حسم مؤتمر بازل الذي نجح هرتزل في عقده عام 1897 للصهيونية العالمية في تحديد فلسطين كأرض لإقامة الدولة الصهيونية المزمع إنشاؤها، ثم نلحظ أنه تتالت بعد هذا المؤتمر الأحداث المزلزلة لكيان العالم الإسلامي.
وقد جندت الصهيونية العالمية كل طاقاتها من أجل تحقيق هذا الهدف، فتواصل هرتزل مع الدولة العثمانية، والتقى بالسلطان عبد الحميد، وتواصل مع الدولة الألمانية، وتواصل مع الامبراطور وليام الثاني، فلما وجد أن الأمور لا تمشي بالصورة التي يريدها, توجّه إلى انجلترا، ووضع ثقله فيها وتعاون معها، وخدمها بكل إمكانيات اليهود العالمية: المالية والسياسية والعلمية والثقافية.. إلخ.
ثم بدأت الأحداث تتوالى، فقامت الحرب العالمية الأولى عام 1914م، وكان هناك طرفان: الدولة العثمانية والدولة الألمانية من جهة، وانجلترا وفرنسا من جهة ثانية، وحركت انجلترا العرب ضد الأتراك فكانت ثورة الشريف حسين عام 1916م، التي جاءت بعد مراسلات الشريف حسين مع مكماهون المندوب السامي البريطاني في مصر عام 1915م.
وانتهت الحرب العالمية الأولى عام 1918م بتفكيك الخلافة العثمانية إلى عدة دول قطرية، وأسقطت الحكم بشريعة الإسلام، فأقرت الدول المنتصرة استعمار معظم الدول العربية واقتسمتها بينها، وصدر عام 1917م وعد بلفور نتيجة التعاون الوثيق بين الصهيونية العالمية والحلفاء، ثم نفذت انجلترا وعد بلفور بعد أن احتل الجنرال “اللنبي” القدس في 9 كانون الأول عام 1917م واستعمرت فلسطين، ومكّنت اليهود في فلسطين عن طريق الهجرات غير الشرعية من أوروبا وغيرها، وساعدتهم على اغتصاب الأراضي من أصحابها الفلسطينيين، وسمحت لهم بإقامة المستعمرات في كل أنحاء فلسطين، وساعدتهم في إقامة كياناتهم السياسية المستقلة: كالوكالة اليهودية، وكياناتهم العمالية: كالهستدروت، ونقلت لهم معظم أملاك الدولة كي يتوسعوا في مستعمراتهم التي كانت تنقسم إلى نوعين: الموشاف والكيبوتز، فالموشاف كانت ملكية الأرض فيها جماعية، أما الكيبوتز فملكية الأرض فردية، أما آلات الزراعة الميكانيكية فملكيتها جماعية، وجميع المستوطنات بنوعيها حصون قتالية.
في هذه الأثناء التي كانت فيها انجلترا تنسج خيوط مؤامراتها مع الصهيونية العالمية من أجل ابتلاع فلسطين، ونقلها إلى الصهيونية العالمية، وتنفيذ وعد بلفور؛ برز عالمان من علماء الأمة هما: الحاج أمين الحسيني، والشيخ عز الدين القسام، الذين تصديا لهذه المؤامرة، وجعلا القضية الفلسطينية ملء السمع والبصر على مستوى العالم الإسلامي، بل العالم أجمع، فمن هما هذان العالمان الفارسان؟ وفيم التقيا؟ وفيم افترقا؟
ولد الحاج أمين الحسيني عام 1895م في القدس، وتلقى تعليمه الأساسي فيها، ثم انتقل بعدها إلى مصر ليدرس في دار الدعوة والارشاد التابعة لمحمد رشيد رضا، وليدرس في الأزهر وفي كلية الآداب في القاهرة، وأدى فريضة الحج في السادسة عشرة من عمره، والتحق بالكلية الحربية في استانبول، ليلتحق بعدها بالجيش العثماني، والتحق بعدها في صفوف الثورة العربية الكبرى عام 1916م.
شارك في ثورة النبي موسى عام 1920م، ثم انتخب مفتيا للقدس عام 1921م خلفا لأخيه كامل الحسيني، وترأس أول مجلس للشؤون الإسلامية والأوقاف والمحاكم الشرعية، وهو المجلس الإسلامي الأعلى لفلسطين عام 1922م، وترأس مؤتمر العالم الإسلامي الذي عقد أول اجتماع له من أجل القضية الفلسطينية في القدس عام 1931م، وتكرر عقده برئاسته في مكة وبغداد وكراتشي وغيرها في أوقات لاحقة.
كوّن جمعية –الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- من أجل الإصلاح بين المتخاصمين ومقاومة الدعوة الصهيونية للعرب لبيع أراضيهم، وأسس اللجنة العربية العليا لفلسطين وترأسها عام 1936م، كما شارك في ثورة 1936م، وقادت اللجنة العربية العليا الجانب السياسي من الثورة، وطارد الإنجليز الحاج أمين الحسيني مما اضطره للجوء إلى المسجد الأقصى ثم الهروب إلى لبنان، وهناك أقام من عام 1937م إلى عام 1939م بداية الحرب العالمية الثانية، وقررت السلطة الفرنسية تسليمه إلى الإنجليز في فلسطين، لكنه هرب إلى العراق، وهناك اشترك في ثورة رشيد عالي الكيلاني ضد الإنجليز عام 1941م، ويقال إنه هو الذي حرض رشيد عالي الكيلاني على الثورة ضد الإنجليز والتعاون مع الألمان، وشارك الفلسطينيون الذين كانوا لاجئين سياسيين مع الحاج أمين الحسيني في العراق في قتال الإنجليز، وعندما فشلت الثورة هرب الحاج أمين الحسيني إلى طهران، واعتقل اللاجئون السياسيون، ثم طردوا من العراق.
ثم انتقل إلى ألمانيا والتقى هتلر في ألمانيا وتكلم هناك باسم العرب جميعا، وطلب من هتلر أن يمنح الدول العربية استقلالها بعد الحرب، ثم عاد إلى القاهرة في نهاية الحرب العالمية الثانية، وترأس الهيئة العربية العليا التي شكلتها الجامعة العربية عام 1946م، وهي التي قادت الفلسطينيين في قتالهم اليهود بعد إعلان التقسيم في 29 تشرين الثاني 1947م والتي استمر طوال عام 1948م ، وانتهى بإعلان دولة (إسرائيل) في 15/5/1948م، ثم انتهى به المطاف إلى الإقامة في بيروت والوفاة فيها عام 1974م.
ولد الشيخ عز الدين القسام –رحمه الله- في بلدة جبلة من أعمال اللاذقية عام 1882م، وتربى في أسرة متدينة ومعروفة باهتمامها بالعلوم الإسلامية، ثم ارتحل إلى الجامع الأزهر بالقاهرة سنة 1896م، وتخرج منه عام 1906م، وعاد إلى بلده حيث عمل مدرساً وخطيباً في جامع إبراهيم بن أدهم.
احتل الفرنسيون الساحل السوري عام 1918م في نهاية الحرب العالمية الأولى وهنا تصدى عز الدين القسام لفرنسا، فباع عز الدين القسام بيته في جبلة ليشتري به سلاحا، ثم درب المتطوعين في جنوب جبلة؛ لأنه كان عنده خبرة في السلاح وكان قد أخذها من تطوعه في الجيش العثماني في أكثر من مناسبة، ومنها تطوعه في لحرب إيطاليا في طرابلس الغرب 1911م.
وعندما اكتشفه الفرنسيون، انتقل من جبلة إلى جبل صهيون من أجل الاستفادة من مناعة الجبل، فقاوم الفرنسيين، ثم أعلن الفرنسيون عن جائزة لمن يساعد في القبض على الشيخ القسام، وأصدروا حكما بالإعدام عليه، مما اضطره للهرب إلى دمشق، وعندما احتل الجنرال غورو دمشق بعد معركة ميسلون عام 1920م، غادر القسام دمشق إلى فلسطين.
عمل القسام في التدريس في بعض المدارس في حيفا، ثم استلم الإمامة والخطابة في جامع الاستقلال عند إنشائه في عام 1925م، وأعلن عزالدين القسام في خطبه في مسجد الاستقلال أن الإنجليز هم رأس البلاء، وأنه يجب توحيد الإمكانات لحربهم وطردهم، وحذر عز الدين القسام من التساهل مع الهجرة اليهودية، ثم عمل مأذوناً شرعياً، وكان هدفه من ذلك أن تتاح له فرصة التواصل مع الناس في بيوتهم ليكتشف أوضاعهم الحقيقية، ولتكون فرصته لدعوتهم في مختلف القرى والمدن، وبدأ يجمع مجموعات لا تتجاوز الخمسة أشخاص، ثم رفعها إلى تسعة أشخاص، وكان يضع نقيبا لكل مجموعة، وكان يعلمهم أمور دينهم، ثم يبدأ يدربهم على السلاح، وسمى هذه المجموعات (الجهادية) وكان الشعار الذي رفعه القسام: “هذا جهاد: نصر أو استشهاد”.
وليس من شك بأن عمله كان مراقبا من قبل السلطات الإنجليزية التي زرعت الجواسيس في محيطه، ليتجسسوا عليه وعلى حركته، ومع ذلك فقد قام أتباعه بعدة عمليات ضد المستعمرات اليهودية في فلسطين منها إلقاء قنابل على مستعمرة نهلال عام 1932م.
وفي عام 1935 اجتمع أمران على عز الدين القسام، هما:
الأول: زيادة مراقبة السلطات الإنجليزية له، وخشيته من اعتقاله واعتقال القيادات التي حوله، وهذا سيؤدي إلى إحباط عمله وإنهائه.
الثاني: ازدياد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، واتساع مساحة الأراضي التي استولوا عليه، فقد وصل إلى فلسطين عام 1935م 62 ألف يهودي، وتملّك اليهود في العام نفسه 73 ألف دونم، حتى كتب المندوب السامي البريطاني قبل نهاية عام 1935م إلى وزارة المستعمرات: ” إن خمس القرويين أصبحوا بالفعل دون أرض يمتلكونها، كما أن عدد العمال العاطلين عن العمل آخذ في الازدياد”[2].
هنا حزم القسام أمره على الخروج واتصل بأتباعه، وأخبرهم عزمه على إعلان الجهاد، وخرج إلى جبال جنين في ليلة 26 من شهر تشرين أول (أكتوبر) 1935م، ثم وقعت المعركة الفاصلة بين عز الدين القسام والقوات الإنجليزية قرب قرية الشيخ زيد في أحراش يعبد، وكانت معركة غير متكافئة في أعداد الطرفين، واستشهد عز الدين القسام في نهايتها وكان ذلك في 20 تشرين ثاني (نوفمبر) 1935م.
وكان استشهاد عز الدين القسام سببا في إشعال الثورة في كل أنحاء فلسطين، وكان قد وزع أعضاء تنظيمه على مناطق عدة ورتب أوضاعهم لكي تستمر الثورة، وبالفعل بدأت الثورة في نيسان (أبريل) 1936م واستمرت إلى عام 1939م، وبالفعل كان رجاله الذين رباهم ونظمهم أوفياء لدمه وجهده الذي بذله، وقادوا الثورة في مختلف مناطق فلسطين من الشمال في صفد وعكا، وفي الوسط في نابلس وجنين، وفي الخليل والقدس.
استعرضنا فيما سبق سيرة عالمين جليلين هما الحاج أمين الحسيني والشيخ عز الدين القسام رحمهما الله، ورأينا أعمالهما في القضية الفلسطينية، ففيم التقت سيرة هذين الفارسين؟ وفيم افترقت؟
التقت سيرتهما بأنهما لم يأبها لمرض القطرية الذي بدأ يتفشى في العالم العربي، ولم يلتزم كل منهما العمل بقطره وحده، بل اعتبر الحاج أمين الحسيني أنه ليس ابن فلسطين فحسب، بل ابنا للأمة الإسلامية، لذلك شارك في أحداث العراق، وساهم في ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941م، بل وحث على ذلك، وكذلك اجتمع بهتلر عام 1942م فخاطبه باسم العرب جميعا.
كذلك فعل الشيخ عز الدين القسام، فعندما جاء إلى فلسطين، تجاوز انتماءه السوري، واعتبر نفسه ابنا للأمة الإسلامية، وعليه أن يعمل في القضية الفلسطينية، فكلها قضايانا كمسلمين ، وهي قضايا أمة واحدة.
لذلك انخرط في القضية الفلسطينية، وحذر من مخاطر الاستعمار الانجليزي والهجرة اليهودية، ونبه إليهما، وحشد جماهير الشعب الفلسطيني لمواجهتهما من خلال منبر جامع الاستقلال، ونظم النابهين من الفلسطينيين الذين تجاوبوا معه، ثم خرج مجاهداً حاملا بندقيته، ثائرًا في مقدمتهم وليس من خلفهم، حتى استشهد في جبال فلسطين.
من الواضح أن العالميْن الجليلين غلّبا انتماءهما الإسلامي على انتمائهما القطري، وهذا واجب المسلم؛ لأن المسلم ينتمي إلى الأمة الإسلامية وليس إلى جغرافيا محددة.
افترق الحاج أمين الحسيني عن الشيخ عز الدين القسام بأن الأول عمل في الجانب السياسي للقضية الفلسطينية، وعمل الثاني في الجانب الجهادي للقضية الفلسطينية، وكلاهما أغنى وأثرى القضية الفلسطينية خير إغناء وإثراء، وكان عملهما في صالح القضية الفلسطينية، ثم اجتمع الجهدان، بعد أن اشتعلت الثورة عام 1936م، وقاد الحاج أمين الحسيني الجميع بعد استشهاد عز الدين القسام، ورعى تلاميذ وأبناء العصبة القسامية وتنظيم “الجهادية”، وأصبحوا جميعا في صف واحد، وأصبح الكيانان كيانًا واحدًا في كل مراحل القضية الفلسطينية بعد ثورة 1936م، ثم في حرب عام 1948م التي قامت بعد انسحاب انجلترا من فلسطين وإنهاء الانتداب البريطاني في 15/5/1948م، وقد عمل رجالات تنظيم القسام بإمرة الحاج أمين الحسيني في “قوات الجهاد المقدس” التي أنشأها الحاج أمين الحسيني لمواجهة اليهود عام 1948م من خلال “الهيئة العربية العليا” التي أسستها الجامعة العربية عام 1946م، والتي كان يرأسها الحاج أمين الحسيني، واستمر التعاون بين الحاج أمين وجماعة القسام بل تم اللقاء الكامل بينهما إلى حين وفاته عام 1974م.
وقد التقى الجهدان (الحسيني) و(القسامي) في ثورة 1936م، وفي كل مراحل القضية الفلسطينية بعدها؛ فكانا فارسين عظيمين من فرسان الأمة، تجاوزا مرض القطرية في كثير من مراحل عملهما، فرحمهما الله رحمة واسعة.
[1] * كاتب ومفكر إسلامي فلسطيني.
[2] تاريخ فلسطين الحديث، عبد الوهاب الكيالي: 251.
Lorem Ipsum