ياسر عرفات ماذا أضاف إلى ساحة القضية الفلسطينية؟

لقد جاء ياسر عرفات إلى ساحة العمل الفلسطيني في مطلع الخمسينات، والقضية الفلسطينية مرتبطة بمفهوم الأمّة، فكانت التيارات الرئيسية التي تشغل الساحة السياسية هي: التيار الإسلامي، والقومي العربي، والقومي السوري، والشيوعي، وكان كل تيار يعتبر القضية الفلسطينية جزءاً من مفهوم الأمّة عنده، فكان التيار الإسلامي يعتبر القضية الفلسطينية جزءاً من قضايا الأمّة الإسلامية، وكذلك التيار القومي العربي يعتبر القضية الفلسطينية جزءاًً من قضايا الأمّة العربية، وبالطبع كان القوميّون السوريّون يعتبرونها واحدة من قضايا الأمّة السورية، وكذلك كان الشيوعيّون يعتبرونها جزءاً من قضية طبقة البروليتاريا في صراعها ضدّ الطبقة البرجوازية.

جاء ياسر عرفات إلى الساحة السياسية وكانت تلك المعطيات تشكّل معالم الخريطة السياسية، فقدّم طرحاً جديداً يتلخّص في أنّ القضية الفلسطينية هي قضية الشعب الفلسطيني، وتجاهل موقع الأمة من قضية الشعب الفلسطيني، كما تجاهل موقع الشعب الفلسطيني في قضايا الأمّة، ذلك توجّه جديد استخدمه ياسر عرفات في مجال القضية الفلسطينية، وجاءت ظروف عربية ساعدت ياسر عرفات على ترسيخ هذا التوجّه في العالم العربي، فبعد حرب 1967م واحتلال اسرائيل لسيناء والضفّة الغربية والجولان، ووضوح الطريق المسدود الذي انتهى إليه المشروع القومي العربي، أفسح جمال عبد الناصر رائد القومية العربية آنذاك لياسر عرفات بأن يتسلّم رئاسة منظمة التحرير بعد معركة الكرامة عام 1968م، وأفسح بالتالي لمقولات ياسر عرفات وفتح بأن تترسّخ في الواقع العربي.

        واستحدث ياسر عرفات في مجال القضية الفلسطينية أمراً آخر هو إعلانه عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وهذا يعني الحيادية نحو البناء الداخلي، أو عدم تبنّي فتح أيّ برنامج لحلّ القضايا الداخلية في أوضاع الأمّة، أو بصورة أدقّ وقفت فتح موقفاً محايداً أمام كل الطروحات الفكرية التي كانت تعجّ بها ساحة العمل السياسي العربي في الستينات كالاشتراكية والديمقراطية والليبرالية والخلافة الإسلامية والحاكمية والمجتمع الجاهلي والقومية والصراع الطبقي وديكتاتورية البروليتاريا إلخ… وقد جاء هذا الحياد مخالفاً لأصل التصوّر في ظهور مشكلة فلسطين في الواقع العربي عند كل التيارات السياسية الإسلامية والقومية والشيوعية والليبرالية، إذ كان كل تيار يعتبر أنّ قضية فلسطين جاءت حصيلة تأخّر وانحطاط وهبوط في مختلف الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للأمّة، ولا يمكن أن تأخذ القضية الفلسطينية مسارها الصحيح إلا بتصحيح هذه الجوانب، وبنائها، والارتقاء بها وفق تصوّر منهجي خاص لكل تيار حسب الايديولوجية التي يتسلّح بها.

        والآن: بماذا تبلورت إضافات ياسر عرفات في مجال القضية الفلسطينية؟ تبلورت في مشروع إقامة الدولة الفلسطينية، وجاءت اتفاقات أوسلو في 13 ايلول (سبتمبر) 1993م لتجسّد ذلك المشروع، لكنه تعثّر لسبب بسيط هو أنه ليس هناك إنجاز حقيقي على أرض الواقع يفرض على اسرائيل أن تتنازل عن الضفة الغربية وعن القدس وغيرها من قضايا الحل النهائي، ولما أحسّ عرفات بهزال ما تعرضه عليه أمريكا واسرائيل في كمب ديفد في تموز (يوليو) عام 2000م، من قضايا الحلّ النهائي: القدس والأقصى وحقّ العودة للاجئين والدولة والحدود والسيادة إلخ… كان مضطراً إلى رفض العرض الأمريكي-الاسرائيلي والعودة إلى إشعال الانتفاضة الثانية لينقذ ما تبقّى له من رصيد عند الشعب الفلسطيني، عندئذ رفعت أمريكا واسرائيل الغطاء عنه، واعتبرته ناقضاً لما اتفق عليه من نبذ الإرهاب، ونجح شارون من الوصول في الوصول إلى رئاسة الوزارة الإسرائيلية في عام 2002م، وظنّ بعضهم أنّ وصول شارون هو العائق أمام وجود حلّ للقضية الفلسطينية، لكنّ الحقيقة أنّ قيادات اسرائيل اليمينية واليسارية لم تتوقّف أطماعها في أي يوم من الأيام عند حدود عام 1948م، ولتوضيح ذلك نجد أنّ هناك نظريتين حكما اسرائيل:

الأولى: نظرية اسرائيل العظمى وهي التي تبنّاها إسحاق رابين وشمعون بيريز وتتبلور في أنّ اسرائيل يجب أن تكتفي بفلسطين التاريخية مقابل أن تلعب اسرائيل دوراً فاعلاً محوريّاً في المنطقة من خلال بناء جيش كاسح، واقتصاد قوي، وامتلاك تكنولوجيا وأسلحة متقدّمة وعلاقات دبلوماسية مؤثّرة إلخ…، وقد بلور الجانب الاقتصادي من نظرية اسرائيل العظمى “مشروع الشرق الأوسط الجديد” الذي طرحه شمعون بيريز في القمة الاقتصادية في المغرب عام 1994م.

الثانية: نظرية اسرائيل الكبرى وهي التي يمثّلها الآن شارون وتقوم على التوسّع في مجال الأراضي وبخاصة نحو الشرق باتجاه الفرات، لذلك كان هدف شارون الأول منذ مجيئه عام 2002م إلى رئاسة الوزراء الاسرائيلية إلغاء اتفاقات أوسلو على أرض الواقع لأنها تتعارض مع استراتيجيته في إقامة اسرائيل الكبرى.

        أمام هذه النتائج ما مصير الإضافات التي طرحها ياسر عرفات في مجال القضية الفلسطينية؟ إنّ مصيرها مرتبط بتحقيق قيام الدولة الفلسطينية، ولمّا كان هذا الإنجاز متعثّراً في حياته، فهو أكثر صعوبة بعد مماته، لعدّة أسباب: فلسطينية واسرائيلية ودولية، أمّا الأسباب الفلسطينية فأبرزها أنّ فتح معرّضة للانقسام والتشرذم، وهذا ما سيضعف أداءها، أمّا الأسباب الاسرائيلية فأوضحها أنّ اليمين الاسرائيلي مرشّح لأن يزداد قوة في الأيام القادمة بقيادة شارون، ويصبح أقدر على ابتلاع معظم أراضي الضفّة الغربية، أمّا الأسباب الدولية فأهمّها أنّ بوش في ولايته الثانية ماضٍ في مزيد من التناغم والتجاوب مع الأطماع الاسرائيلية بشكل عام ومع شارون بشكل خاص.

        لذلك وبناء على التصوّر السابق فإنّ القضية الفلسطينية مرشّحة في الأيام القادمة لأن تتحلّل من إضافات ياسر عرفات، وتعود القضية الفلسطينية كإحدى قضايا الأمّة من جهة، وسيكون حلّها مرتبطاً بحل قضايا الأمّة المختلفة من سياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية من جهة ثانية.

(1) نشر هذا المقال في جريدة “الحياة” بتاريخ 26/11/2004م في صفحة (قضايا وتحقيقات).

السبت في 13 من ذي القعدة 1425ﻫ
الموافق 25 من كانون الأول (ديسمبر) 2004م

 المشرف

الشيخ الدكتور غازي التوبة

اترك رد