توفي محمد قطب -رحمه الله- عن 98 عاما، وهو إحدى القامات الفكرية العالية التي ساهمت في بناء الفكر الإسلامي المعاصر، فأين تكمن قيمته الفكرية؟ وما اللبنات التي أثرى بها الفكر الإسلامي؟
ليس من شك في أن الحضارة الغربية كانت التحدي الأكبر الذي واجه الأمة منذ مطلع القرن التاسع عشر، وقد استطاع الغرب أن يحقق بعض الانتصارات العسكرية والسياسية على الأمة، وأبرزها:
سقوط الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، واستعمار كثير من الدول العربية، وقيام الدولة الوطنية والقومية في عدد من الدول العربية، ثم قيام إسرائيل عام 1948.. إلخ.
وقد رافق ذلك قيام نخبة ثقافية تدعو إلى الحضارة الغربية بأسلوبين:
– الأول يدعو إلى أخذ الحضارة الغربية بشكل مباشر، مثل: طه حسين، وسلامة موسى، ولويس عوض وغيرهم.
– الثاني يدعو إلى أخذ الحضارة الغربية عبر تأويل الإسلام بما يتلاءم مع معطياتها. وأبرز من قام بهذا محمد عبده وتلامذته، ومنهم: قاسم أمين، وعلي عبد الرازق، وسعد زغلول وغيرهم.
ثم انسحب تأثير النخبة الثقافية على عدد محدود من أفراد الأمة، فتغرّب قطاع من الأمة، وتسربت تأثيرات الحضارة الغربية على المجالات الفنية والأدبية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية من وجود الأمة وكيانها.
ثم جاء الإمام حسن البنّا وأسس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، واستطاع أن يكسب جمهورا واسعا من قطاعات الطبقة الوسطى والدنيا التي لم تتجاوب مع الحضارة الغربية ولم تتغرب، وبقيت على ولائها للدين الإسلامي وقيمه وأفكاره وأخلاقه ومنظومته الفكرية والثقافية.
والسؤال الآن: ما الدور الذي أداه محمد قطب في هذا المعترك الحضاري الذي تولّد بعد الحرب العالمية الثانية بين التيارين الإسلامي والتغريبي؟
لقد أدى الراحل محمد قطب دورين أساسيين: أولهما الرد على بعض نظريات الحضارة الغربية، والثاني طرح نظريات إسلامية في بعض المجالات.
وسنستعرض هنا جهده في هذين المجالين بشكل مختصر وسريع لأننا لن نستطيع أن نوفيه حقه في هذا المقال.
ففيما يتعلق بالدور الأول، رد محمد قطب على أبرز النظريات التي قامت عليها الحضارة الغربية من مثل نظرية داروين في النشوء والارتقاء، ونظرية ماركس في تطور وسائل الإنتاج وأثرها في تطور الحياة البشرية، ونظرية فرويد في الجنس وأثره على سلوك الفرد ونشوء الأدب والدين، ونظرية دوركهايم في الحتمية الاجتماعية وأثر ذلك في الأسرة والزواج والدين. وها هي بعض ردوده على تلك النظريات:
أ- نظرية داروين في النشوء والارتقاء:
اعتبرت نظرية داروين أن الإنسان جاء نتيجة تطور مادي، ولا دخل للإرادة الإلهية في خلقه، وبهذا وضعت النظرية أول جدار فاصل بين السماء والأرض.
واعتمد محمد قطب وأخوه سيد في ردهما على نظرية داروين في أن أصل الإنسان قرد، على الداروينية الحديثة التي اضطرت للتراجع عن مقولة داروين بالتطور المادي الكامل، واضطرت للاعتراف بأنه لا يمكن تفسير جوانب في تكوين الإنسان وقواه الذاتية من مثل القدرة على التخيل، إلا بالإقرار بأن هناك تدخلا خارجيا في هذا الخلق، وهو الاعتراف -بصورة من الصور- بعوامل من خارج المنظور المادي الذي انطلقت منه النظرية وبنت عليه صورتها، وهي يد الله.
ب- نظرية ماركس في تطور وسائل الإنتاج:
اعتبر ماركس أن تطور وسائل الإنتاج من الشيوعية الأولى إلى المحراث في الزراعة، إلى الآلة البخارية، ثم الآلة الكهربائية إلخ.. هو الذي يطور المجتمعات من مجتمع شيوعي إلى مجتمع رق، إلى إقطاعي، إلى برجوازي إلخ.. وأن تطور وسائل الإنتاج هو العامل الرئيسي في ولادة الدين والأخلاق والعادات والفنون والأذواق.. إلخ.
وقد رد محمد قطب عليها أروع رد في كتاب “التطور والثبات في حياة البشرية”، فذكر أن علينا أن نميز بين “المتطور” و”الثابت” في حياة الإنسان، وأوضح أن “الثابت” هو الشهوة الإنسانية و”المتطور” هو أشكال تحقيق هذه الشهوة.
فتحدّث عن شهوة الطعام وقال: كان الإنسان يعتمد في غذائه على الصيد وثمار الأشجار، وكان يأكل طعامه نيئا قبل أن يكتشف النار، ثم اكتشف الزراعة فزرع أنواعا مختلفة من النبات استخدمها في صنع غذائه، ثم “تحضّر” فجعل صناعة الغذاء فنا، وصنع أدوات لهذا الفن من ملاعق وأشواك وسكاكين، وجعل للطعام تقاليد وآدابا مرعية عند تناوله، فما الذي تغيّر: رغبة الطعام في جوهرها أم الصورة التي حقق بها الإنسان هذه الرغبة؟ وقس على ذلك كثيرا من الأمور.
المهم أن محمد قطب أوضح أنه ليس كل شيء متطورا كما زعم ماركس، فهناك “ثابت” هو فطرة الإنسان، وهناك “متطور” هو الشكل الذي تحققت به هذه الفطرة، وهذا ما انتبه له الإسلام واجتهد في مراعاته في أحكامه، فراعى الفطرة الثابتة وشرع لها أحكاما ثابتة، أما صور تحقيق الفطرة فلم يشرع لها أحكاما ثابتة وإنما ترك أحكام تحقيقها حسب تطورات الزمان والمكان.
ج- نظرية فرويد في الجنس:
اعتبر فرويد أن طاقة الجنس أضخم طاقة في الإنسان، وربط كلَّ مفردات السلوك الإنساني بالجنس، بدءا من علاقة الطفل بأمه، مرورا بعلاقة البنت بأبيها، وانتهاء بالدين والفنون والآداب والأخلاق والأحلام، واعتبر أن عدم وجود حرية جنسية سيؤدي إلى الكبت وإلى العقد النفسية.
وقد رد محمد قطب على كل تلك الأقوال في أكثر من كتاب، لكن أولها وأشهرها هو كتاب “الإنسان بين المادية والإسلام”، واعترف محمد قطب -ابتداءً- بأن طاقة الجنس طاقة ضخمة، لكنه رفض دعوة فرويد إلى الإباحية الجنسية، وميّز بين “الكبت” و”الضبط”، وأعطى تفسيرا رائعا للكبت الذي يورّث عُقدا نفسية بظروف الدين المسيحي الذي يعتبر تفكير الإنسان في الشهوة حراما.
وفي هذا السياق استعرض قصة النبي يوسف عليه السلام والتي وردت في القرآن الكريم، ليبين قدرة الإنسان على ضبط نفسه، كما أكد أن الأحلام ليست كلها تعبيرا عن الطاقة الجنسية المكبوتة، بل بعضها أضغاث أحلام، وبعضها حديث نفس، وبعضها رؤى من الله كما ورد في قصة يوسف عليه السلام مع صاحبي السجن.
أما فيما يتعلق بالدور الثاني لمحمد قطب، فقد طرح أصولا ومبادئ لعدة نظريات في مجالات إسلامية مختلفة منها: الفن الإسلامي، والتفسير الإسلامي للتاريخ، والتربية الإسلامية، والنفس الإنسانية. وسنستعرض دوره في إرساء بعض القواعد لنظريتين هما الفن الإسلامي والتفسير الإسلامي للتاريخ.
أ- الفن الإسلامي:
ثم عرض خطوطا عريضة لهذه النظرية وأورد نماذج تدلل على ذلك في مجالات الشعر والقصة والمسرح، وبعض كتابها ليسوا من المسلمين مثل طاغور الهندي.
ب- التفسير الإسلامي للتاريخ:
طرح محمد قطب نظرية من أجل تفسير التاريخ في كتابه “حول التفسير الإسلامي للتاريخ”، وأشار إلى أن هذا التفسير اجتهاد بشري يمكن أن يخطئ ويصيب كاجتهاد الفقهاء في استنباط الأحكام، ويمكن أن تختلف فيه وجهات النظر كما تختلف وجهات النظر بين الفقهاء. أما “المعيار” الذي يجب أن يقوم عليه هذا التفسير فليس بشريا، ولا يملك البشر -بعلمهم المحدود وقصور نظرتهم وتأثرهم بأهوائهم- أن يضعوا هم المعيار من عند أنفسهم، وإنما يضعه الخالق المدبّر اللطيف الخبير.. قال تعالى “ألا له الخلق والأمر” (سورة الأعراف، الآية: 54).
وكان قد ناقش في كتابه السابق جملة من التفاسير المعاصرة كالتفسير المادي للتاريخ، والتفسير الليبرالي، وبيّن بعض الأخطاء التي يقوم عليها هذان التفسيران.
الخلاصة:
لقد أثرى محمد قطب الفكر الإسلامي في عدة مجالات، وقد أشرت إلى مجالين منها وهما: مجال الرد على بعض النظريات الغربية، ومجال بناء نظريات إسلامية في مجالات جديدة، مع التأكيد أنه أبدع في مجالات أخرى.
وأعتقد أن من حقه علينا أن يقوم بعض مفكرينا وعلمائنا ومؤسساتنا بجمع كتاباته ودراستها وتقويمها، لتستفيد الأجيال القادمة منها.