ما معجزة الرسول محمد ﷺ الأولى والرئيسية؟

ما معجزة الرسول محمد ﷺ الأولى والرئيسية؟

لقد اعتاد كثير من الناس اعتبار أن القرآن الكريم معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم هي المعجزة البلاغية بشكل رئيسي، لكن الكاتب يعتبر أن المعجزة الأولى هي أنه معجز في مضمونه أولاً وبهذا “المضمون المعجز” فقد بنى الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أمور معجزة هي “الصحابي” و”الأمة المسلمة” و”الدولة المسلمة” والمضمون “معجز” من ناحيتين:

  • الأولى: بأن كل ما احتواه القرآن من حقائق عن الله –سبحانه وتعالى- واليوم الآخر والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وخلق الكون والإنسان، وما احتواه من مبادئ وقيم ومفاهيم وأفكار وتشريعات إلخ … حق وصواب
  • الثانية: أن هذه الحقائق جاءت بقدر مناسب لبناء “فرد معجز” و”أمة معجزة” و”دولة معجزة” إذًا الهدف من كتاب الله هو بناء للفرد المسلم والأمة المسلمة والدولة المسلمة وليس المقصود منه أن يكون القرآن الكريم كتاباً في التاريخ أو الفلك أو الطب إلخ …

ثم إن هذا “المضمون المعجز” الذي بنى “فرداً معجزاً” و”أمة معجزة” و”دولة معجزة” لا يليق به أن يكون سرداً ككلام الآخرين، بل جاء معجزاً في مبناه وَنظْمه وبلاغته ولغته وأسلوبه وأمثاله.

تحميل المقال بصيغة pdf من هنا: ما-معجزة-الرسول-محمد-ﷺ-الأولى-والرئيسية؟

ما معجزة الرسول محمد ﷺ الأولى والرئيسية؟

إذا طرحنا السؤال التالي على المسلمين المعاصرين: ما معجزة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الأولى والرئيسية؟ لوجدنا أن الجواب على هذا السؤال جاهز ومشهور، وهو: إن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الأولى والرئيسية بلاغية بيانية لغوية، بمعنى أن الآيات والسور القرآنية معجزة في نظمها وألفاظها وجملها وصياغتها وتشبيهاتها وصورها وخيالها، وقد تحدى القرآن الكريم العرب المشركين على عدة مراحل، وهم أهل البيان والفصاحة، وقد كان الشعر العربي والمعلقات دليلاً على ذلك، فكانت أرقى ما يمكن من ناحية فصاحتها وبلاغتها، وهم كتبوها بماء الذهب وعلقوها على جدران الكعبة افتخاراً وتقديراً منهم لهذا الشعر.

فجاء تحديهم بأن يأتوا بمثل القرآن الكريم ثم بعشر سور ثم بسورة واحدة من ناحية بلاغية، فوقع العجز منهم، ولم يستطيعوا أن يأتوا بسورة واحدة، لذلك تحقق الإعجاز البلاغي البياني للقرآن الكريم، وتحقق العجز منهم أمام دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولا بد من الإشارة إلى المعجزات الحسية التي جاءت على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها انشقاق القمر، ومعجزة الإسراء والمعراج، ونبع الماء بين يديه، وإطعام الجيش ذي العدد الكثير بطعام قليل إلخ….. لكن مع إقرارنا نحن بكل تلك المعجزات الحسية وإقرارنا بمعجزة تنبؤ القرآن بوقوع بعض الغيوب قبل حدوثها من مثل حديثه عن انتصار الروم في قوله تعالى: “غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين”)الروم، (، ومع إقرارنا بكل ذلك، بقي الراجح والمتعارف عليه في كل العصور السابقة أن الإعجاز في القرآن الكريم هو إعجاز بياني بلاغي لغوي.

وقد أكد العلماء المعاصرون هذا التوجه، ويمكن أن نستشهد بأبرز كاتبين تحدثا عن إعجاز القرآن هما: الدكتور محمد عبدالله دراز والشيخ محمد أبو زهرة رحمهما الله.

فقد وضع الدكتور دراز في كتابه عنواناً هو “القرآن معجزة لغوية” وكتب تحت هذا العنوان “استقصاء الشُّبه الممكنة حول هذه القضية تمهيداً لمحوها واحدة واحدة”، ثم بدأ باستقصاء الشبه واحدة واحدة لتأكيد أن القرآن معجزة لغوية.(النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن. صفحة 100).

وكتب الشيخ أبو زهرة في كتابه تحت عنوان “سر الإعجاز” فقال: “أن الأساس في عجزهم هو ما فيه من بلاغة ورنة قول، ونغمة بيان أدركوها بذوقهم البياني”.(المعجزة الكبرى القرآن. صفحة 77).

وأنا أعترف وأقدر أن ما تحدث عنه أسلافنا من الإعجاز البياني البلاغي للقرآن الكريم صحيح، لكنه ليس المعجزة الأولى التي جاء بها القرآن الكريم والأرجح أنها تالية لمعجزة سبقتها تتعلق بمضمون القرآن الكريم، والمعاني التي قررها، والحقائق التي تحدث عنها، والمبادئ التي أعلنها، والقيم التي أبرزها، والمفاهيم التي قدمها، والأخلاق التي دعا إليها، والتشريعات التي قعّدها إلخ…..، لذلك أعتقد أن المعجزة الأولى للرسول ﷺ هي مضمون السور القرآنية من ناحية، وأنها تجسدت على الأرض بثلاثة أشياء: “مسلم موحد”، و”أمة مسلمة”، و”دولة مسلمة” من ناحية ثانية.

وأن كلاً من هذه الأمور الثلاثة “معجزة” في صورتها التي انتهت إليها، فقد وقع الإعجاز في مضمون القرآن الكريم، وفيما جسّده هذا المضمون في واقع الحياة البشرية من “مسلم معجز” و”أمة معجزة” و”دولة معجزة”، ومن أجل توضيح هذه الأمور المعجزة سنتحدث أولاً عن “المعجزة”.

ما المعجزة؟

من الجدير بالتنبيه أن كلمة “معجزة” لم ترد في قرآن ولا سنة، إنما استخدم القرآن لفظ “آية” أو “آيات” للدلالة على “المعجزة” أو “المعجزات”، قال تعالى: “ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات”(الإسراء، 101). وقد خاطب الله تعالى موسى عليه السلام عندما كلمه وأعطاه معجزتي العصا واليد وسماهما آيتين فقال تعالى: “وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى”(طه، 17 ـ 24).

وكانت معجزتا موسى عليه السلام اللتان جاء بهما إلى فرعون هما: العصا وخروج يده بيضاء، وعند تعريف المعجزة حسب ما ورد في كتب الإعجاز، نجد أن العلماء عرفوها فقالوا: “المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة من المرسل إليهم”.

والآن نأتي إلى معجزة الرسول ﷺ، فنقرر أنها القرآن الكريم، لذلك تحداهم أربع مرات، أن يأتوا بمثل القرآن أولاً، ثم بعشر سور مفتريات ثانياً، ثم بسورة واحدة ثالثاً، فما هي آيات التحدي؟

الآيات هي:

قال تعالى: “فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين”(الطور، 34). وقال تعالى: “وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين(البقرة، 23). وقال تعالى: “أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين”(يونس، 38). وقال تعالى: “أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين”(هود، 13).

ملاحظات على آيات التحدي:

الأولى: لقد تحدى القرآن الكريم المشركين أن يأتوا بسورة واحدة من مثل سور القرآن أو عشر سور، لكنه ربط الإتيان بالسورة أو بالسور العشر في الآيات الثلاث التي ورد فيها التحدي بدعوة الآخرين من دون الله، وهذا ما يجعلنا نتساءل: لماذا طلب القرآن دعوة الآخرين من دون الله إن كانوا صادقين؟

أعتقد أن المقصود من ذلك إثبات المصداقية من عدمها، فإن استطاعت السورة الواحدة أو العشر سور المفتريات أن يؤثر مضمونها في الفرد مثل تأثير مضمون سور القرآن الكريم التي بنت “إنساناً معجزاً” بقلبه وعقله وجسمه، وبنت “أمة معجزة” توحدت فيها الأجناس بشكل غير معهود، وبنت “دولة معجزة” أقامت العدل والمساواة والشورى بشكل غير مسبوق إلخ……

لذلك نستطيع أن نؤكد أن المعنى المقصود من إبراز عبارة “وادعوا شهداءكم إن كنتم صادقين” أو “وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين” مرتين هو تحديهم أن يأتوا بمضمون يوازي مضمون القرآن ويبني على الأرض إنساناً ومجتمعاً ودولة كالتي بناها الرسول ﷺ.

الثانية: من الواضح أن التحدي الذي جاء به القرآن الكريم هو التحدي بالسورة وليس بالآية، كما هو واضح في الآيات الثلاث، والسؤال الآن: لماذا كان التحدي بالسورة وليس بالآية؟ لأن السورة ذات مضمون، تقوم على حقائق ومبادئ وقيم وأفكار، وهذا المضمون هو الذي يبني الفرد والأمة والدولة، أما الآية فيبقى معناها محدوداً، ولا يمكن أن تبني إنساناً أو أمة أو دولة أو جانباً من إنسان أو أمة أو دولة، لذلك نرجح أن التحدي الأول للعرب المشركين وللأمم الأخرى أن يأتوا بمضمون مثل هذا المضمون القرآني، ثم أن ينجحوا في تجسيد هذا المضمون بإنسان وأمة ودولة توازي ما بناه الرسول ﷺ.

الثالثة: قدم القرآن الكريم لآية التحدي التي وردت في سورة يونس بأن أخبر بأن أحداً لا يستطيع أن يفتري هذا القرآن من دون الله والحقيقة أن هذا القرآن مصدق لما قبله، ومفصل له، ولا شك أنه من تنزيل رب العالمين، وهذه الأمور ترجح الحديث عن جانب المضمون وليس البلاغة، فالتوراة والإنجيل كتب ذات مضمون ولم تكن كتباً ذات بلاغة بحال من الأحوال، فقال تعالى: “وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين”(يونس، 37).

ثم انتقل إلى آية التحدي وأتبعها بأن قال: “وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين”، وبيّنا كيف أن هذه العبارة جاءت لترجيح المضمون على البلاغة في الإعجاز.

ثم قال تعالى: “بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله”(يونس، 39)، وذلك يعني بأنهم كذبوا بما لم يستطيعوا الإحاطة بعلمه، أي لم يستطيعوا الإحاطة بالمعلومات والحقائق والمبادئ والأفكار والمفاهيم والمعارف والقيم والقصص التي وردت في القرآن الكريم، وهذا تعجل وخطأ منهم في التكذيب.

ثم قال تعالى: “ولما يأتهم تأويله”، التأويل تعني: ما سيؤول إليه الأمر، وهنا تعني أنهم لم ينتظروا حتى يروا تحقق كلام القرآن في واقع الحياة كإنسان مسلم ذي شخصية متميزة آمنة مطمئنة فعالة مؤثرة إيجابية بناءة بشكل معجز، وكأمة أقامت دين التوحيد، وانصهرت فيها القبائل والأعراق والأجناس في وحدة رائعة بشكل معجز، وكدولة أقامت العدل وانتصرت للضعفاء بشكل معجز، ولم ينتظروا حتى يروا تلك النتائج فكان خطأ آخر وقعوا فيه بالإضافة إلى التكذيب السابق.

ثم تأتي آية أخرى توضح جانب العمل في التحدي، فقد قال تعالى: “وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون”(يونس، 41)، وإن كذبوك واستمروا في دعواهم أن القرآن مفترى من عندك، فقل لهم إن العمل هو فيصل آخر في التدليل على المصداقية، لذلك قل لهم “لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون” إن عملي سيأتي مصدقاً بأن هذا القرآن الكريم من عند الله، لأن هذا القرآن سينتج عملاً متميزاً في كل أبعاده الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية والثقافية إلخ….، وسيبني أهم ما تحتاجه البشرية من إنسان فعّال، وأمة خيّرة، ودولة عادلة.

من الواضح أن آية التحدي في سورة يونس، بما جاء قبلها وبعدها رجحت وأكدت أن مضمون القرآن الكريم هو مجال التحدي بشكل أولي.

الرابعة: نقلت كتب السيرة أقوال بعض العرب المعاصرين للرسول ﷺ في شأن إعجاز القرآن الكريم، ونحن سننقل بعضها.

أ ـ قول عتبة بن ربيعة: فقد روى ابن كثير في تفسيره ناقلاً عن بعض كتب الحديث تدارس قريش بشأن محمد ﷺ ودعوته، واتفاقها على أن ترسل أحكمها وأعلمها، فقرّ قرارها على عتبة بن ربيعة الذي كلم الرسول ﷺ فيما أحدثته دعوته في تفريق شأن قريش، وأغراه بالسلطان، والمال، والنساء، ثم سأله الرسول ﷺ: (فرغت)؟ قال: نعم، فبدأ الرسول ﷺ يتلو آيات من سورة فصلت إلى أن وصل إلى قوله تعالى: “فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود”(فصلت، 13)، فصاح عتبة كما تذكر إحدى الروايات وقال له: حسبك، حسبك، ما عندك غير هذا، وأمسك عتبة بفيه ـ تذكر رواية أخرى ـ وناشده الرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، واحتبس عنهم.

وعند استعراض آيات القرآن الكريم التي تلاها الرسول ﷺ على عتبة من بداية السورة إلى قوله تعالى: “فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود”(فصلت، 13)، تدل على أن عتبة تفاعل مع المضمون وليس مع بلاغة القرآن الكريم، لذلك خاف على قومه العذاب، وأمسك بفم الرسول ﷺ، وناشده الله والرحم ألا يوقع عليهم عذاباً، مع أن المضمون يتضمن أموراً غيبية متعددة تتعلق بالآخرة وبخلق السماوات والأرض وببعض صفات الله تعالى.

ب ـ قول الوليد بن المغيرة: جرى حوار بين الوليد بن المغيرة وأبي جهل حول القرآن الكريم الذي سمعه من الرسول ﷺ، فقال الوليد بن المغيرة: “فوالله، ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن مني، والله، ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله، إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته”.

إذا تركنا الجزء الأول من كلام الوليد بن المغيرة وهو دعواه اطلاعه على شعر العرب، فإننا نجد أن كلامه في وصف القرآن الكريم يتجه إلى وصف المضمون وليس إلى وصف البلاغة في معظمه، فالكلمات: حلاوة، طلاوة، مثمر، مغدق، يعلو، يحطم تشير إلى مضمون وليس إلى بلاغة وبيان.

علام يقوم “المضمون القرآني المعجز”؟

يقوم المضمون القرآني “المعجز” على حقيقتين:

1ـ صوابية هذا المضمون وأنه حق كامل وعلم شامل، بكل تنوعاته من مبادئ وأفكار وعلوم وأخلاق وآداب ونصائح وتوجيهات ومفاهيم وتشريعات، وأخبار عن الله وصفاته والآخرة، وعن خلق الإنسان والكون والروح، وقصص الأنبياء وإهلاك أقوامهم إلخ….

2ـ كمية المضمون ونوعيتها التي قدمها القرآن الكريم في كل موضوع من الموضوعات، فقد جاءت بقدر معيّن وحقائق معينة لتكون مناسبة لبناء “الإنسان المعجز” حسب حاجاته العقلية والنفسية والجسمية، و”الأمة المعجزة” بكل ما تحتاج من ثقافة وأخلاق وآداب وقيم إلخ..، و”الدولة المعجزة” بكل ما تحتاجه من تشريعات وأحكام إلخ..، لذلك لم تأتِ تلك المعلومات والأخبار والقصص والعلوم والحقائق والمفاهيم والأفكار التي وردت في القرآن الكريم لتجعل منه كتاب علوم أو جغرافيا أو تاريخ أو طب إلخ..، إنما جاءت تلك المعلومات والعلوم والحقائق والمفاهيم والأفكار بذلك القدر من أجل بناء إنسان ومجتمع ودولة.

ثم إني أعتقد أن هذا المضمون المعجز الذي هو كلام الله، ورسالة الله الأخيرة إلى البشر والتي دعا إليها الرسول محمد ﷺ، لا يليق به أن يكون كلاماً عادياً كسرد الآخرين في شعرهم ونثرهم، بل الذي يليق بهذه الرسالة الأخيرة أن يكون هذا المضمون المعجز بأسلوب معجز في بلاغته وبيانه ولغته.

ومما يليق بكلام الله ذي المعاني الصحيحة والجليلة والحقة أن يكون موضوعاً في مباني توازي جلال المعاني وعظمتها وأهميتها، لذلك كان القرآن الكريم ذا نظم معجز في ألفاظه وفواصله وأمثاله وقصصه، وقد وصفه الله تعالى بأنه مفصل، ومبين، وميسر للذكر إلخ..، فقال تعالى:

“ألر، تلك آيات الكتاب المبين”(يوسف، 1)، وقال تعالى: “وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً” (الأنعام، 114)، وقال تعالى: “ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر”(القمر، 17) إلخ…، وقد اتصف القرآن الكريم بالإعجاز البلاغي البياني اللغوي من أجل أن يستطيع أن يتعامل المسلمون مع المضمون بصورة دقيقة وسليمة وواضحة، من أجل أن تساهم تلك الدقة والوضوح والإعجاز في الألفاظ والأسلوب في بناء دقيق للفرد والمجتمع والدولة.

ولكن العرب القدماء اعتبروا أن الإعجاز البلاغي هو الإعجاز الأول، وأنا أعتقد أنه جانبهم الصواب في هذا الموضوع، فهو ليس الأول ولكنه تال للإعجاز في المضمون وفي تحقيق هذا المضمون في واقع الأرض في ثلاثة أشياء معجزة هي أيضاً: الصحابي المعجز، الأمة المسلمة المعجزة، الدولة المسلمة المعجزة.

بناء المعجزات الثلاثة: الإنسان، الأمة، الدولة

وضحنا سابقاً أن التحدي بالسورة كان المقصود منه التحدي بالمضمون أولاً وهو الجانب الرئيسي من إعجاز القرآن الكريم، وقد بيّنا أن إعجاز المضمون تجلّى في إعجاز آخر هو بناء “إنسان معجز”، و”أمة معجزة”، و”دولة معجزة”، فكيف بنى القرآن الكريم ذلك؟

أولاً: بناء “الإنسان المعجز” = “الصحابي”

ليس من شك بأن بناء إنسان متوازن فعال إيجابي من أصعب الأمور وأدقّها وأعقدها، لأن ذلك يتطلب معرفة كوامن النفس الإنسانية والعوامل التي تقوم عليها، ويتطلب القدرة على تفعيل نوازع الخير وضبط نوازع الشر عنده، كما يتطلب معرفة العقل البشري عند الإنسان، وعلاقته بالقلب، وكيفية توجيهه ليكون مبدعاً مبتكراً، كما يتطلب معرفة أهم العناصر لحفظ الجسد من الضياع.

ليس من شك بأن القرآن الكريم الذي أنزله الله الخبير العليم الحكيم قد احتوى على كل تلك المعارف والحقائق التي قام عليها القلب والعقل والجسد، واحتوى على أسرار وخفايا خلق الإنسان من كل جوانبه، وقدّم المبادئ والتوجيهات والأفكار التي تبني العقل والقلب والجسد خير بناء، فما هي معالم هذا البناء؟

أ ـ بناء “العقل المعجز”:

ربما امتاز الإسلام عن غيره من الأديان والمبادئ والمناهج البشرية، أنه بنى العقل، ولم يتركه لمناهج أخرى تفعل هذا، وهذه إحدى نقاط التميز والعظمة والربانية في هذا الدين الإسلامي، وكان القرآن هو الأداة الأساسية لهذا البناء، فكيف تحقق ذلك؟

لقد ذكر “لالاند” الفيلسوف الفرنسي أن العقل البشري في أي مرحلة يتكون من أمرين: “العقل المكوِّن” و”العقل المكوَّن”.

وعرّف لالاند “العقل المكوِّن” أو “الفاعل” بأنه “النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر حين البحث والدراسة ليصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ” وبعبارة أخرى إنه “الملكة التي يستطيع بها أن يستخرج من إدراكه العلاقات بين الأشياء مبادئ كلية ضرورية هي واحدة عند جميع الناس”.

كما اعتبر لالاند أن “العقل المكوَّن” هو “مجموع المبادئ والقواعد التي نستخدمها في استدلالاتنا”. ويقول لالاند أيضاً: “إن العقل المكوَّن والمتغير ولو في حدود، هو العقل كما يوجد في حقبة زمنية معينة، فإذا تحدثنا عنه بالمفرد، فإنه يجب أن نفهم منه العقل كما هو في حضارتنا وزماننا”، وبعبارة أخرى: “هو منظومة القواعد المقررة والمقبولة في فترة تاريخية ما، والتي تعطى لها خلال تلك الفترة قيمة مطلقة”.

ليس من شك بأن القرآن الكريم قام بدور “العقل المكوَّن” لعقول الصحابة، وأصبح مرجعية لها، فهو قد أعطى لعقول الصحابة نظرة جديدة إلى كل شيء، فقد أعطاهم نظرة جديدة إلى نشأة الكون والحياة والإنسان، كما أعطى الوجود الإنساني هدفا محددا وهو العبودية لله، كما بنى عقل الصحابي بناءً خاصاً يقوم على معرفة ربه سبحانه وتعالى، وأن هذا الرب -جلّ جلاله- مباين للكون، منفصل عنه، لا يشابه أحدا من مخلوقاته، يمكن أن تدعوه فيسمعك، وهو يراك ويعلم بحالك ويستجيب دعاءك.

كما بين القرآن الكريم خطأ كثير من العقائد الجاهلية مثل عبادتهم الأصنام، وتسمية الملائكة بنات الله، وأخذ عليهم اتباع الظن والأهواء في كل ما يبنون عليه عقائدهم.

كما دعاهم القرآن الكريم إلى إعمال الفكر والنظر والتأمل في آيات الكون المحيطة بهم من ليل ونهار وشمس وقمر ونهر وبحر، وكيف أنها مسخرة لهم، وهي من نعم الله عليهم، ونعم الله لا يحصيها عد.

كما رافق القرآن الكريم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في كل أعمالهم من هجرة، وغزوات من بدر إلى أحد والأحزاب والعسرة والفتح إلخ..، وبيّن أخطاءهم وقصورهم وسقطاتهم أحياناً، وأشار إلى إحسانهم وإيجابياتهم أحياناً أخرى.

أعتقد أن هذه الحقائق التي طرحها القرآن الكريم، والتي وعاها المسلمون هي التي ملأت عقولهم، جاءت في مقام “العقل المكوَّن”، وتجعلنا نقول إنها مثلت نظاما معرفيا جديدا يمكن أن نسميه “نظام القرآن المعرفي” وهو يختلف عن أي نظام معرفي عرفته البشرية.

وقد أنتج هذا “النظام القرآني المعرفي” عقلاً فريداً معجزاً، وعندما نقول إنه كان “عقلاً معجزاً” لا ننطلق من دعوى واهمة، بل سنرى تأكيد ذلك في أرض الواقع عندما نتحدث عن آثار ذلك “العقل المعجز” في فقرة تالية من هذا البحث.

ب‌ ـ بناء “القلب المعجز”:

تنزلت آيات القرآن الكريم في مكة المكرمة، فعرفت المسلم بالله وصفاته وأسمائه، قال تعالى: “قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد”(سورة الصمد).

ثم وجهت هذا الفرد المسلم بأن يعظم ربه تعالى، ويخضع له، فقال تعالى: “يا أيها المدثر قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر”(سورة المدثر، 1 ـ 5). ثم طلبت منه أن يخضع له فقال تعالى: “وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ”(الرعد، 15).

ثم طلبت منه أن يحبه تعالى أكثر من كل محبوبات الدنيا فقال تعالى: “قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (التوبة، 24).

وطلبت منه أن يخافه تعالى فقال تعالى: “ولمن خاف مقام ربه جنتان”(الرحمن، 46)، وقال تعالى: “وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَٰهَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ”(النحل، 51). وطلبت أن نرجوه سبحانه وندعوه ونطلب لقاءه فقال تعالى: “فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا”(الكهف، 110).

وقد نزلت آيات تتحدث عن النار وجحيمها، والجنة ونعيمها، وطلبت من الفرد المسلم أن يكون الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان عنده، وطلبت أن يوجه قلبه نحو رجاء الجنة والخوف من النار.

ثم شرع الإسلام العبادات كالصلاة والصيام والحج والزكاة التي يؤدي فيها المسلم أعمالاً قلبية وجسمية ومالية، يتقرب بآدائها إلى ربه سبحانه وتعالى، فيزداد قلبه تعظيماً لربه، ويخضع له تعالى، ويحل حلاله نعالى ويحرم حرامه، ويحبه أكثر من كل محبوبات الدنيا، فينتج بناء هذا القلب نفساً عظيمة تفرز سلوكاً متميزاً وإيجابياً وفاعلاً في كل المجالات من مثل: الكرم والشجاعة والتضحية والإيثار، والسماحة والتواضع وخفض الجناح وحسن الخلق والعفة والمروءة واحترام الآخرين وتقديرهم، والمحافظة على أعراضهم ودمائهم وأموالهم إلخ…

وهناك تفصيلات أخرى كثيرة عن دور أركان الإيمان، وآيات القرآن الكريم في بناء القلب، لا مجال للحديث عنها وعن آثارها الآن، إنما لها مجال آخر إن شاء الله.

ج ـ بناء “الجسد المعجز”

لقد قامت معظم الديانات السابقة على الإسلام على اعتبار الجسد سجناً للروح، واعتبرت أن الشهوات والدنيا ملهاة ودنس تبعد الإنسان عن الآخرة، لذلك لابد من كبت الشهوات وتعذيب الجسد والانصراف عن الدنيا وأموالها ومتاعها، والانقطاع إلى الآخرة عن طريق الرهبنة في الأديرة وغيرها، على اختلاف بين ديانة وأخرى في تحديد وسائل تعذيب الجسد والانقطاع عن الشهوات، وصورة الخلاص النهائي.

لقد جاء الإسلام على عكس ذلك، فأقام كيانه على اعتبار الجسد قيمة يجب أن يحافظ عليها، ويعتني بها، وهو مسؤول عنها أمام الله، لذلك اعتبر قضاء الشهوة عبادة، وهي قمة الشهوات في الدنيا، فقال رسول الله ﷺ: “وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، أَيَأتي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكونُ له فِيهَا أَجْرٌ؟ قالَ: أَرَأَيْتُمْ لو وَضَعَهَا في حَرَامٍ أَكانَ عليه فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذلكَ إذَا وَضَعَهَا في الحَلَالِ كانَ له أَجْرٌ”(صحيح مسلم).

هناك إشارة إلى أهمية الجسد في الدين الإسلامي، وهو وجود الماء من أجل تأدية العبادات، فالمعلوم أن الصلاة ركن من أركان الإسلام، والوضوء شرط أساسي من شروط إقامة الصلاة، والوضوء مرتبط بالماء، والماء نظافة وطهارة للجسد، وهذه إشارة عظيمة من الإسلام إلى أهمية الجسد.

وهناك إشارة أخرى إلى أهمية الجسد، وهي رفض الإسلام أية عبادة تؤذي الجسد، وهناك حديث أبو إسرائيل، فقد نقلت الأحاديث أن رسول الله ﷺ دخل المسجد فرأى رجلاً واقفاً في الشمس، فقال: من هذا؟ قيل له: أبو إسرائيل، قال: ماذا يفعل؟ قالوا: نذر أن يصوم، ولا يستظل، ويبقى قائماً، فقال الرسول ﷺ: مروه فليتم صومه، وليستظل وليجلس(رواه أحمد).

من الواضح أن الرسول ﷺ رفض الأعمال التي تعذب الجسد، وأبقى الصيام الذي شرعه الإسلام للتقرب إلى الله.

وكذلك “دخل الرسول ﷺ مرة المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت، فقال النبي ﷺ: لا حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد” (صحيح البخاري).

ليست العبادة ـ كما هو واضح ـ في نظر الإسلام إتعاباً أو إرهاقاً، بل هي مرتبطة بنشاط المسلم ويقظته وقوته، فإذا تعب فعليه أن يجلس ولا يكابر تعبه.

وبناءً على هذه النظرة حرم الإسلام عدة أمور: الرهبنة، والانتحار، وإيذاء الجسد، فقال الرسول ﷺ: “فإن لجسدك عليك حقًا”(رواه البخاري).

ثم جاءت عدة آيات في القرآن الكريم توجه إلى بعض التصرفات التي هي أصل في صحة الجسم مثل قوله تعالى: “يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ”) الأعراف، 31)، وقوله تعالى: “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ” (الأنبياء، 30).

من الواضح أن الإسلام اعتبر الجسد “قيمة” أساسية في الحياة والكون والمجتمع، لذلك اهتم به ودعا إلى رعايته والاعتناء به، وسنّ من التشريعات والأوامر والنواهي ما يكفي ليجعله أداة صالحة لحمل رسالة الإسلام وإعمار الكون.

آثار بناء “الإنسان المعجز” = “الصحابي” في واقع الحياة

لقد أنتج البناء السابق الذي عرضنا جوانبه في مجال القلب والعقل والجسم “إنساناً معجزاً”، وهو الذي تجسد في شخصية “الصحابي” أولاً، ثم في شخصية “التابعي” ثانياً، ثم في شخصية “تابع التابعي” ثالثاً إلخ…، وسنعرض لآثار ذلك البناء المعجز في المجال العقلي والقلبي والجسمي بشكل مختصر:

1 ـ آثار “الإعجاز العقلي” عند الصحابي:

ليس من شك بأن أبرز ما يدل على “الإعجاز العقلي” هو الإبداع في مجال العلوم، وقد تجلى ذلك في عدة أمور:

  • العلوم المبتكرة في المجال الديني.
  • العلوم المبتكرة في المجال الدنيوي.
  • اعتماد التجريب كأصل في بناء العلوم.
  • التفاعل مع الحضارات الأخرى وأخذ المفيد منها وما يتفق مع أصول ديننا.

أ ـ العلوم المبتكرة في المجال الديني:

1 ـ القرآن الكريم: ابتدأ الاهتمام بالقرآن الكريم منذ وقت حروب الردة، وحدثت واقعة مقتل القراء الحافظين للقرآن الكريم، وخاف أبو بكر الصديق رضي الله عنه من ضياع القرآن، فجمعوا القرآن بين دفتي مصحف واحد، وانتقوا أرقى المعايير العلمية والموضوعية التي يمكن أن يصل إليها البشر في هذا الجمع، فاشترطوا وجود مسلمين عدلين لقبول أية آية، ثم وضعوا النسخة المجموعة وهي “المصحف الأم” عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.

ثم نشأت عشرات العلوم المرتبطة بالقرآن الكريم من أجل حفظه من التحريف واللحن، فجاءت علوم التنقيط، ثم التشكيل، ثم علوم المكي والمدني، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، ثم علوم التجويد، ثم علم القراءات، ثم جاء تفسير القرآن الكريم والمدارس المرتبطة به، ثم جاء إعجاز القرآن الكريم والنظريات حوله إلخ…

2 ـ الحديث الشريف: حرص المسلمون على تدوين الحديث الشريف، وأقوال الرسول ﷺ وأفعاله، واتبعوا في ذلك أرقى المعايير العلمية، وأدقها في الوصول إلى صحيح أقوال الرسول ﷺ وأفعاله وتقريراته.

وابتكروا من أجل ذلك علوم الإسناد، وتكونت علوم الجرح والتعديل، وعلوم الرواية والدراية، وعلوم السند والمتن، وكتبت بعد ذلك الصحاح والمسانيد والسنن والمعاجم، فكان هناك صحيح البخاري ومسلم وموطأ مالك ومسند أحمد بن حنبل وسنن أبي داوود والنسائي إلخ…، ووضعت أدق المعايير من أجل تمييز الصحيح من الضعيف من الموضوع، فكان الحديث الصحيح والحسن والمعلّل والمنقطع والمتصل إلخ…، وحديث الآحاد، والحديث المتواتر، وغيرها من المصطلحات التي تخدم هذا العلم.

3 ـ اللغة العربية: حرص المسلمون على حفظ اللسان العربي من اللحن والخطأ، فكانت علوم النحو والصرف والإعراب، وجمع ألفاظ اللغة في المعاجم، ثم جاء ابتكار علوم البلاغة والبيان والبديع من أجل وضع أصول تذوق النص الأدبي، ثم جاءت نظريات الإعجاز.

4 ـ الفقه وأصوله: تكون الفقه ومدارسه من خلال إجابات العلماء على أسئلة الناس وفتاويهم، فنشأت المذاهب الفقهية، ورسخت منها أربعة هي: مذاهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وغيرها كثير لكن هذه المذاهب هي التي رسخت وكتب لها القبول والانتشار في الأمة.

وكانت هذه المذاهب تمثل جهداً عقلياً عظيماً في تقديم حلول وفتاوى لمشاكل الناس ليبقوا في دائرة الإسلام، وفي دائرة طاعة الله والاقتداء بالرسول ﷺ.

ثم جاء علم أصول الفقه الذي ابتكره الشافعي وتطور بعد ذلك إلى علم المقاصد، ثم تطور ودرس تصرفات الرسول ﷺ وقسمها إلى عدة أقسام، على يد الإمام القرافي، فقسمها إلى تصرفات بالبلاغ، وبالقضاء، وبالفتوى، وبالإمامة.

وقد استفاد علماء الفقه من علم أصول الفقه وتطوراته في تقعيد الأحكام واستنباطها. ليس من شك بأن ابتكار هذه العلوم يدل على أقصى درجات الرقي العقلي، وقمة الوعي والفهم.

ب ـ العلوم المبتكرة في المجال الدنيوي:

ولم يقف ابتكار العلوم عند المجال الديني فقط وإنما تعداه إلى المجال الدنيوي، فقد ابتكر المسلمون علوماً في مختلف المجالات مثل: الطب والصيدلة والهندسة والزراعة والجبر والرياضيات والكيمياء إلخ…، وعدلوا كثيراً من العلوم وبخاصة في مجال الفلك وغيره، وقد سردت كثير من الموسوعات الإسلامية والغربية دور المسلمين في ابتكار العلوم الدنيوية، وقد تحدثت عن ذلك في بعض كتبي الأخرى، وسأفصل ذلك في دراسة قادمة إن شاء الله.

ج ـ اعتماد التجربة كأصل في بناء العلوم:

لقد اعتمد المسلمون التجربة كأصل في حياتهم العلمية، وأدركوا أهمية التجربة وقيمتها العلمية نتيجة وعي قيمة الأسباب في حركة الكون وانتظام هذه الحركة، وهذا الوعي هو الذي يبني الحضارات، وقد نقلت أوروبا اعتماد التجربة في العلوم من الأندلس عن طريق فرانسيس بيكون (1561-1626)، وهذا النقل هو الأساس الذي بنت عليه الحضارة الغربية كيانها، ولولا هذا النقل لمبدأ التجريب لما قامت الحضارة الغربية المعاصرة.

د ـ التفاعل مع الحضارات الآخرى وأخذ المفيد منها وما يتفق مع أصول ديننا:

لقد احتك المسلمون عندما خرجوا من الجزيرة العربية بحضارات متعددة ذات إنجازات كبيرة في مجالات متعددة: علمية، وفلسفية، وأدبية، وطبية، واجتماعية، واقتصادية، وعمرانية إلخ….، فلم تبتلعهم هذه الحضارات ولم يقفوا منها موقفاً سلبياً بشكل كلي، بل تفاعلوا معها وأخذوا  منها ما يفيدهم وما يتفق مع مبادئ دينهم، وطوروا بعضها الآخر، وقد فعلوا ذلك مع كل الحضارات التي سبقتهم كالحضارة اليونانية والرومانية والهندية والفارسية، ولا مجال لتفصيل صورة التفاعل والاستفادة، بل سيكون ذلك في مقام آخر.

2 ـ آثار “الإعجاز القلبي” في الصحابة ومن بعدهم:

بنى القرآن الكريم الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، فكانوا ذوي نفسيات معجزة، ويدل على ذلك التضحية بالمال والنفس، وهذه التضحية هي عماد بناء الحضارات كما يقول توينبي، ويؤكد أن بخل الطبقة الغنية واستئثارها بالأموال هو الذي يهدم الحضارات، وجاء هذا مصدقاً لقول الله تعالى:”وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم”(سورة محمد،الآية 38).

وجاءت الأوقاف في التاريخ لتمثل مظهراً كبيراً من العطاء والكرم، فقد ذكر المؤرخون أن ثلث ثروة العالم الإسلامي كانت أوقافاً من مختلف الأصناف من زروع ومصانع وأبنية وأموال وحيوانات إلخ….، ومما يؤكد ذلك أن ثلث مدينة الجزائر كانت أوقافاً عندما احتلتها فرنسا عام 1830.

3 ـ آثار “الإعجاز الجسدي” في الصحابة ومن بعدهم:

يرمل المسلم في بعض أشواط الطواف عند أدائه مناسك الحج والعمرة، والأصل في هذا الحكم هو نفي ضعف أجسام الصحابة الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، لأنه شاع في أوساط أهل مكة أن المهاجرين قد أهلكتهم الحمى، فأراد الرسول ﷺ أن يثبت لهم صحة أجسام المهاجرين بهذا الرمل في أشواط الطواف، لأن مشركي مكة كانوا يراقبون المسلمين أثناء طوافهم.

كما أن العمران الواسع الذي اتسمت به الحضارة الإسلامية في كل مجالات الزراعة والصناعة والطب والصيدلة، تدل على الاهتمام بطعام الجسد وصحته، كما أن مؤسسة الحسبة قامت لتراقب الأسواق والطرقات وتحقق النظافة فيها.

ثانياً: “الأمة المعجزة” = “الأمة المسلمة”

تجسدت آيات القرآن الكريم في معجزة الرسول ﷺ الثانية وهي “بناء الأمة”، وقد صنع هذا الكتاب الذي هو القرآن الكريم “أمة” تجسدت على الأرض في المدينة المنورة، ثم قادت البشرية واستمرت موجودة فاعلة مؤثرة لمدة 1400 عام.

وقد جاءت هذه الأمة تلبية لدعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يجعل من عقبيهما أمة مسلمة، قال تعالى: “رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ”(البقرة، 128).

وقد قامت هذه “الأمة المعجزة” في البداية في المدينة المنورة وفي الجزيرة العربية، ثم استمرت هذه الأمة موجودة فاعلة حتى الآن، رغم سقوط الخلافة العثمانية عام 1924، وهي الأمة التي نعيش في أكنافها الآن، ونتفيأ ظلالها، ونتحرك من خلال جماهيرها، دعاة وعلماء ومشايخ وجماعات وأحزاباً.

فما صفات هذه “الأمة المعجزة” التي بناها الرسول ﷺ من خلال آيات القرآن الكريم؟

الأولى: إنها أمة واحدة: لقد اتصفت الأمة المسلمة التي أنشأها الرسول ﷺ بأنها أمة واحدة، وقد استمرت وحدتها قائمة خلال أربعة عشر قرناً، وقد جاءت هذه الوحدة من أن ثقافتها التي قامت عليها واحدة، وقد جاءت هذه الثقافة من ثلاثة مصادر، هي: القرآن الكريم والسنة المشرفة واللغة العربية، وقد كان العلماء باستمرار يجسدون قيادتها العلمية على مدار التاريخ بما يفتون به، وبما يفسرون لجماهير الأمة أمور دينها.

وتأتي وحدتها بمعنى آخر من أنها واحدة مع أمم الأنبياء السابقين، وهي امتداد وإكمال لأمم الأنبياء السابقين، فبعد أن تحدث القرآن الكريم في سورتي الأنبياء والمؤمنون عن الأنبياء السابقين جميعهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وإسماعيل إلخ ….عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: “إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ”(الأنبياء، 92).

وقال تعالى: “وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ”(المؤمنون، 52)

الثانية: إنها أمة عالمية: بمعنى أنها جسدت وحدة الأجناس والأعراق والقبائل لأول مرة في التاريخ تحقيقاً لقول الله تعالى: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”(الحجرات، 13).

نزل القرآن عربياً كما ذكر القرآن، وكان الرسول ﷺ عربياً، وكان العرب هم مادة الإسلام الأولى، لكن الرسول ﷺ جاء لكل العالمين، فقال تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ”(الأنبياء، 107)، وقال تعالى: ” قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ”(الأعراف، 158).

وقال عن القرآن الكريم: “إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ”(التكوير، 27).

وقد دخلت جميع الأجناس في دين الله أفواجاً بعد ذلك، وأصبحت الأمة الإسلامية تحتوي جميع الأجناس: من فرس وترك وهنود وشركس وبلغار إلخ….، وقد ساهمت جميع هذه الأجناس في بناء الحضارة الإسلامية، وخدمة الأمة، وإعلاء شأن الدين.

لذلك نجد أن جميع الأجناس احتلت مناصب في القيادة السياسية والعسكرية والإدارية إلخ…، ونجد علماء ساهموا من مختلف الأجناس في مختلف العلوم الشرعية والدنيوية إلخ…، واستطاع الإسلام أن ينشئ لأول مرة في التاريخ أمة واحدة من أجناس مختلفة، وهو ما كان يحلم به أرسطو والاسكندر المقدوني، وعجزا عن تحقيقه.

الثالثة: أمة إعمار الأرض: لقد اتصفت الأمة الإسلامية بأنها أمة إعمار للأرض، وقد وجه القرآن الكريم الأمة الإسلامية إلى هذا المعنى فقال تعالى: “وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ”(هود، 61).

وقد تحقق هذا المعنى في التاريخ الإسلامي كأحسن ما يكون، لذلك ازدهرت الزراعة والصناعة والعمران، ومما يبرز ذلك ازدهار العلوم المتعلقة بتلك الأمور بشكل واضح، والقيام بالاختراعات في مختلف المجالات الحياتية.

ثالثاً: “الدولة المعجزة” = “الخلافة”

لقد أقام الرسول ﷺ دولة إسلامية بكل معنى الكلمة، وقادها بنفسه ﷺ، وقد اتصفت هذه الدولة بعدة صفات، هي:

الأولى: دولة ذات دستور: لقد كانت الدولة الإسلامية أول دولة في التاريخ أقامت دستوراً، يوضح حقوق رئيس الدولة وواجباته نحو رعيته، ويوضح حقوق الرعية وواجباتها نحو رئيسها، وكان هذا الدستور هو القرآن الكريم المنزل من الله، وفي هذا الدستور شرح لكل الأحكام التي تتطلبها الدولة في مجالات الاقتصاد والأسرة والحرب والسلم والاجتماع والتربية والقضاء إلخ…..

الثانية: الحاكم غير مقدس وسلطته غير مقدسة: بمعنى أن الحاكم بشر، وسلطته بشرية، وبالتالي نستطيع أن نراجعه، ونناقشه في قراراته، ويمكن أن نعترض عليها، كما أننا نطيعه بمقدار طاعته لله تعالى، وقد تجلّى هذا في أقوال أبي بكر الصديق عندما تولى الخلافة وقال في خطابه الأول: “لقد وليت عليكم زلست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أخطأت فقوموني”، وهذا الأمر حدث لأول مرة في التاريخ، حيث اعتبر الحاكم نفسه بشراً، ولم يعتبر أن له سلطة إلهية، واعتبره كذلك الصحابة بشراً ولم يعتبروا سلطته إلهية مقدسة لذلك كانوا يعترضون عليه وعلى عمر بن الخطاب وعثمان وعلي رضي الله عنهم.

الثالثة: دولة شورى: لقد أقام الرسول ﷺ دولته على الشورى، وكان يشاور الصحابة في كل أمر، واتضح ذلك في غزوة أحد عندما نزل على رأي الأغلبية في الخروج إلى مقاتلة المشركين، مع أن المسلمين خسروا المعركة، وكان أحد أسباب خسارتهم عدم أخذهم برأي الرسول ﷺ، وقد نزل القرآن آمراً الرسول ﷺ أن يشاورهم مع أنهم تسببوا في خسارة المعركة فقال تعالى: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ”(آل عمران، 159) ووصفتهم آيات أخرى بعدة صفات، ومنها الشورى، فقال تعالى: “وأمرهم شورى بينهم”(الشورى، 38).

وقد أصبح أبو بكر الصديق رضي الله عنه رئيساً لدولة المسلمين عن طريق الشورى لأول مرة في التاريخ، كما جاء انتخاب عثمان بن عفان رضي الله عنه نتيجة شورى شاركت فيها جماهير المدينة المنورة حتى نساؤها.

وقد قامت في كثير من المراحل المجالس الشورية للأمور المالية والعسكرية والقضائية والإدارية في كثير من الدول الإسلامية وعلى رأسها دول المماليك، وسأوضح ذلك في كتابي القادم عن موضوع الإعجاز إن شاء الله.

الرابعة: دولة العدل والمساواة: قامت الدولة المسلمة على العدل والمساواة، فلا تفرقة بين الأجناس والأعراق والقبائل، فقال رسول الله ﷺ: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى”(مسند الإمام أحمد).

وقال تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات، 13).

الخلاصة

إن القرآن الكريم الذي هو كلام الله الأخير إلى البشرية، والذي أنزله تعالى على الرسول محمد ﷺ الذي هو آخر رسول إلى البشرية، معجز في مضمونه أولاً فقد بنى الرسول محمد ﷺ بهذا “المضمون المعجز” ثلاثة أمور معجزة هي “الصحابي” و”الأمة المسلمة” و”الدولة المسلمة”، وهي نماذج للبشرية إلى قيام الساعة، والمضمون “معجز” من ناحيتين: الأولى: بأن كل ما احتواه القرآن من حقائق عن الله –سبحانه وتعالى- واليوم الآخر والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وخلق الكون والإنسان، وما احتواه من مبادئ وقيم ومفاهيم وأفكار وتشريعات إلخ … حق وصواب من ناحية، وأن هذه الحقائق جاءت بقدر مناسب لبناء “فرد معجز” و”أمة معجزة” و”دولة معجزة” من جهة ثانية، وليس المقصود منه أن يكون القرآن الكريم كتاباً في التاريخ أو الفلك أو الطب إلخ…..

ثم إن هذا “المضمون المعجز” الذي بنى “فرداً معجزاً” و”أمة معجزة” و”دولة معجزة” لا يليق به أن يكون سرداً ككلام الآخرين، بل جاء معجزاً في مبناه ونَظْمِه وبلاغته ولغته وأسلوبه وأمثاله.

وهذا “المضمون المعجز” مع “سنة الرسول” ﷺ ما زالا غضين طريين قادرين على بناء “إنسان معجز” و”أمة معجزة” و”دولة معجزة” في كل عصر إلى قيام الساعة، لأنهما محفوظان كما نزلا، وما زلنا قادرين على تكرار إيجاد تلك النماذج، وهذا هو المعنى الحقيقي لكون الرسول محمد ﷺ آخر الأنبياء، وكون رسالته هي الأخيرة للبشرية إلى قيام الساعة.

Lorem Ipsum

اترك رد