سقطت الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى عام 1924، واستكملت أوروبا استعمار العالم العربي، فاستعمرت إنجلترا العراق وفلسطين والأردن، واستعمرت فرنسا سوريا ولبنان، وجاء هذا بعد أن استعمرت فرنسا وإنجلترا دول الجزائر وتونس والمغرب ومصر وعدن في القرن التاسع عشر، ثم أصبحت الدول العربية المستعمرة بين مشروعين:
الأول: تقوده الدول المستعمِرة وأوروبا، فأنشأت الدولة الوطنية بهدف تغريب الأمة ثم قادته القيادات القومية، ومر المشروعان بمرحلتين: الأولى: رأسمالية، والثانية: اشتراكية.
الثاني: مشروع تقوده قيادات دينية يهدف إلى إعادة الخلافة وإلى إعادة تطبيق الشريعة في كل شؤون المجتمع، مع اختلاف الأساليب في مختلف البلاد العربية والإسلامية: فأنشأ حسن البنا الإخوان المسلمين في مصر، وأنشأ أبو الأعلى المودودي الجماعة الإسلامية في باكستان، وأنشأ تقي الدين النبهاني حزب التحرير في فلسطين إلخ…، ثم نشأت أحزاب وجماعات أخرى على مدار السنين التالية… إلخ.
واستمر الصراع بين المشروعين لمدة قرن كامل، ثم جاء الربيع العربي الذي يعتبر أحد تجليات الصراع بين هذين المشروعين، فما الذي يعنيه الربيع العربي؟ يعني أمرين:
الأول: فشل المشروع القومي في تغريب الأمة ووصوله إلى طريق مسدود.
الثاني: تجذر الإسلام في كيان هذه الأمة التي عبرت عنه باختيار الإسلاميين في البلدان العربية التي جرت فيها الانتخابات كتونس ومصر والمغرب… إلخ، مع أنهم كانوا مضطهدين وملاحقين أمنيا في المرحلة التي سبقت الربيع العربي، ولم يكونوا مهيئين لخوض الانتخابات.
والآن ما الذي يريده الغرب من هذه الأحزاب الإسلامية؟ وما الذي يجب أن تقوم به على ضوء نشأتها ومسارها وتاريخها وظروف المنطقة؟
يريد الغرب من هذه الأحزاب الإسلامية أن تصبح كالأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا، أو كحزب العدالة والتنمية في تركيا، بمعنى أن يصبح النظام الديمقراطي العلماني الليبرالي هو المرجعية العليا، وأن تصبح قيمه هي التي تسود الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإعلامية… إلخ، وأن يحتفظ الأشخاص بسلوكهم الديني في محيطهم الخاص دون نقله إلى الفضاء العام.
إننا نعتقد أن هذا التوجه سيفشل لسبب رئيسي هو أن الأمة قد جربت النظام الديمقراطي بعد الحرب العالمية الأولى في عدد من البلدان العربية، وقد طبق النظام الديمقراطي في بلدين رئيسيين من العالم العربي هما: مصر والعراق، وفي غيرهما من البلدان العربية مثل لبنان والسودان وسوريا وتونس إلخ، ومع ذلك فإنه لم يترسخ، والسبب في ذلك أنه لم يتلاءم في بعض معطياته مع شخصية الأمة العربية الإسلامية التي حكمها، والأرجح أن بعض قيمه التي يقوم عليها مثل: نسبية الحقيقة، والحرية المطلقة للفرد، واعتبار أن الكون مادة لا روح فيها، وتقديم المنفعة والمصلحة واللذة على الأخلاق إلخ…، تصطدم مع كثير من القيم التي تقوم عليها أمتنا وثقافتنا وشخصيتنا، فنسبية الحقيقة تصطدم مع أحكام العبادة والعقيدة الثابتة إلى قيام الساعة، واعتبار الكون مادة فقط يصطدم مع إيمان المسلم بعالم الغيب، وحرية الفرد المطلقة في البيع والشراء والتملك وغيرها تصطدم مع القيود التي فرضها الإسلام على حرية الفرد من أجل مصلحة الجماعة… إلخ.
وقد أشار حسن البنا في إحدى رسائله إلى بعض القوانين المخالفة للإسلام مثل قوانين إباحة الربا والخمر والزنا… إلخ، وتحدث عن ضرورة محاربة هذه القوانين والتوصل إلى إلغائها، والتي جاءت ثمرة من ثمرات النظام الديمقراطي الذي حكم مصر بين عاميْ 1919-1952.
من الواضح والجلي أن النقل الحرفي للتجربة الديمقراطية الغربية هو أحد أسباب فشلها، لأن ما يصلح للغرب ليس بالضرورة يصلح لأمتنا العربية الإسلامية، لذلك أعتقد أنه من الضروري أن يقوم المفكرون الإسلاميون والجماعات والأحزاب الإسلامية بعدة مراجعات لبعض الفترات التاريخية، واعتماد بعض الحقائق الفكرية عن الواقع في عدة مجالات قبل إقرار النظام السياسي بشكل نهائي، ويجب أن تشمل المراجعات واعتماد الحقائق الأمور التالية:
الأول: تقويم دقيق وشامل للتجربة الديمقراطية في مصر والعراق بين الحربين العالميتين.
الثاني: رصد الاختلافات بين مجتمعنا والمجتمع الغربي، وأبرز هذه الاختلافات تتجسد في الموقف من الدين، فدور الدين سلبي في الكيان الغربي وإيجابي عندنا، والدولة أقوى من المجتمع في الغرب، في حين أن المجتمع أقوى من الدولة عندنا.
الثالث: الوعي بأن الديمقراطية نظام سياسي مناسب لأوروبا والغرب، وهو حصيلة التجربة الغربية لمدة قرون، فالنظام الذي يناسب الغرب ليس بالضرورة مناسباً لنا، بل تجب محاولة تطويره ليكون متناسباً مع واقعنا وشخصيتنا الحضارية.
الرابع: العلم بأن الحضارة الغربية ليست خيراً كلها، بل تمر بأمراض وأزمات، وحكماؤها ومفكروها يرصدون تلك الأمراض والأزمات، وعلينا ألا ننقل تلك الأمراض والأزمات إلى واقعنا، بل من الحكمة والعقل تجنب تلك الأمراض والأزمات.
الخامس: وعي تجربتنا التاريخية السياسية، وفرز بعض عناصرها الإيجابية مثل “نظام أهل الحل والعقد”، وقاعدة المحاسبة التي تتجسد في مبدأ: “من أين لك هذا؟” الذي طبقه عمر بن الخطاب… إلخ، ومحاولة تطويرها بما يناسب العصر.
السادس: الوعي بأن هناك أمة قائمة هي الأمة العربية الإسلامية، وهي ذات لغة واحدة وتاريخ واحد، ولها ثقافة واحدة، وذات عادات واحدة، وتقاليد واحدة… إلخ، وهذه الأمة تحتاج دولة ترعى كيانها، وتعزز قوتها، وتعلي شأنها، وتحفظ وحدتها، وتدرأ الشرور عنها… إلخ، ومن الطبيعي أن يستهدف الإسلاميون -الذين نجحوا في مصر وتونس على مختلف توجهاتهم- إقامة هذه الدولة بعد نجاحهم في انتخابات الربيع العربي، لأن نشأتهم كانت من أجل تحقيق هذا الهدف، ولأن الأمة أنجحتهم من أجل إنجاز هذه الخطوة.
السابع: بعد أن سقطت الخلافة وقامت دول في مختلف أنحاء العالم العربي تطبق المنهج الرأسمالي الديمقراطي القومي الليبرالي بعد الحرب العالمية الأولى، ثم طبقت المنهج الاشتراكي القومي بعد الحرب العالمية الثانية، بقي -في كلا الحالين- تطبيق بعض تعاليم الإسلام في بعض جوانب الحياة كأمور الزواج والطلاق وأمور الأوقاف… إلخ.
فهي لم تستطع أن تلغي كل أمور الشرع الإسلامي من واقع المجتمع، والآن فإن الإسلاميين في تونس ومصر بين خيارين: إما زيادة مساحة التشريعات المطبقة، وإما تطبيق التشريع الإسلامي بشكل كامل على مختلف نواحي الحياة، وإذا لم تقم الجماعات الإسلامية بهذه الخطوة -وهي تطبيق التشريع الإسلامي بشكل كامل- فإنها لا تكون قدمت شيئاً جديداً للأمة.
والآن، ما واجب الوقت على الجماعات الإسلامية بشكل عام، وفي تونس ومصر بشكل خاص، على ضوء الوقائع السابقة؟ إن واجب الوقت على الجماعات والأحزاب الإسلامية هو أن تجعل الإسلام المرجعية التي تحتكم إليها الدولة والنظام والشعب في كل الشؤون: السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والتربوية… إلخ.
وهي عندما تفعل ذلك إنّما تلبي حاجة يتطلبها الواقع المحيط بها، وبذلك تنهي فترة التعثر والاضطراب الذي عاشته الأمة خلال القرن الماضي وأدى إلى عدم تحقيق النهضة، وذلك بسبب التنكر لواقع الأمة الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي القائم على الإسلام.
ليس هذا فحسب، بل أدى عدم جعل الإسلام المرجعية الأولى للدولة إلى تفتيت عامل وحدة الأمة الثقافي، وهو أهم عامل من عوامل وجودنا الذي يقيم أمتنا ويميزها ويعطيها التماسك والفعالية، وهو ما يجب أن نحرص عليه ونسعى لعدم تفتيته.
ومن أبرز الحجج التي تقدم من أجل منع تحكيم الإسلام في كل شؤون حياتنا مراعاة الأقلية الدينية المسيحية التي ليس الإسلام ديناً لها، وإذا راعينا هذه الأمر فإننا سنخرج الأقليات العرقية من جامع الوحدة، ففي كل الأحوال لن تتحقق الوحدة بشكل كامل فلا بد من وجود أقلية، وحتى في حال تحكيم الإسلام فإن الأقلية الدينية المسيحية ليست بعيدة عن الشخصية الحضارية للأمة، فهي موجودة منذ قرون، وتفاعلت مع معطيات وعوامل هذه الشخصية وباتت جزءاً منها، وأعتقد أن المشكلة في التدخل الغربي الذي يوجد التفرقة، ويحرض عليها، ولا يريد الخير والاستقرار لأمتنا، بل ما زال يتعامل معها بأحقاده الصليبية.
الخلاصة: استهدفت الحركات الإسلامية التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى إعادة الخلافة، وتصارعت مع المشروع القومي العربي الاشتراكي، وجاء الربيع العربي ليؤكد وصول المشروع القومي العربي إلى طريق مسدود بعد أن فشل في إقامة النهضة، وليؤكد تجذر الإسلام في كيان الأمة، ويريد الغرب من الأحزاب الإسلامية التي تصدرت الربيع العربي أن تصبح مثل الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا، وأن يرسخ النظام الديمقراطي الليبرالي العلماني.
ولكنني أرجح أن هذا التوجه سيفشل كما فشلت الديمقراطية في العراق ومصر بعد الحرب العالمية الأولى، لذلك فإن المطلوب من الأحزاب الإسلامية في تونس ومصر أن تجعل الإسلام مرجعية الحكم في كل شؤون المجتمع الاقتصادية والثقافية والتربوية والفكرية… إلخ، لأن هذا سيحدث تطابقا بين الأمة والدولة، ويضعنا على سكة النهضة والحضارة، ويقلل احتمال الفشل. “