كثر الحديث عن “الدولة المدنية”، فبعض الكتاب اعتبر أن “الدولة المدنية” تقابل “الدولة العسكرية”، لكن الحقيقة أن هذا المصطلح أوروبي وجاء في مقابل “الدولة الكنسية”، وهو قد جاء نتيجة تطورات غربية في القرون الوسطى في مجال الاجتماع والاقتصاد والسياسة… إلخ، وحتى نستطيع أن ندرك محتواه بصورة دقيقة علينا أن نرصد صورة المجتمع الأوروبي في العصور الوسطى، ثم نرصد صورته بعد الثورات الصناعية والاجتماعية والسياسية، أو التي كونت العصر الحديث في أوروبا بعد الثورة الفرنسية.
من المعلوم أن أوروبا في العصور الوسطى كانت تحكمها الكنيسة، وكان أبرز مفهومين تقوم عليهما الديانة المسيحية هما: المقدس والمدنس، فكان المقدس هو الله والآخرة والروح، وكان المدنس هو الإنسان والدنيا والجسد والمرأة، لذلك يجب أن يتجه الإنسان إلى هذه المقدسات، ويفني ذاته فيها، ويترك كل ما عداها.
فيجب أن يوجه الإنسان عقله إلى الله ذكرا وثناء وتمجيدا وعبادة، ويلغي التفكير فيما سواه، وعليه أن يوجه قلبه إلى الآخرة ويهمل الدنيا ومتاعها وشهواتها وملذاتها، وعليه أن يقتل جسده ويدمر حواسه التي تكبل روحه لكي تنطلق هذه الروح وتتخلص من قيودها، والرهبنة خير وسيلة للانتقال من المدنس إلى المقدس، والرهبنة تعني عدم الزواج، واعتزال الحياة في دير من الأديرة، وممارسة طقوس متنوعة في تعذيب الجسد.
إن القيادة الكنسية التي تزعمت معركة المقدس مع المدنس في المجتمع الأوروبي، قادت معركة أخرى مع علماء أوروبا الذين طرحوا نظريات وأقوالا تناقض ما قالت به الكنيسة والكتب المقدسة من مثل: أن الشمس مركز الكون وهو الذي توصل إليه كوبرنيكوس، وهو يناقض ما تقول به الكنيسة وهو أن الأرض مركز الكون، وأدت هذه المعركة إلى عقد محاكمات ومحاسبات لكثير من علماء أوروبا بتهمة الكفر والزندقة والانحراف عن الدين، وأدت تلك المحاكمات إلى إعدام الكثيرين منهم.
قادت الكنيسة معركتين الأولى: مع الفطرة البشرية في كل ما تتوق إليه من الدنيا والشهوات والمتاع والملذات، الثانية: مع العقل البشري الذي كان يقرر حقائق واضحة وتأتي الكنيسة لتلغيها بكلام غير ذي قيمة علمية، وأدت هاتان المعركتان إلى انفجار أوروبا في وجه الكنيسة، وقامت ثورات متعددة لتصحح الوضع الخاطئ عند الكنيسة، فما الذي حدث؟
جعلت الثورات المقدس مدنسا، والمدنس مقدسا، أي إنها قلبت المعادلة، وكان الأولى أن تصحح موقف الكنيسة من الدنيا والمرأة والشهوات والجسد، وترفع الدناسة عنها، وتعدها حاجات طبيعية وفطرية، وتقر بخطأ ترذيلها، لكنها ذهبت أبعد من ذلك فقدّست الدنيا والجسد والمرأة، بل ألّهتها.
جعلت الثورات الأوروبية المدنس مقدسا، فنشأت “الدولة المدنية” التي اهتمت فقط بجسد الإنسان وشهواته ولذاته ومنافعه، واهتمت فقط بالدنيا وزراعتها واقتصادها وصناعتها، وجعلت الثورات المقدّس مدنسا، فنشأت “الدولة المدنية” التي اعتبرت الحياة مادة في أصلها ووجودها وتفرعاتها، واعتبرت كل حديث عن الروح وعن الجنة والنار والملائكة إنما هو حديث خرافة وأوهام، ومن الواضح أن هذه المواقف إنما جاءت ردود أفعال على المواقف الكنسية الخاطئة.
وقد ولدت تلك الثورات التي قامت في القرن الثامن عشر نوعين من الدول في القرن العشرين جسدتا مقولة “تدنيس المقدس وتقديس المدنس” خير تجسيد وهما: الاتحاد السوفياتي ، والعالم الحر.
1-الاتحاد السوفياتي والشيوعية: لقد جسد الاتحاد السوفياتي الشيوعي ثنائية الأزمة التي انتهت إليها أوروبا وهو “تدنيس المقدس وتقديس المدنس” خير تجسيد ، فأصبح الإلحاد هو الأصل الذي يقوم عليه، وأصبح يعلن أن الدين خرافة وأوهام، وأنه أفيون الشعوب، وأنه ليس هناك عالم غيب، وأن الملائكة والشياطين والجنة والنار أوهام من اختراع الأغنياء لاستغلال الفقراء.
ومن الجدير بالذكر أن المجتمعات البشرية لم تعرف مجتمعا قام على الإلحاد، صحيح أنها عرفت بعض الملحدين، لكنها لم تعرف مجتمعا خاليا من الإقرار بوجود إله، بغض النظر عمن هو الإله، فقد يكون كوكبا أو شجرة أو شخصا أو جبلا. ولم تعرف مجتمعا خاليا من دور العبادة، وربما كان المجتمع الأول الذي قام على الإلحاد في التاريخ هو المجتمع الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، وهذا تعبير صارخ عن الشق الأول من الثنائية وهو “تدنيس المقدس” أن يصل مجتمع إلى هذا الوضع من الإلحاد والتنكر لركن أساسي وكبير من أسس الفطرة وهو ركن (التعبد).
أما في مجال “تقديس المدنس” وهي الدنيا والمرأة والشهوات، فإن الشيوعية قد اعتبرت أن الحياة مادة وليس وراء المادة شيء، واعتبرت على لسان “إنجلز” أن ستر العورة طريقة صريحة لامتلاك النساء، واعتبرت كذلك أن ولادة الحجاب جاءت مترافقة مع ولادة الملكية الفردية، لذلك سينتهي الحجاب عند انتهاء الملكية الفردية، وستعود العلاقات الجنسية مشاعة كما كانت في المجتمع القديم: كل النساء لكل الرجال.
2- العالم الحر والرأسمالية: فإنه يقوم على نفس الأسس المادية التي يقوم عليها المعسكر الشيوعي في مجال “تدنيس المقدس”، فهو يتنكر للغيوب من: إله وملائكة وآخرة وروح… إلخ، ويستهزئ بها، ويرذّل الإيمان بها، ويسفّل كل القيم المتعلقة بها ويعدَّها خرافة وأوهاماً وشعوذة، أما في مجال (تقديس المدنس) فإن هذا المعسكر يعلي ويعظّم بل ويؤلّه كل مفردات المدنس من: الدنيا والجسد والمرأة والشهوة، ومما يؤكد ذلك حجم الإنفاق على الجنس في الإنترنت، والصورة التي تستغل بها المرأة في الدعاية والإعلان، وحجم العري الذي يسود المجتمع الغربي، والتشريع للشذوذ الجنسي بشقيه: اللواط والسحاق، وقبوله حتى في الكنائس.
هذه هي الظروف التاريخية التي ولّدت مصطلح “الدولة المدنية” مقابل “الدولة الكنسية” فأصبح مصطلح “الدولة المدنية” يعني التمركز حول الإنسان وجسده ولذاته وشهواته، مقابل التمركز السابق حول الله في “الدولة الكنسية”، وأصبح يعني الاهتمام بالدنيا وشؤونها وتطويرها في “الدولة المدنية” مقابل الاهتمام بالآخرة والروح في “الدولة الكنسية”.
ومن الواضح أن القصور في مصطلح “الدولة المدنية” جاء من أنه قصر اهتمام الدولة على جسد الإنسان وشهواته وملذاته ومنافعه دون الاهتمام بالجانب الروحي عند الإنسان، وبالجانب العبادي الذي يصله بربه، ومن أنه قصر اهتمام الدولة بشؤون الدنيا من اقتصاد وزراعة وإعمار من جهة ثانية مع التنكر وعدم الاهتمام لما يتعلق بالله والآخرة وما ينتج عنها.
من الواضح أن إرثنا الديني والثقافي لم يعرف ثنائية المقدس والمدنس، بل وجه ديننا المسلم إلى الدنيا والآخرة، وإلى الاهتمام بالجسد والروح، ويؤكد ذلك آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد اعتبر الإسلام أن الدنيا هدف في حد ذاتها، وطلب أن يسأل العبد ربه أن يؤتيه الحسنات منها، فقال تعالى “ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار” (البقرة، 206)
وعدّ الإسلام إعمار الأرض هدفا من أهداف خلق الإنسان فقال تعالى “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب” (سورة هود، 61).
ويتضح استهداف إعمار الأرض في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل” (رواه أحمد)، فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يحض المسلم على أن يغرس الفسيلة التي بيده مع إدراكه قرب قيام الساعة، وانتهاء دورة الحياة، وهذا يدل على تعظيم الإسلام لإعمار الدنيا.
وقد تميز الإسلام بين أديان الأرض جميعا في أنه اعتبر أي عمل دنيوي شهوي عبادة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمع من الصحابة: “في بضع أحدكم صدقة” فاستغرب الصحابة ذلك وقالوا: ” يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟” فقال: “أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ وكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر” (رواه مسلم).
وقد اهتم الإسلام بالجسد واعتبره قيمة في حد ذاته، يجب أن يحافظ عليها، والمسلم يحاسب عليها يوم القيامة أمام الله، لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم “إن لجسدك عليك حقاً” ورفض الإسلام أي تعذيب للجسد تحت دعوى العبادة، فقد ذكرت الأحاديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً واقفاً تحت الشمس، فسأل عنه: فقالوا: “أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه” (رواه البخاري).
وجاء في حديث آخر عن أنس أنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا الحبل لزينب، فإذا فترت تعلّقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حلّوه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد” (متفق عليه).
ومن الجلي أن الدولة في التاريخ الإسلامي لم يتوجه اهتمامها فقط إلى شؤون المساجد والعبادة والتعليم الديني وتحفيظ القرآن، بل توجه اهتمامها -بالإضافة إلى ما سبق- إلى شؤون الدنيا بمختلف صنوفها من زراعة وتجارة واقتصاد وإدارة وأسرة وتعليم ..، ومما يؤكد اهتمام الدولة الإسلامية بالدنيا أن القرآن الكريم أمر بأن تصرف أموال الزكاة إلى الفقراء والمساكين، وفي إعتاق العبيد، وفي تأليف القلوب، ولم يصرف منها شيء لدور العبادة أو للعلماء والمشايخ القائمين على المساجد.
وعلى الأصح أنه لا يجوز أن تصرف أموال الزكاة على بناء دور العبادة أو القائمين عليها، بل يجب أن تكون من مصادر أخرى، فقد قال تعالى “إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم.” (التوبة،60).
لقد اهتمت الدولة الإسلامية بأمور الله والإنسان، والآخرة والدنيا، والروح والجسد، وقد اتضح ذلك من مقاصد الشريعة التي توصّل إليها علم أصول الفقه الإسلامي، فقد استقرأ الفقهاء أحكام الشريعة فوجدوا أن جميع تلك الأحكام تهدف إلى تحقيق خمسة مقاصد هي: حفظ الدين، حفظ العقل، حفظ النفس، حفظ المال، حفظ النسل، ومن البيّن أن هناك مقصدا واحدا من مقاصد الشريعة تتعلق بالدين، وهناك أربع مقاصد تتعلق بالإنسان وعقله وماله ونفسه وعرضه، وهذا يدل على مدى اهتمام الشرع الإسلامي والدولة الإسلامية بالإنسان والدنيا.
الخلاصة: قد جاء مصطلح “الدولة المدنية” مقابل “الدولة الكنسية” وهو مصطلح له مضامين محددة منها: التمركز حول الإنسان دون الالتفات إلى ما يتعلق بالله، والاهتمام بالدنيا فقط، دون أي اعتبار للآخرة، وإطلاق شهوات الجسد وملذاته دون أي اعتبار للروح، لكن دولتنا الإسلامية على مدار التاريخ الماضي قامت على أداء الواجبات نحو الله والإنسان، والدنيا والآخرة، والروح والجسد. وكذلك يجب أن تهتم الدول المعاصرة التي تتشكل بعد الربيع العربي، يجب أن تهتم بالجانبين: الله والإنسان، الدنيا والآخرة، الروح والجسد، وليس بجانب واحد كما هو حاصل في الغرب الآن.
Lorem Ipsum