لأنه سخّرها له يستفيد منها ويستمتع بها، ويرجوه تعالى أن يستمر هذا التسخير.
وكذلك الحديث عن بقية الإيمان: الملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقضاء والقدر، فقد كان للقرآن طريقة خاصة في تناولها إلى إغناء البناء النفسي للمسلم، وأبرز معالم هذا التناول الخاص عرض هذه العناصر من خلال وقائع تدل على قدرة الله تعالى وعلمه ورحمته وقوته.
وبالنسبة للملائكة قد بيّن الله تعالى أنه خلقهم من نور وأن بعضهم يحفّ العرش مسبحاً بحمد الله تعالى، وأنهم يتعاقبون في شهود صلاة المؤمنين وأنهم يشهدون صلاة الجمعة، وأن منهم مالكاً خازن النار، وأن منهم ملك الموت الموكّل في قبض أرواح العباد، وأنهم يحفظون الناس بأمر الله، وأنهم يصلون على المؤمنين، وأنهم أغاثوا المسلمين في معركة بدر إلخ…
وقد وردت آيات كريمة وأحاديث في كل المعاني السابقة، فعندما يعلم المسلم تلك الوقائع عن الملائكة ويوقن بها، فإن المسلم يعظّم الله لأنه خلق مخلوقات من نور لا تقع تحت بصره، عظيمة في قدرها، وفي المهام التي تؤديها مثل حمل العرش، وقبض الأرواح، النـزول بوحي الله، والنفخ في الصور يوم القيامة، وكتابة حسنات الناس وسيئاتهم، وكذلك يحب الملائكة لأنهم يبشرون المؤمنين ويستغفرون لهم، ويشهدون صلواتهم، وكذلك يحب الله الذي سخّر الملائكة التي تقف أمامه وخلفه وعلى جنبه لتحفظه من كل ما يضره.
وأما بالنسبة للركن الثالث من أركان الإيمان وهو الإيمان بالكتب فقد أخبرتنا الأحاديث الشريفة بأن الله أنزل أربعة وعشرين كتاباً، وقد ذكر القرآن منها: الصحف على إبراهيم، والتوراة على موسى، والزبور على داوود، والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد، وقد امتدح القرآن هذه الكتب في أكثر من آية، وقد وصف الله تعالى القرآن بأحسن الصفات، وبيّن آثاره العظيمة من هداية ونور، وليس من شك بأن الإيمان بالكتب بالصورة التي يعرضها القرآن والسنة الشريفة يجعل المسلم يعظم الله تعالى ويحبه لأنه أنزل الكتب التي أرشدت البشر إلى الخير في دنياهم وآخرتهم، كما تجعل المسلم يحب كتب الله لأنها مثلت منارات في ظلمات الطريق وبؤرة إشعاع في دياجير الضلال.
وبالنسبة للركن الرابع وهو الإيمان بالرسل فإن الله أخبرنا بأنه بعث أنبياء ورسلاً إلى مختلف الأقوام والشعوب، كما قصّ علينا القرآن الكريم والسنة النبوية تفاصيل كثيرة عن حياتهم، ودعوتهم، ومعجزاتهم، وصراعهم مع أقوامهم، وعن اضطهاد الكافرين لهم، ثم إنجاء الله لهم، وإهلاك المكذبين بهم والكافرين بهم، ولم تخل سورة تقريباً من حديث عن نبي أو أكثر.
ليس من شك بأن الركن الرابع له دوره في البناء النفسي بالصورة التي عرضته مصادر الإسلام ويتجلّى ذلك بحب الله وتعظيمه لإرسال الرسل الذين مثلوا القدوة الحسنة للبشرية في سلوكهم وتصرفاتهم، كما يبعث الإيمان بالرسل والأنبياء الأمل في الانتصار، لأن الانتصار كان نهاية صراعاتهم مع الباطل، كما يعمق الإحساس بالانتماء ويطرد الإحساس بالغربة لأنه يسير على خطاهم، ويهتدي بهديهم.
أما بالنسبة للركن الخامس وهو الإيمان باليوم الآخر فإن القرآن والسنة حَوَيا كثيراً من التفصيلات عن اليوم الآخر بدءاً من سكرات الموت إلى الدخول في القبر إلى البعث مرة ثانية والدخول في عالم الحشر ثم الانتهاء إلى نعيم الجنة أو عذاب القبر، ليس من شك بأن هذه التفصيلات عن اليوم الآخر المقصود منها أن يوجّه المسلم طاقة الخوف عنده إلى الخوف من نار الله تعالى، وأن يوجّه طاقة الرجاء عنده إلى جنة الله تعالى.
أما بالنسبة للركن السادس(2) وهو الإيمان بقضاء الله وقدره، وبأن كل ما يحدث له إنما هو بعلم الله تعالى وقدرته، وإنه مسجل ومكتوب في اللوح قبل أن يقع له وقبل أن يخلق الله السماوات والأرض، فليس من شك بأن هذا الإيمان بهذه الصورة يساهم في بناء الثقة في الله تعالى.
كيف عرض الباجوري في كتاب “شرح جوهرة التوحيد” العقيدة الإسلامية، علماً بأنه من أكثر الكتب شيوعاً واعتماداً للتدريس في العصور المتأخرة؟ وكيف تناول أركان الإيمان؟
تحدث كتاب شرح الجوهرة عن الله من خلال إشكالية مستحدثة لم تعرفها مصادر الشرع الإسلامي وهي وجود الله، فيطرح السؤال التالي: ما الدليل على وجود الله؟ ويجيب عن هذا السؤال فيقول: “إن أجاب هذا العالم بشكل مجمل دون التفصيل المعتبر عند المناطقة فقد جاء بالدليل الجملي، وإن فصّل الجواب حسب ما يريده المناطقة فقد جاء بالدليل التفصيلي”.(3)
ويقتضي الدليل التفصيلي أن يتكلم الباجوري عن العدم والوجود وأقسام الحكم العقلي: الواجب والجائز والمستحيل لينتهي أن الله واجب الوجود، ويعتبر الباجوري أن من لا يعرف وجود الله بهذه المقدمات مؤمناً عاصياً إن قدر على النظر، وكافراً في رأي آخر كما ينقل عن السنوسي(4).
ثم يبيّن الباجوري أن الواجب على المكلف أن يعرف عشرين صفة لله تعالى بأدلتها العقلية والنقلية والعادية بعد أن يعرف كل دليل منها(5). ثم يتحدث الباجوري عن هذه الصفات فيقسمها إلى ثبوتية وسلبية(6)؛ ويعرف كلاً من الثبوتية والسلبية فيقول:
“الثبوتية ما يدل على نفس الذات وهي الوجود، ومنها ما يدل على معنى زائد عن الذات وهي صفات المعاني والمعنوية، وكلاً هي أربع عشرة”.
ويبيّن أن السلبية تبلغ خمس صفات فقط، صم يدلل على واجب الوجود ببطلان التسلسل والدور، ثم يتحدث عن الصفات السلبية وهي: المخالفة للحوادث التي يلحقها القدم، وقيامه بالنفس والمقصود: عدم افتقاره تعالى إلى المحلّ والمخصص، والوحدانية التي تعني: وحدانية الذات والصفات والأفعال.
ثم ينتقل إلى صفات المعنى فيذكر صفة القدرة ويشير إلى تعلقها السبع ويتحدث عن صفة الإرادة ويذكر أن لها تعلّقاً صلوحياً قديماً بمعنى صلوحها في الأزل للإيجاد والإعدام، وأن لها تعلّقاً تنجيزياً قديماً بمعنى الإيجاد والإعدام بالفعل، ثم يتحدث عن صفة العلم فيوجبها لله تعالى، وتعلق العلم تعلّق تنجيزي قديم، ثم يقرر صفتي الحياة والكلام لله تعالى، ويتبع ذلك بالكلام عن صفتي السمع والبصر ويقرر أن لهما ثلاث تعلقات: صلوحياً قديماً، وتنجيزياً قديماً، وتنجيزياً حادثاً، ثم يقرر صفة الإدراك وينقل الاختلاف في شأنها، ثم ينتقل إلى الحديث عن الصفات المعنوية وهي: حي، عليم، قادر، مريد، سميع، بصير، متكلم، ويوضح الفرق بين صفات المعاني والمعنوية: أن المعاني صفات وجودية، والمعنوية ثبوتية بمعنى أنها عبارة عن قيام المعنى بالذات، وأن المعاني ملزومة للمعنوية عقلاً، والمعنوية لازمة للمعاني بمعنى أنه يلزم من كونها قادراً أنه موصوف بالقدرة. ثم يتحدث عن علاقة صفات الذات بالذات فيقرر أنها ليست بعين الذات ولا غيرها.
وهناك شيء آخر نجد أنه مستحدث ومقرر في كتاب الباجوري وهو التأويل(7)، ونجد أن كثيراً من صفات الله وأفعاله أو معظمها خضعت لقانون التأويل، وليس من شك بأن النتيجة المباشرة لمثل هذه العملية هو انعدام التأثير النفسي لكثير من أفعال الله وصفاته.
أما الأركان الأخرى للإيمان فنجد أن الباجوري تحدث عن ركن الرسل فقال:
“إن إرسال الرسل فضل من الله وليس واجباً كما ذكر الفلاسفة والمعتزلة، وليس مستحيلاً كما ذهب السمنيّة والبراهمة”.
ثم بيّن الصفات التي تجب لهم وقرّر عدم اكتساب النبوة وأفضلية محمد صلى الله عليه وسلم في النهاية.
أما الأركان الأخرى للإيمان فبعضها لم يرد عنه حديث أصلاً: كالملائكة، والكتب، وبعضها الآخر ورد الحديث عن أجزاء منه مثل الإقرار أن هناك ميزاناً وصراطاً وحوضاً في معرض الحديث عن اليوم الآخر.
الأولى: الإشكالات الفكرية الموجودة في المناخ الإسلامي مما سيؤدي إلى إنعدام الأثر النفسي لها بالمقارنة مع تناولها في القرآن والسنة.
الثانية: الحديث الجزئي عن هذا الركن مما يقلّل الأثر في البناء النفسي.
ليس من شك بأن العبادات لها ارتباط وثيق بالقلب وبالنفس حتى وإن كانت بدنيّة، فقد قصد الشارع من فرضها توليد الخشوع والاطمئنان فقال تعالى:
(قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون) (المؤمنون،1-2)
وقد بيّنت بعض الآيات أن ذكر الله يجعل القلب مطمئناً فقال تعالى:
(الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) (الرعد،28)
وقد بيّنت آيات سورة المعارج أن الإنسان يكون في خوف دائم وفي بخل مستمر وتستثني الآيات من ذلك المصلّين الذي هم على صلاتهم دائمون، قال تعالى:
(إن الإنسان خلق هلوعاً. إذا مسّه الشر جزوعاً. وإذا مسّه الخير منوعاً. إلا المصلّين. الذين هم على صلاتهم دائمون) (المعارج،19-23)
وقد بيّن الله تعالى أن الصلاة كبيرة وثقيلة إلا على الخاشعين الذين يوقنون بلقاء الله تعالى، ويخافون عذابه، ويرجون جنته فقال تعالى:
(واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين. الذين يظنّون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون) (البقرة،45-46)
وقد صرحت الآية التي أمرت بأخذ الزكاة من المسلمين أن القصد من ذلك هو التوصل إلى تطهير المسلمين وتزكيتهم، والمقصود من ذلك جعلهم يعظّمون الله عوضاً عن المال، قال تعالى:
(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم بها وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم) (التوبة،103)
وقد صرحت الآية التي تحدثت عن الصيام بأن الله فرضه من أجل توليد التقوى، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) (البقرة،183)
وقد صرحت بعض الآيات إلى أن الهدف من أحد أعمال الحج وهو ذبح الهَدْي توليد التقوى والخوف في قلوب العباد من الله، لأن الله لن يصل إليه شيء من لحوم الأضاحي ودمائها ولكن تصله التقوى التي تتمثل في الخوف منه تعالى، وفي الحرص على تنفيذ أمره، قال تعالى:
(والبُدْن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليه صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمُعْتر وكذلك سخّرناها لكم لعلكم تشكرون . لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخّرها لكم لتكبّروا الله على ما هداكم وبشّر المحسنين) (الحج،36-37)
ووصف الله الذين أوتوا العلم بالخشوع عندما يسمعون كلام الله يتلى عليهم فقال تعالى:
(إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرّون للأذقان سجّداً. ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً. ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً) (الإسراء،107-108)
إذن توليد الخشوع والاطمئنان هدف رئيسي من أهداف جميع العبادات حسب الطرح القرآني.
ليس من شك بأن الركوع والسجود مظهران رئيسيان من مظاهر خضوع العبد المسلم لربه، ونستطيع أن يقول أنهما قمتان من قمم عبادة المسلم لربه، ولنرى ماذا قال عنهما كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، قال الكتاب:
“الحنفية، قالوا يحصل الركوع بطأطأة الرأس، بأن ينحني انحناء يكون إلى حال الركوع أقرب، فلو فعل ذلك صحت صلاته، ثم بإكمال الركوع فهو انحناء الصلب حتى يستوي الرأس بالعجز، وهذا في ركوع القائم، أما القاعد فركوعه يحصل بطأطأة الرأس مع انحناء الظهر، ولا يكون كاملاً إلا إذا حاذت جبهته قدام ركبتيه”(8).
وقال الكتاب عن السجود:
“قالوا: حد السجود المفروض هو أن يضع جزءاً ولو قليلاً من جبهته على ما يصح السجود عليه، أما وضع جزء من الأنف فقط فإنه لا يكفي إلا لعذر على الراجح، أما وضع الخد أو الذقن فإنه لا يكفي مطلقاً لا لعذر ولا لغير عذر ولابد من وضع إحدى اليدين وإحدى الركبتين وشيء من أطراف إحدى القدمين، ولو كان إصبعاً واحداً على ما يصح السجود عليه، وأما وضع أكثر الجبهة فإنه واجب، ويتحقق السجود الكامل بوضع جميع اليدين والركبتين وأطراف القدمين والجبهة والأنف”(9).
نلحظ من خلال الكلام السابق تركيز الكتاب على صورتي الركوع والسجود، ومظهرهما، ورسمهما، ونلحظ إغفاله للحديث عن عقلهما ووعيهما وعن الخشوع لله وتعظيمه الذي يجب أن يرافقهما والذي هو الهدف من فرضهما.
نجد بَوْناً شاسعاً فيما استهدفه القرآن من فرض العبادات وبين ما تحدث عنه كتاب الفقه على المذاهب الأربعة نفسها، فنجد أن الهدف من جميع العبادات حسب الطرح القرآني توليد أمور معنوية مثل الخشوع والتقوى والتطهر، لكننا لا نجد لذلك أثراً في كتاب الفقه الذي يتحدث عن مظهرين من مظاهر العبادة وهما الركوع والسجود، بل نجد تركيزاً على صورة العبادة، ورسمها، وإطارها الخارجي، ولا نجد أي تركيز يذكر على عقل الصلاة الذي هو الخطوة الأولى لتوليد الخشوع، ولا نجد كذلك ذكراً للأمور المعنوية الأخرى التي تتولّد عن أعمال الركوع والسجود مثل: التعظيم، والرجاء، والتقوى، والإنابة، والإخبات إلخ… ناهيك عن الحديث عن تبيان الأهمية الشرعية للخشوع مثلاً وتوضيح كيفية زيادته، والعوامل التي تؤدي إلى نقصانه في الصلاة إلخ…، وليس هذا فحسب لكننا نجد على النقيض من هذا تقليلاً لقيمة أية توجيهات مباشرة وصريحة في هذا المجال فنجد أن الأمر الواضح بالاطمئنان من الرسول صلى الله عليه وسلم والذي ورد في حديث المسيء صلاته يتحرّف ليصبح ليس فرضاً أولاً، وليتحول تحديد الاطمئنان بالعمل الجسمي وليس بالحالة النفسية ثانياً كما هو واضح من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاطمئنان في الحديث المذكور الذي جاء فيه: “دخل رجل المسجد فصلى ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فردّ عليه السلام وقال: ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ.
فرجع، ففعل ذلك ثلاث مرات. فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلّمني.
فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها” (رواه البخاري ومسلم وأحمد).
وقد جاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة ما يلي:
“الفرض السابع: الرفع من الركوع،
الثامن: الرفع من السجود،
التاسع: الاعتدال،
العاشر: الطمأنينة.
هذه الفرائض الأربعة متصلة ببعضها، وقد اتفق على فرضيتها ثلاثة من الأئمة، وخالف الحنفية في فرضيتها، بل قالوا: إن الرفع من الركوع والطمأنينة من واجبات الصلاة لا من فرائضها، بحيث لو تركها المصلي لا تبطل صلاته، ولكنه يأثم إثماً صغيراً، كما تقدم بيانه غير مرة”(10).
“الحنفية: فقالوا: الطمأنينة: وهي تسكين الجوارح حتى تطمئن المفاصل، ويستوي كل عضو في مقرّه بقدر تسبيحه على الأقل، واجبة في الركوع والسجود، وكذا في كل ركن قائم بنفسه”.
“المالكية: وأما الطمأنينة فهي ركن مستقل في جميع أركان الصلاة وحدّها استقرار الأعضاء زمناً ما زيادة على كل ما يحصل به الواجب من الاعتدال والانحناء، وكل ذلك لازم لابد منه في الصلاة عندهم”(11).
النتيجة التي يمكن أن نقرّرها من هذه المقارنة إن الفقه ذهب بعيداً فركز على صورة العبادة، ومظهرها، ورسمها، وأغفل الحديث عن الجانب النفسي الذي يجب أن يرافقها والذي هو المقصود من فرضها، والهدف من تشريعها كما وضّح القرآن الكريم(12)، ليس من شك بأن هذا التوجّه جعل الفقه بصورته التي انتهى إليها يساهم في الإفقار النفسي للمسلم(13) في حين أنه يفترض أن يكون عاملاً في الإغناء النفسي للمسلم.
الخلاصة
إن الصورة التي عليها كتب العقيدة والفقه كانت عاملاً رئيسياً من عوامل توليد أزمة المسلم المعاصر النفسية، لذلك من أجل تجاوز هذه الأزمة لابد من إعادة عرض العقيدة والفقه بالصورة التي تعيد إغناء المسلم ملاحظين العوامل التي أدت إلى هذا الإفقار.
(1) منها: أزمة العقل المسلم للدكتور عبد الحميد أبو سليمان، تشكيل العقل المسلم عماد الدين خليل، ومنها كتابا محمد عابد الجابري: نقد تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي.
(2) انظر تفصيلات عن بناء أركان الإيمان الستة لنفسية المسلم في كتابي “جذور أزمة المسلم المعاصر: الجانب النفسي” الصفحات (57-100).
(3) الباجوري، شرح جوهرة التوحيد (ص 32).
الباجوري هو الشيخ إبراهيم بن محمد بن أحمد الباجوري شيح الجامع الأزهر من فقهاء الشافعية نسبة إلى “الباجور” من قرية المنوفية بمصر، وهو شارح “جوهرة التوحيد” وهذا الشرح من أكثر كتب العقائد شيوعاً وتدريساً ولهذا اخترته حتى يكون أساس المقارنة.
(4) المرجع السابق (ص 34).
(5) المرجع السابق (ص 43).
(6) المرجع السابق (ص 70 وما بعدها).
(7) المرجع السابق (ص 149).
(8) الفقه على المذاهب الأربعة، ج1، (ص 231).
(9) المرجع السابق، ج1، (ص 232).
(10) المرجع السابق، ج1، (ص 234).
(11) المرجع السابق، ج1، (ص 234-235).
(12) إن هذا الإغفال للجانب النفسي المعنوي كان النافذة التي دخل التصوف منها على الأمة الإسلامية وخير دليل على ذلك كتاب “إحياء علوم الدين” للغزالي الذي أوهمها بأنه يلبي حاجتها تلك.
(13) هناك علماء لاحظوا هذا الخلل، وزاوجوا في تقديمهم بين صورة العبادة وحقيقتها وأبرزهم أحمد بن حنبل وابن القيم الجوزية في رسالتيهما حول الصلاة.