tawbahlike@hotmail.com +(00) 123-345-11

مفهوم الأمة بين الحضارة الغربية والحضارة الاسلامية

مفهوم الأمة بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية

اعتبرت الدراسات الغربية أن الأمة تأتي حصيلة تفاعل نوعين من العوامل:

الأولى: عوامل موضوعية

مثل اللغة، والتاريخ، والجنس الواحد، والإقليم الواحد، والمصالح المشتركة، والآمال الواحدة، والعادات والتقاليد الواحدة، والثقافة الواحدة إلخ…

الثانية: عوامل ذاتية

وعي الأفراد بأن لهم شخصية متميزة ومنفصلة تدفعهم إلى التعبير التنظيمي عن هذه الشخصية المتميزة(1).

واعتبرت هذه الدارسات أن تفاعل النوعين من العوامل سيؤدي إلى تكوين أمة ذات أداء حضاري مشترك وذات وحدة سياسية، وقد أعطى المفكرون الألمان عنصري اللغة والتاريخ الأهمية القصوى في تشكيل الأمة، في حين أعطى المفكرون الفرنسيون العامل التراثي الدور الأول في تشكيل الأمة، واعتبروا أن الدولة هي العنصر الأهم في تحقيق ذلك، فوحدة الأمة وشخصيتها مستمدة من التنظيم السياسي لذلك فإن الدولة سابقة على الأمة وهي سبب وجودها والعكس غير صحيح، لذلك هاجم المستشرق الفرنسي رينان عام 1882م عاملي اللغة والتاريخ في محاضرته الشهيرة: ما الأمة؟ فأكد أن اللغة المشتركة مثلها مثل الأصل الواحد أو الدين أو المصالح كلها غير كافية بذاتها لتكوين أمة، فهي عوامل مساعدة للمعيار الأهم وهو وحدة التراث، فالتاريخ المشترك أهم عوامل التقريب بين الأفراد وتوليد الرغبة في الحياة المشتركة فتنشأ الأمة التي يكون لها الولاء الأول.

مفهوم الأمة في الحضارة الإسلامية

ورد لفظ الأمة في عدد من آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة بعدة معان منها: الحين من الزمن، والجيل، والفرقة، والملّة، والدين إلخ…، لكنه ورد أيضاً بمعنى اجتماع المسلمين على صعيد واحد ملتقياً مع المعنى اللغوي للفظ الأمة والذي يعني جماعة يجمعهم أمر ما: إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد إلخ…(2).

لكن القرآن الكريم لم يعتبر المسلمين أمة واحدة لاجتماعهم على دين واحد فقط، بل لا بد لهم حتى يكونوا أمة إسلامية من أن يتصفوا بصفات أخرى يحققونها في وجودهم وكيانهم، أبرزها:

الشهادة على الناس

قال تعالى:

(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) (البقرة، 143)

تبين الآية السابقة أن الله -تعالى- جعل الأمة الإسلامية أمة وسطاً لعلّة وحكمة هي أن تكون قادرة على القيام بأمانة الشهادة على الناس، والشهادة تقتضي العلم وتفتّح الوعي وتحقق الإدراك من الشاهد حتى يستطيع أن يقوم بأمانة الشهادة على المشهود عليه.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قال تعالى:

(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (آل عمران، 104)

وقال تعالى:

(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) (آل عمران، 110).

دعت الآية الأولى الأمة الإسلامية أن تكون أمة خير تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ثم بيّنت الآية الثانية أن خيرية الأمة الإسلامية جاءت نتيجة أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، وليس من شك في أن تحقيق الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني التطهير المستمر للمجتمع الإسلامي من أي ارتكاس ومن أية معوّقات داخلية، ويعطيه أفقاً عالياً من الشفافية والحيوية.

الدين واحد والقيادة للأنبياء جميعاً

تحدثت “سورة الأنبياء” عن معظم الأنبياء السابقين وهم:

موسى وهارون وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذو الكفل وذو النون وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام جميعاً، وذكرت طرفاً من سيرتهم، وحياتهم، ومواقفهم، وعبادتهم، ودعوتهم، وصراعهم مع الباطل، وصبرهم على أذى الكافرين، وفضل الله عليهم، ثم عقّبت بعد ذلك بآية قال تعالى فيها:

(إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (الأنبياء، 192)

كما تحدثت سورة أخرى هي “المؤمنون” عن عدد من الأنبياء هم: نوح وهود وموسى وهارون وعيسى عليهم السلام ثم قال الله تعالى بعد ذلك:

(وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) (المؤمنون، 51-52)

أشارت الآيتان السابقتان بعد الحديث عن معظم الانبياء إلى أن أمة الانبياء جميعهم أمة واحدة، ويمكن أن نفسر الأمة الواحدة بتفسيرين مرتبطين ببعضهما هما:

الأول: الدين الواحد والملة الواحدة لجميع الانبياء من لدن آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام وهو دين الإسلام الذي أوحاه الله إليهم، وأشارت آيات أخرى إلى مثل هذا المعنى فصرّحت إلى انتماء بعض الأنبياء إلى دين الإسلام فطلب يوسف عليه السلام أن يتوفاه الله على الإسلام،

قال تعالى: (أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف، 101).

وقد وصى إبراهيم ويعقوب عليهما السلام أولادهما أن يموتوا على دين الإسلام،

فقال تعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (البقرة، 132).

الثاني: قيادة الأمة الإسلامية منوطة بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لذلك فإن الامة الإسلامية ليست أتباع محمد صلى الله عليه وسلم وحده بل تشمل أتباع الأنبياء السابقين جميعهم.

إذن نستطيع أن نتبين من خلال الكلام السابق أبعاداً أخرى لمفهوم الأمة في الحضارة الإسلامية يتجاوز الاجتماع الموحد والتجانس المشترك الذي قصدته الحضارة الغربية، وأبرز هذه الأبعاد:

  1. البعد الاجتماعي:

يشتمل على واجبين:

الأول: نحو المجتمع الإسلامي: وذلك بالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعني ديناميكية فعالة من أجل التوازن المستمر.

الثاني: نحو المجتمعات الأخرى: وذلك بالقيام بواجب الشهادة عليها ونقلها إلى ما هو أفضل لها وأخير.

2- البعد الشرعي:

يقوم على الالتزام بالشرع الذي جاء به الدين الإسلامي، ولا شك أن هذا الالتزام يرفع الأمة باستمرار إلى أفق سامٍ من التكيفات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية والعقلية والجمالية.

3- البعد التاريخي:

يقوم على الارتباط بالأمم السابقة وتشكيل أمة واحدة معها والاعتراف بحق القيادة لأنبيائهم.

ومما يؤكد وضوح الأبعاد السابقة عند علماء المسلمين ما أورده الشاطبي عن الجماعة في معرض حديثه عن الأمة الإسلامية والفرق التي افترقت إليها، فقال إن الجماعة تعود إلى خمسة معان هي:

الأول: السواد الأعظم من أهل الإسلام.

الثاني: جماعة أئمة العلماء المجتهدين.

الثالث: الصحابة.

الرابع: جماعة أهل الإسلام إذا اجتمعوا على أمر فهو واجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم.

الخامس: ما اختاره الإمام الطبري من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير فأمر عليه الصلاة والسلام بلزومه(3).

وقد لخص بعض العلماء كلام الشاطبي فقالوا إن الجماعة ترجع في النهاية إلى معنيين:

الأول: الالتزام بالحق الموجود في الكتاب والسنة، والخروج من الجماعة بهذا المعنى هو الابتداع والضلال.

الثاني: الالتزام بإمام جماعة المسلمين وطاعته، والخروج عن الجماعة بهذا المعنى هو البغي والعدوان.

إذن يلتقي مفهوم الجماعة الذي وضحه الشاطبي مع مفهوم الأمة في بعدين:

الأول: بعد التزام الحق الموجود في الشريعة.

الثاني: بعد التزام القيادة المسلمة التي تتبع الرسول صلى الله عليه سلم.

والآن: ما هي أبرز نتائج الأبعاد الخاصة لمفهوم الأمة في الحضارة الإسلامية على مسيرة التاريخ الإسلامي؟

  • لقد أعطى البعد الشرعي الأمة الإسلامية انطلاقة هائلة عندما أقام بنيانها على التعارف بين الشعوب والقبائل انطلاقاً من قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات، 13)، وقوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: “يا أيها الناس إن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، الناس سواسية كأسنان المشط”، وهذا ما جعل المجتمع الإسلامي مجتمعاً فريداً في الماضي والحاضر عندما استوعب أجناساً وعروقاً وشعوباً وقبائل متعددة داخل كيانه، ليس هذا فحسب بل ساهمت هذه الأجناس والعروق والشعوب والقبائل في إقامة الحضارة الإسلامية بما وهبها الله – تعالى – من إمكانيات، وفي الدفاع عنها عندما تعرضت للتهديدات.
  • لقد حفظ البعد الشرعي الأمة الإسلامية بعيداً عن النزعات الاستعلائية وهي اللوثة التي أصابت الأمم في الحضارة الغربية والتي أدت إلى حربين عالميتين أهلكتا الحرث والنسل، وأدت إلى نهب قارتي آسيا وأفريقيا لمدة قرنين وإفقارهما وتدميرهما، وأدت إلى إبادة الهنود الحمر في أمريكا.
  • لقد أعطى البعد التاريخي الأمة الإسلامية سعة في الزمان وامتداداً في المكان، وجعلها تتفاعل مع ما قبلها وتستوعبه دون إحساس بالغربة، ولم يبق هذا الاتصال التاريخي شعوراً مبهماً بل تجسد في قواعد وأصول منها: القاعدة الأصولية التي تعتبر شرع من قبلنا شرع لنا، وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي قال في أحدها تعقيباً على صيام العاشر من محرّم عند بني إسرائيل شكراً لله على إنجاء موسى عليه السلام من فرعون، فصام وأمر بصيامه وقال: “نحن أولى بموسى منكم”
  • لقد أعطى البعد الاجتماعي الأمة الإسلامية اتساعاً في النطاق المدني فولّد الأوقاف التي أصبحت تمثل ربع ثروات العالم الإسلامي(4)وولّد عدم توزيع أرض السواد في العراق على الفاتحين بعد معركة القادسية من أجل الأجيال القادمة من المسلمين، فقد روى البيهقي عن أسلم قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “اجتمعوا لهذا المال فانظروا لمن ترونه، ثم قال لهم: إني أمرتكم أن تجتمعوا لهذا المال فتنظروا لمن ترونه، وإني قرأت آيات من كتاب الله، سمعت الله يقول (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم) (الحشر،8)، والله ما هو لهؤلاء وحدهم. ثم تلا (والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم) (الحشر، 9) والله ما هو لهؤلاء وحدهم. ثم تلا (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا في الإيمان) (الحشر،10) والله ما من أحد من المسلمين إلاّ وله حق في هذا المال أعطى أو منع حتى راعٍ بعدن، وقد جاء في رواية أخرى قوله عن الآية السابقة: “هذه استوعبت الناس جميعاً ولم يبق أحد من المسلمين إلا وله في هذا المال حق إلا ما تملكون من رقيقكم، فإن أعش -إن شاء الله- لم يبق أحد من المسلمين إلا سيأتيه حقه حتى الراعي بسر وحمير يأتيه حقه ولم يعرق فيه جبينه”(5).

يتضح من المقارنة السابقة بين مفهومي الأمة في الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية أن مفهوم الأمة في الحضارة الإسلامية أكثر غنى لأنه لا يقوم فقط على الاجتماع الموحد، والعادات الواحدة، والتقاليد الواحدة إلخ…، بل لا بد من تحقيق الأمة أموراً أخرى اجتماعية وشرعية فيجعلها أكثر إنسانية وأكثر انفتاحاً وأكثر شفافية وأكثر مدنية.

الهـــــوامـــش:

(1) موسوعة العلوم السياسية، إصدار جامعة الكويت، مادة 257 ص405.

(2) الراغب الأصفهاني، المفردات، ص21.

(3) الشاطبي، الاعتصام، جـ2 ص260.

(4) أحمد بن بلّة، الحركة من اجل الديمقراطية في الجزائر، الخطاب التوجيهي للرئيس أحمد بن بلّة، باريس 1984م، ص107.

(5) حياة الصحابة، جـ2 ص210-212.

اترك رد