نحو فقه تقويم الجماعات الإسلامية

يلحظ الدارس لعلوم الإسلام غنى الفقه الإسلامي في الأحكام المتعلقة بالفرد المسلم سواء في مجال الصلاح أم الطلاح.

فعند الصلاح نجد ألفاظاً مثل التقي الورع المنيب العابد الزاهد إلخ..

وعند الطلاح نجد ألفاظاً مثل الفاجر الفاسق الكاذب الطاغي إلخ…

ويلحظ الدارس أن هناك توصيفاً دقيقاً لكل لفظ من  الألفاظ السابقة.

لكننا نلحظ في المقابل فقر الفقه الإسلامي في المقاييس والألفاظ التي يمكن أن تقوّم من خلالها الجماعات الإسلامية في العصر الحديث.

فقد قامت كثير من الجماعات الإسلامية على مدى القرن الماضي في مختلف أرجاء العالم الإسلامي، واستهدفت أموراً دعوية وجهادية وخيرية وسياسية واجتماعية إلخ…

لكننا نفتقر إلى فقه شرعي لتقويم الجماعات ومدى نجاحها وفشلها، ومدى صوابها وخطئها، ونقيس به تقدمها وتأخرها لنصدر حكماً دقيقاً عليها.

ومن أجل سد هذه الثغرة لا بد لنا من العودة إلى الجماعات التي قامت على مدى التاريخ الماضي، واستعراض الأسس التي قامت عليها والأعمال التي أنجزتها من أجل استخلاص معالم أصول تقويم الجماعات الذي نتطلع إليه من أجل تطبيقه على عصرنا الحاضر، وعند القيام بتلك العودة نجد أن الجماعات تنقسم إلى قسمين:

أولا: الجماعات العلمية

هي جماعات انطلقت من إثارة قضايا شرعية ودينية في مجالات مختلفة كالعقائد والفقه والحديث إلخ… أو هي الجماعات التي قامت بالتصحيح أو الإضافة في قضايا مثارة، ويمكن أن نمثل لذلك بجماعات المذاهب الفقهية الأربعة، وبجماعة المعتزلة، وجماعة الأشاعرة إلخ… فالمذاهب الفقهية نشأت نتيجة اجتهادات خاصة في مجالات علم الحديث وعلم أصول الفقه والأحكام الشرعية إلخ.

واستفاد كل إمام من الإمام الذي سبقه، فالشافعي استفاد من أبي حنيفة ومالك في تكوين مذهبه وخالفهما في بعض القواعد والاجتهادات كالموقف من حديث الآحاد، والموقف من بعض القواعد الأصولية كالاستحسان وإجماع أهل المدينة.

ونشأت جماعة المعتزلة على قضية عقدية هي قضية صفات الله سبحانه وتعالى، وكان انطلاقها أن تنزيه الله تعالى يقتضي تعطيل الصفات، لذلك قالت بخلق القرآن الكريم، وقالت بعدم رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، ثم قامت جماعة الأشاعرة ردًّا على المعتزلة ثم تطورت مقولاتها حول قضايا الصفات وخلق القرآن الكريم بدءًا من أبي الحسن الأشعري ومرورًا بالباقلاني وانتهاءً بالرازي.

ثانيا: الجماعات العلمية العملية

وهي جماعات جمعت بين العلم والاجتهاد الشرعيين من جهة، وبين القيام بدور عملي من جهة أخرى، وهي على الأرجح تأثرت بالجماعات العلمية الموجودة في عصرها. ويمكن أن نمثل بالسلجوقيين الذي حكموا بغداد وقربوا إليهم أبا حامد الغزالي، ورأسوه على أكبر جامعتين في التاريخ الإسلامي في بغداد ونيسابور، وسمّيت كل منهما “النظامية” نسبة إلى نظام الملك الذي أنشأهما والذي كان رئيسا للوزراء عند الحاكم السلجوقي.

وقد قامت هاتان الجامعتان بتخريج الدعاة وزودتهم بالعقيدة الأشعرية من أجل مواجهة دعاة الدولة الفاطمية الذين كانوا منتشرين في بلاد الشام، ويمكن أن نأخذ مثالين آخرين على هذه الجماعات وهما: الدولة الزنكية والدولة الأيوبية، فمن المعلوم أن هاتين الدولتين قربتا العلماء والمؤرخين والقضاة، وأنشأتا عشرات المدارس الدينية في بلاد الشام ومصر وأوقفتا عليها الأوقاف المختلفة، واستطاعتا أن تنهيا المد الصليبي في بلاد الشام.

وإذا نظرنا إلى القرن الماضي، فما هي صورة نوعي الجماعات التي تحدثنا عنها؟

أولاً: الجماعات العلمية: لا نجد جماعات علمية جديدة، بل نجد استمرارًا للجماعات القديمة، فهناك جماعات صوفية تعتبر استمرارًا للجماعات السابقة، كما أن هناك جماعات سلفية تعتبر امتدادًا للجماعات السلفية ذات البعد التاريخي، كما نجد جماعات ذات عقائد أشعرية، ولا نجد أية إضافات حقيقية في المجال العلمي، وغياب الإضافات العلمية هو الذي أدى إلى غياب جماعات علمية، وتعود أسباب غياب الإضافات إلى الأمور التالية:

1- غياب النقد العميق لكليات التاريخ الإسلامي: لقد غاب النقد العميق لكليات التاريخ الإسلامي ومسيرته من مثل نقد المسيرة الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والعلمية إلخ… والتوصل إلى نتائج محددة في مجال الإيجابيات والسلبيات للاستفادة منها في مسيرة الأمة الحاضرة، فهذا لم يحدث، لكن الذي حدث هو نقد مسيرة التاريخ الإسلامي بمقاييس الحضارة الغربية فكتب طيب تيزيني وحسين مروة نقدًا لمسيرة التاريخ الإسلامي بمنهاج ماركسي وبمعايير ماركسية بحتة، وكذلك فعل أدونيس في كتابه “الثابت والمتحول” ولكنه زاوج في نقده لمسيرة التاريخ الإسلامي بين الماركسية والليبرالية.

أما دراسة محمد عابد الجابري عن العقل العربي: تكوينه وبنيته، ودراسته عن العقل السياسي والأخلاقي، فأبرز وجه للضعف فيها أنها كانت تنطلق من نقطة مسبقة وهي اعتبار الحضارة الغربية هي الأصل، وبالتالي يأتي الحكم ظالما لحضارتنا كما فعل في العقل السياسي العربي، والعقل الأخلاقي العربي.

لا شك في أن كل محاولات النقد السابقة قاصرة في المعايير التي استخدمتها، والنتائج التي توصلت إليها، فهي قد أسقطت تجربة الحضارة الغربية على واقعنا الحضاري، وهذا خطأ بيّن فلكل أمة كيان مختلف ومسار مختلف. فحتى كارل ماركس في دراسته للتطور الاقتصادي البشري، الذي اعتمد في تحليله على التطور الاقتصادي لأوروبا، والذي خرج منه بالحتميات الاقتصادية المختلفة، اعتبر أن هناك مسارًا اقتصاديًّا لآسيا مختلفًا عنه في أوروبا، وسمّاه “النموذج الآسيوي الاقتصادي” وتوصل إلى أن لهذا النموذج قوانينه الاقتصادية التي لا تطابق التطور الاقتصادي الأوروبي.

2- انقسام التعليم إلى ديني ومدني: كان التعليم موحدًا يشمل الجانبين الديني والدنيوي خلال كل التاريخ الإسلامي، كذلك كانت العلوم الدينية تستفيد من العلوم الدنيوية، وبالمقابل كانت العلوم الدنيوية تتأثر بالعلوم الدينية، وكان هناك تلاقح مستمر بينهما، وهذا التلاقح يخدم مسيرة الأمة الإسلامية في مختلف جوانبها: الفكرية والاجتماعية والاقتصادية إلخ… وقد انتهى هذا النهج التعليمي في النصف الأول من القرن التاسع عشر عندما فصلت الخلافة العثمانية في إسطنبول ومحمد علي باشا والي مصر، التعليم الديني عن المدني، وذلك تأسيًّا بأوروبا. وقد ترك هذا الفصل بين التعليمين: الديني والمدني أثرين كبيرين على الحياة العلمية في الأمة الإسلامية:

  • الأول: وجود علماء في الدين ليس لديهم اطلاع على العلوم الدنيوية، ووجود علماء في الأمور الدنيوية ليس لديهم اطلاع على العلوم الدينية، مع أنه في السابق كنت ترى العالم مطلعًا على العلوم في الجانبين: الديني والدنيوي.
  • الثاني: تعثر تطور العلوم الدينية: وذلك بسبب عدم اطلاع أرباب العلوم الدينية على تطورات العلوم الأوروبية، والتي كان يمكن أن تفيدهم في تطوير علومهم وبخاصة علوم الإنسانيات واللغات والاجتماعيات واللسانيات.

3- استيلاء الدولة على الأوقاف: لقد شكلت الأوقاف في التاريخ الإسلامي مصدرا كبيرًا من مصادر الإنفاق على العلماء والمتعلمين وإنشاء المدارس والمكتبات والمراصد إلخ… وساهمت تلك الأوقاف في إيجاد مناخ علمي ساعد على إنشاء جماعات علمية. لكن الدولة استولت على الأوقاف في القرن التاسع عشر كما حدث في مصر وإسطنبول وغيرهما من الدول الإسلامية، فقد صادر محمد علي باشا في مصر الأوقاف بحجة أنه سينفق مباشرة على التعليم وغيره ممن كانت تنفق عليه الأوقاف، ولا شك أن هذا الاستيلاء سبب أضرارًا كبيرة للأمة، ومن جملة الأضرار ما أدى إليه هذا الاستيلاء على الأوقاف من تعطيل لمسيرة التعليم.

ثانيا : الجماعات العلمية العملية: قامت جماعات متعددة خلال القرن الماضي منها جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا في مصر، والجماعة الإسلامية التي أسسها أبو الأعلى المودودي في باكستان، وجماعة النور التي أسسها سعيد النورسي في تركيا، وكذلك حزب السلامة الذي أسسه نجم الدين أربكان في تركيا في النصف الثاني من القرن العشرين، وحزب التحرير الذي أسسه تقي الدين النبهاني في فلسطين، وجماعة العدل والإحسان التي أسسها الشيخ عبد السلام ياسين في المغرب وجبهة الإنقاذ التي أسسها عباسي مدني في الجزائر إلخ.

قامت هذه الجماعات على رؤية علمية شرعية، واستهدفت أمورًا عملية منها: إعادة الخلافة، وتحقيق نهضة الأمة، والمساهمة في رقي الحضارة البشرية، وإرجاع فاعلية الأمة علميًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا إلخ… ومواجهة الأخطار التي تهدد الأمة بالتفتيت والشرذمة والتقسيم، ومواجهة مخططات الاستعمار بالسيطرة والنهب، والتصدي لتهديدات إسرائيل بالتوسع والاعتداء إلخ… فماذا نجد؟ هل نجحت هذه الجماعات في تحقيق كل الأهداف السابقة؟

نجد أنها لم تحقق أبرز الأهداف التي قامت من أجلها، فإسرائيل توسعت عام 1967 واحتلت أضعاف ما قامت عليه عام 1948، وهاهما دولتا أفغانستان والعراق محتلتان وهما معرضتان للتفتت والتقسيم و التجزيء وقد تمزقت الصومال، وهاهي اليمن مرشحة للتجزيء والتقسيم، ولم تقم نهضة علمية، فالأمية تبلغ 40%، والفقر يزداد انتشارا وقد قامت تجربتان إسلاميتان في كل من أفغانستان والسودان ومع ذلك فقد فشلتا، فما السبب في كل هذا الفشل في تحقيق الأهداف المأمولة؟ هناك عدة أسباب، لكن أهمهما سببان، وهما:

الأول: ضعف الجانب العلمي: فمن الملاحظ أن هذه الجماعات لم تقم بجهد علمي موضوعي مناسب في تحليل عوامل ضعف الأمة، ولم تحدد خطوات النهوض، ولم تقنن نظرية التغيير الإسلامية من وجهة نظرها على الأقل، ولم تدرس الحضارة الغربية دراسة وافية، ولم تدرس الواقع المحيط بها دراسة متعمقة، ولم تقوّم التجارب الإسلامية المعاصرة لها، ولم تحلَل البناء النفسي والعقلي للمسلم المعاصر، ولم تقم بالفرز العقائدي المناسب، ولم تقم بالغربلة الفقهية المطلوبة إلخ.

الثاني: صورة العلاقة مع الأتباع والأمة: قامت علاقة الجماعات الإسلامية المعاصرة مع أتباعها والأمة على العلاقة العاطفية وهذا جانب صحيح وضروري لكنه لا يكفي، بل يجب أن تقوم العلاقة على جانب آخر، بالإضافة إلى السابق، وهو الجانب العقلي العلمي الموضوعي الشرعي المبرمج وهو الجانب الذي غاب ولم يتحقق، لذلك لم تتحقق الأهداف، ولم يتغير الواقع، بل أصبحنا ننتقل من فشل إلى آخر، وأصبحت هذه الجماعات العلمية العملية تستهلك من رصيد الأمة التاريخي أكثر مما تقدم له، وأصبحت كالعجوز الذي يشيخ ويستهلك أكثر مما ينتج. والآن نخلص إلى المعايير التي يمكن أن تعتبر مؤشرة على صحة الوضع الجماعي وسلامته، وهي:

  1. ضرورة أن تقوم الجماعة الإسلامية على علم واسع وتفصيلي بالشرع والواقع المعاصر، وأن توضح ذلك لأتباعها.
  2. ضرورة أن تقوم علاقة قيادة الجماعة الإسلامية مع أتباعها والأمة على دعامتين، الأولى: عقلية علمية شرعية ومبرمجة ذات أهداف واضحة، والثانية: عاطفية.
  3. ضرورة أن يتوفر نقد عميق لكلَيات التاريخ الإسلامي، ومسيرته الاقتصادية والسياسية والعلمية والاجتماعية والفنية والفكرية إلخ… من خلال وجهة نظر إسلامية وليس من خلال وجهات نظر ومعايير حضارية أخرى.
  4. ضرورة المزاوجة بين علوم الدين وعلوم الدنيا في تعليم وتربية أفراد الجماعة، ونشر ذلك بين أفراد الأمة.
  5. ضرورة الاهتمام بالأوقاف بشكل عام، والأوقاف العلمية منها بشكل خاص.
  6. ضرورة تحقيق تغيير في واقع الأمة باتجاه الأهداف التي قامت من أجلها الجماعات، ويمكن أن نضع في هذا المجال عدة معايير، منها: زيادة النمو الاقتصادي، وتحقيق التقدم العلمي، وزيادة القوة العسكرية، والتقدم في اتجاه التوحد وتقليل حجم التجزئة.

المقال كما ظهر في الجزيرة نت نحو فقه تقويم الجماعات الإسلامية

اترك رد