تعاني الأمة اضطرابا في معظم شؤونها السياسية والإحتماعية والإقتصادية، وربما كان هذا الاضطراب نتيجة للاضطراب الثقافي الإسلامي، ونجد مظاهر متعددة لهذا الاضطراب، ومن هذه المظاهر على سبيل المثال لا الحصر الإسراف في اعطاء ألقاب: “العلامة” وغيرها مع أنه يفترض أن لا يعطى هذا اللقب لأحد إلا بعد أن يثبت موجودية علمية فائقة في الابداع و التأثير.
يعاني المناخ الثقافي في مجال العلوم الإسلامية بعض الاضطراب، ومن أبرز مظاهر ذلك التساهل في إعطاء الألقاب العلمية التي لا يستحقّها في الظروف الطبيعية السليمة إلا أشخاص محدودون في الجيل الكامل، ومن هذه الألفاظ لقب “العلاّمة”، فتجد أنّ بعض مقدّمي البرامج في الفضائيات، والمذيعين في الإذاعات، وكتّاب المقالات يصفون بعض الأشخاص ﺑ “العلاّمة”، وهذا النعت يعني بلوغ المنعوت الذروة في فنون ذلك العلم، والإحاطة بكل أصوله وفروعه، والتطوّرات التي مرّ بها، بل والإبداع في جوانب منه إلخ…
ولكن عند التدقيق نجد أنّ ذلك الشخص المنعوت الذي أطلق عليه مقدّم البرنامج أو المذيع لقب “العلاّمة” لا يعلم شيئاً عمّا أنتجته الحضارة الغربية المعاصرة في مجال تخصّصه أو ما هو قريب منه، ولا يتابع شيئاً مما أنتجه معاصروه في زاوية أخرى من العالم العربي، وأنّ رصيده فقط هو عدد من الكتب خالية من أيّ إبداع أو إضافة، وتعتمد تلك الكتب على جمع ما كتبه الأوّلون، وترديد أقوالهم، وعلى الكم دون الكيف.
وبالمقارنة مع ما هو حاصل في فروع المعرفة الأخرى، مثل الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء إلخ… نجد أنّ لقب “البروفسور” مثلاً، والذي يقابل لقب “العلاّمة” في العلوم العربية والإسلامية لا يطلق إلا على شخص امتلك علماً تفصيلياً بماضي العلم الذي نال فيه اللقب وحاضره، وتابع المستجدّات التي تطرحها المؤتمرات العلمية في المؤسسات الغربية، ولابد أن يكون أبدع فيه شيئاً ما في مجالات ذلك العلم، وقدّم أبحاثاً جديدة أَثْرت ذلك العلم، وأثبت حضوراً حقيقياً في العلم والإحاطة والابتكار إلخ…، واطلع بشكل خاص على كل ما أنتجته الحضارة الغربية في مجال تخصّصه، واستفاد منه، وساعده ذلك على الإبداع الذي قام به.
وبالعودة إلى ماضينا الثقافي نجد أنّ الألقاب الموازية التي كان يحصل عليها بعض العلماء، كانت تحمل دلالات قريبة إلى الدلالات المعاصرة، فلو أخذنا لقب “المجتهد” نجد أنّ أعلى درجات الاجتهاد كانت تتجسّد في لقب “المجتهد المطلق”، ومن أبرز صفات “المجتهد المطلق” أنه هو التبحّر في مجال التخصّص والإبداع فيه، وقد جاء ذلك ثمرة التمكّن في الموروث والاطلاع على علوم الحضارات الأخرى من يونانية وهندية وفارسية إلخ… ويؤكّد ذلك استعراضنا لسيرة أولئك العلماء المجتهدين من أمثال الجويني والباقلاّني والأشعري والرازي والتفتازاني والإيجي إلخ… فنجد أنهم كانوا مطّلعين على علوم اليونان في مجال المنطق والفلسفة ومذهب الذرّة، ومطّلعين على علوم الهند وعلى رأسها علوم مذهب السمنيّة، ومطّلعين كذلك على مذاهب الفرس كالزرادشتية والمانوية وغيرهما إلخ…، وبالإضافة إلى الاطلاع نجد الإبداع والإضافة والردود إلخ…
ومما يدل على حيوية المناخ الثقافي العربي الإسلامي السابق استخدامه عدّة ألقاب تفصيلية مثل: المجتهد المُرَجِّح, والمجتهد في المذهب، والحافظ، والفقيه، والمحدّث إلخ… وذلك كي تكون هناك سعة في إعطاء اللقب المناسب لمضمون الحالة العامة، وكي لا يتم إعطاء لقب لمن لا يستحقّه، ومن أجل الابتعاد عن الإسراف في الألقاب.
وعند محاولة استقراء العوامل التي تؤدّي إلى الركود الثقافي في الدراسات العربية الإسلامية وعدم تقدّمها وتطوّرها، نجد أنّ أحد العوامل الرئيسية هو الإفراط في إطلاق مثل هذه الألقاب وإعطائها لمن لا يستحقّها, لذلك يفترض ألاّ يكون هناك تساهل في منح هذه الألقاب من أجل المسيرة الثقافية والارتقاء بها، وأن تعطى هذه الألقاب لمن يستحقّها، والاستحقاق يكون مرتبطاً بالقدرة على الإبداع، وتقديم الحلول، وتطوير بعض جوانب العلوم في تخصّصه الثقافي، ومن المؤكّد أنّ ذلك الإبداع سيكون مرتبطاً بالاطلاع على ما أنتجته الحضارة الغربية في المجال الموازي لتخصّص العالم، لأنّ تلك الحضارة أفرزت نظريّات وآراء وأقوالاً في مختلف مجالات علوم اللغة واللسانيات والدلالات والتأويل إلخ…، سيكون من المفيد الاطلاع عليها، والاستفادة منها، لأنّ عدم الاطلاع فيه خسارة كبيرة، ومناف لسيرورة العلم فنحن قد اطلعنا على علوم الذين من قبلنا كاليونان والرومان والهنود والفرس إلخ… واستفدنا منها، وكذلك الغرب استفاد من علومنا في مختلف المجالات وبنى عليها حضارته الحديثة، وكذلك نحن علينا أن نطّلع -الآن- على ما أنتجته الحضارة الغربية من أجل إغناء مسيرتنا الثقافية المعاصرة وتطويرها، وبنائها البناء الصحيح السليم.