من العالم؟

قال الرسول صلى الله عليه وسلم : “العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر” رواه أبو داوود والترمذي قام العلماء في أمتنا الإسلامية مقام الأنبياء، وقد جمع الخلفاء الراشدون في أشخاصهم القيادة السياسية والدينية لأمتنا الإسلامية، فهم كانوا الأمراء وكانوا العلماء في الوقت نفسه، ثم انفصلت بعد ذلك قيادة الأمراء عن قيادة العلماء، لكن القيادتين كانتا تكملان بعضهما بعضاً على مدار التاريخ الماضي في العهود الأموية والعباسية والمملوكية العثمانية

وكانت الأمة بخير خلال العقود السابقة بسبب فاعلية قيادة العلماء التي كانت تنشر العلم، وتقود جماهير الأمة، وتعطي الشرعية لقيادة الأمراء طالما أنها ملتزمة بالقرآن والسنة، ومذعنة للشريعة الإسلامية، وجاءت فاعلية العلماء من عدة صفات قد حققوها، ولم تأت من فراغ، وأبرز هذه الصفات أنهم كانوا ربانيين في أخلاقهم وعبادتهم وتصرفاتهم، وكانوا متعمقين بعلوم الإسلام مبدعين في أحد مجالاته، وكانوا محيطين بعلوم العصر لا تغيب عنهم شاردة ولا واردة فيه، وأنهم كانوا مرتبطين بقضايا الأمة، لذلك كان التأثير الكبير لهم في الأمة نتيجة تلك الصفات التي حققوها.

وإذا جئنا إلى عصرنا الحاضر نجد أن جانباً من القصور الذي تعانيه الأمة ناتج من قلة العلماء الذين حققوا الشروط السابقة التي أشرنا إليها، لذلك نجد أن الساحة العلمية غلب عليها الحفظ وقل فيها الإبداع، سادها التكديس وقل فيها النقد والتحليل.

لذلك فمن واجب الساحات والحلقات والأطر العلمية تفعيل كل أدوات النقد والفرز والغربلة من أجل الارتقاء بالعقل الإسلامي من جهة، وإحياء سلطة الألقاب العلمية ومواصفاتها من حافظ، وقارئ، وفقيه، ومحدث، ومجتهد، وعالم إلخ… من أجل ضبط الساحة الشرعية من جهة ثانية. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مَن العالِم؟

اهتم الدين الإسلامي بالعلم والعلماء، فحثّ المسلم على التعلم، وأجزل مثوبة طالب العلم، وأعلى مكانة العلماء فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:

“من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سهّل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما صنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر” (رواه أبو داود والترمذي).

وبيّن القرآن الكريم ارتفاع أهل العلم فقال تعالى:

(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) (المجادلة،11).

وقرن القرآن الكريم شهادة العلماء بشهادة الملائكة فقال تعالى:

(شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط) (آل عمران،18).

لذلك احتفل التراث الإسلامي بالعالم وبيّن أوصافه، وميّز بينه وبين رجالات آخرين لهم مكانة أقل مثل الحافظ، والمحدّث، والقارئ، والمجتهد، والفقيه إلخ… لكننا نلحظ أن هناك اضطراباً في تحديد مضمون مصطلح العالم وصفاته في العصر الحاضر، وهذا الاضطراب أدى إلى إطلاق هذا اللقب على أناس لا يستحقونه، وأدى إلى اعتماد معايير خاطئة في إطلاق لقب العالم منها كثرة الإنتاج وليست النوعية، وتكرار مقولات التراث وليس الابتكار، والتنظير دون ارتباطه بالعمل، ومعرفة التراث مع الجهل بعلوم العصر إلخ… والآن على ضوء هذا الاضطراب في تحديد مضمون مصطلح العالم، ما الصفات التي يمكن أن نعتبرها لازمة للقب العالم والتي يمكن أن نستنتجها من سيرة علماء الأمة على مدار العصور الماضية، ومن دراسة المصادر الإسلامية؟ الصفات اللازمة أبرزها خمس صفات، هي:

الأولى: الربانية:

العالم يجب أن يكون ربانياً بمعنى أن المنهجية الإسلامية هي التي تحركه، فتكون نفسه خالصة لله وحده، ويكون قلبه مملوءاً بحب الله وتعظيمه والخضوع له، وحياته مملوءة بالحرص على العبادة وتمتين الصلة بالله، ويكون سلوكه قائماً على الأخذ بالحلال والابتعاد عن الحرام والشبهات في كل ما يتعلق بذاته وأسرته، وتكون أخلاقه مبنية على الالتزام بكل ما ورد في القرآن الكريم والسنة المشرفة.

الثانية: الإحاطة بالعلوم الإسلامية:

العالم يجب أن يكون محيطاً بالعلوم الإسلامية كعلوم القرآن، وعلوم الحديث، وعلوم اللغة، والفقه ومدارسه، والسيرة، والتاريخ الإسلامي.

الثالثة: التخصص في علم أو أكثر والإبداع في مجال من مجالات العلوم الإسلامية:

        العالم يجب أن لا يكون مستوعباً فقط للعلوم الإسلامية، فهذا هو الحد الأدنى المطلوب منه، ولكن المطلوب منه حتى يستحق لقب العالم أن يكون متخصصاً في علم من العلوم الإسلامية كعلوم القرآن، أو علوم الحديث، أو الفقه إلخ… والمطلوب منه كذلك أن يبدع في مجال أو أكثر من مجالات العلوم الإسلامية.

الرابعة: الارتباط بقضايا الأمة:

العالم يجب أن يكون مدركاً أوضاع أمته، متفاعلاً معها، مستشرفاً لمستقبلها، مرتبطاً بقضاياها، مدافعاً عنها.

الخامسة: فهم الواقع المحيط به فهماً تفصيلياً:

العالم يجب أن يكون فاهماً لعصره المحيط به فهماً تفصيلياً، بمعنى أن يكون مدركاً لعلوم عصره والتيارات التي تحكم هذا العصر، وأن يكون عارفاً بالفرق والمذاهب السائدة في زمانه، وأن يكون ملماً بالفلسفات الموجودة في وقته إلخ… والآن لو استعرضنا سيرة العلماء السابقين لوجدنا هذه الصفات تنطبق عليهم، ومن أجل تحقيق ذلك سنتناول سيرة عالمين هما: أحمد بن حنبل وابن تيمية.

فقد كان أحمد بن حنبل ربانياً حيث اشتهر بين أقرانه منذ الصغر بالتقوى والصبر والجلد، وفي شبابه اتجه إلى جمع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم واتجه في الوقت نفسه إلى تطبيق السنة المشرفة في كل مناحي حياته، فكان لا يترك سنة إلا واجتهد في تطبيقها. وتعرض في كهولته لفتنة القول بخلق القرآن الكريم، وتعرض نتيجة لذلك للعذاب والتنكيل والسجن والإيذاء، ومع ذلك ثبت على القول بأن القرآن كلام الله ليس بمخلوق لأنه الحق الذي يؤمن به، ولأنه رباني يخشى عذاب الخالق ولا يخشى عذاب المخلوقين، ويتطلّع إلى رضوان الله ولا يتطلع إلى رضا البشر الفانين. وفي شيخوخته أقبلت عليه الدنيا وذاع صيته وسعى إليه الخليفة والولاة، وربما كان هذا امتحاناً لربانيته أقسى من الامتحان السابق، لكنه صمد للإغراء ولم يرض أن يأخذ شيئاً مما عرض عليه، وقاطع ابنه لأنه رضي أن يأخذ أموالاً من الخليفة آنذاك، فالخلافة حاولت مع الابن بعد أن يئست من الأب، لكن الأب عاقب ابنه بأن امتنع من الأكل عنده لأن الشبهة طالت أمواله، فأحمد بن حنبل كان ربانياً في شيخوخته كما كان ربانياً في كهولته وشبابه.

ونجد ارتباط أحمد بن حنبل بقضايا الأمة واضحاً في مختلف مراحل حياته، وأبرز شاهد على ذلك ما رأيناه من تصديه للخليفة المأمون في إلزامه الأمة القول بخلق القرآن الكريم، وتصديه لفرق الزنادقة والجهمية والمتصوفة والرد عليها.

وقد تجلّى فهم أحمد بن حنبل لعصره في معرفته لفرق الزنادقة والجهمية وعلم الكلام والمعتزلة، ومعرفته لمدرسة الرأي، ومعرفته للتصوف، واتخاذه الموقف المناسب من كل هذه القضايا.

أما الشخصية الثانية التي استحقت لقب العالم وحققت صفاتها والتي سنلقي الضوء عليها فهي شخصية ابن تيمية الذي كان ربانياً، وتجلّت ربّانيته بالمواقف التي صدع فيها بالحق، فقد أصر على القول بعدم تأويل صفات الله، وأن هذا هو الحق الذي يقول به الله تعالى ويقول به الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول به السلف الصالح، وتحدى خصومه وأعطاهم فرصة طويلة من الزمن كي يأتوا بما هو مخالف لما يقوله، ثم دخل السجن نتيجة لصدعه بالحق، وعرضوا عليه أن يخرج من السجن شريطة تراجعه عن بعض ما يعتقده فرفض ذلك. كذلك أعلن رأيه فيما يتعلق بحكم الحلف بالطلاق وأنه لا يقع الطلاق، ورجاه أصدقاؤه ألا يفتي بذلك، ولكنه أبى مهما كان الثمن الذي يدفعه لأنه رأى عدم الإفتاء بذلك كتماناً للعلم، وكان الثمن السجن الذي مات فيه ليخرج من هناك إلى قبره.

وهناك مجالات أخرى صدع فيها ابن تيمية بالحق منها: صدعه بالحق في مواجهة التتار، والصوفية، والباطنية إلخ…

أحاط ابن تيمية بكل العلوم الإسلامية وتعمق فيها، ودلّت على ذلك كتاباته في كل تلك العلوم، فنجد أنه كتب في علوم القرآن الكريم وعلوم الحديث والفقه والسيرة والتاريخ واللغة العربية…، وناقش قضايا مختلفة في كل تلك العلوم الإسلامية، وأثبت رأياً خاصاً له فيها.

أبدع ابن تيمية في أكثر من مجال علمي، فأبدع في تدعيمه القياس الأصولي في وجه القياس المنطقي الذي استشرت فتنته بين المسلمين، وبيّن فساده وأنه لا يفيد علماً، ووضح في الوقت نفسه أن القياس الأصولي أقرب إلى الموضوعية والمنهجية وإفادة العلم من القياس المنطقي.

كان ارتباط ابن تيمية بقضايا الأمة واضحاً فتصدى لكل الأخطار التي تهددها: خطر التتار، وخطر الفرق الباطنية، وخطر التعصب المذهبي، وخطر المتصوفة إلخ…، فتصدى لكل تلك الأخطار بقلمه وسيفه، وقاد جانباً من الأمة في مواجهتها.

عرف ابن تيمية عصره معرفة تفصيلية، فقد كان يعرف المنطق والفلسفة وعلم الكلام والمذهبية والتصوف والباطنية…، وقد كانت هذه المعرفة التفصيلية إحدى ميزاته التي جعلته يترك آثاراً أكثر من غيره في التعريف بتلك العلوم وفي الرد عليها.

رأينا فيما سبق كيف ميز الشرع شخص العالم الذي هو وريث الأنبياء عن أشخاص آخرين مثل الفقيه، والحافظ، والقارئ، والمحدّث، والمجتهد إلخ…، ورأينا صفاته التي استحق من أجلها هذه المكانة، ورأينا كيف تحققت في عالمين جليلين هما: أحمد بن حنبل وابن تيمية رحمهما الله.

اترك رد