من أجل أن نفهم التحالف الدولي الجديد المكون من أربعين دولة والذي يستهدف مواجهة خطر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) علينا أن نلقي الضوء على حدثين مماثلين، يتعلق الأمر باحتلال أفغانستان عام 2001، واحتلال العراق عام 2003.
أما احتلال أفغانستان عام 2001 فكان رد فعل على تدمير القاعدة لبرجي نيويورك بالطائرات المخطوفة، وقد أصبح من المرجح أو من المؤكد أن أميركا كانت على علم باستهداف البرجين من خلال تقارير استخبارية وضعت أمام إدارة البيت الأبيض، ولكنها مررت تدمير البرجين من أجل إعطاء المبرّر لتنفيذ خطة جاهزة رسمتها مراكز الأبحاث عام 1996 وتبناها “المحافظون الجدد” الذين جاءوا إلى الحكم مع بوش الابن عام 2001.
وكانت الخطة التي تحمل عنوان: “الانفصال عن الماضي: إستراتيجية جديدة لتأمين الأمن”، تقضي بتغيير خريطة الشرق الأوسط، وقد ساهم نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل في وضعها مع آخرين.
أما احتلال العراق عام 2003 فقد حشدت أميركا له حشدا دوليا من (49) دولة، وقد كانت الحجة التي قدمتها أميركا لمحاربة صدام واحتلال العراق أنه تعاون مع القاعدة مع جهة، وأنه امتلك أسلحة دمار شامل من جهة ثانية، وبعد أن احتلت أميركا العراق فتشوه شبرا شبرا فلم يجدوا أثرا لأية أسلحة دمار، كما درسوا ملايين الأوراق والوثائق والفيديوهات والتسجيلات التي صادرتها قوات الاحتلال من مراكز المخابرات العراقية ورئاسة الجمهورية فلم يجدوا أي دليل على أي تعاون بين صدام والقاعدة.
هذا ما انتهى إليه الاحتلال وأكدته إعلاناته فيما بعد: والأرجح أن القيادات الأميركية كانت تعرف هذه الحقائق، لكنها طرحت تلك الأسباب من أجل تدبير احتلال العراق، وأعلنت إلى جانب ذلك أنها تريد أن تحرر الشعب العراقي من ديكتاتورية صدام، وتحول العراق إلى جنة للديمقراطية، ولم يتحقق شيء من ذلك بل دمرت قوات الاحتلال كل بناه التحتية، وقتلت ما يقرب من مليون شخص، ونقلته من ديكتاتورية صدام حسين إلى ديكتاتورية نوري المالكي، فما الأهداف الحقيقية التي أرادتها أميركا؟
تتلخص أهم هذه الأهداف في:
1- التفتيت الثقافي من خلال صدم “المكون الشيعي” بـ “المكوّن السني” في العراق، وهما أكبر مكونين في البناء الثقافي للأمة.
2-التجزئة السياسية للعراق من خلال إحياء الطائفيات الدينية، والإثنيات العرقية وهي كثيرة في العراق.
ليس من شك بأن هذا التفتيت الثقافي والتجزيء السياسي يصب في مصلحة إسرائيل ويخدم مخططاتها منذ إنشائها.
أما عن التحالف الدولي الذي دعا إليه أوباما لمواجهة داعش في العراق وسوريا، وضم ما يزيد عن أربعين دولة، والذي قصف مواقع “داعش” في العراق وسوريا يوم 22/9/2014، فما العوامل التي دعت أميركا إلى تشكيل هذا التحالف الجديد الذي يشبه التحالف الدولي لعام 2003 بشكل كبير؟
أعتقد بأن العامل الأساسي الذي جعل أميركا تضم هذا الحشد هو حرصها على استكمال تفتيت “المكوّن السني” في بناء الأمة من خلال زيادة تمكين “المكوّن الشيعي” في العراق وسوريا بعد أن اهتزت سيطرته على العراق وسوريا خلال عامي 2012 و2013، وسنوضح ذلك في السطور التالية.
ففي العراق شكّل بول بريمر أول مجلس حكم للعراق عام 2003، وجعله موزعا حسب محاصصة طائفية وإثنية، ومن الواضح أن الاحتلال كان منحازا إلى “المكوّن الشيعي” وتقديمه على “المكوّن السني”، لأن القيادات الشيعية التي كانت تابعة لإيران هي التي أعانت القوات الأميركية على احتلال العراق من أمثال: محمد باقر الحكيم، وإبراهيم الجعفري، وأحمد الجلبي، وموفق السامرائي إلخ.
لذلك مكّن بريمر “المكوّن الشيعي” من أن يحكم العراق، ودفع “المكوّن السني” إلى المرتبة الثانية، وأعطى الاحتلال الأمريكي العراق هدية إلى إيران على طبق من ذهب، وظن بعضهم أن هذا الوضع قد حدث نتيجة ملابسات مفاجئة وحديثة، لكن الحقيقة أن أميركا منذ أن جاء الخميني إلى طهران عام 1979، وأميركا تراهن على أن “المكوّن الشيعي” سيلعب دورا أساسيا في إضعاف “المكوّن السني” والحلول محله في المنظومة الثقافية الإسلامية، وسيحقق -حينئذ- هدفان، هما:
الأول: تفتيت الوحدة الثقافية للأمة الإسلامية بضرب مكوناتها، وهو ما سيؤدي إلى إضعاف الأمة وخلخلتها، وإشغالها بنفسها، عوضا عن الانشغال بالتقدم والعمران والبناء الحضاري، وهو ما ستستفيد منه أميركا حضاريا وثقافيا، وستستفيد منه إسرائيل سياسيا.
الثاني: إيجاد فرصة وإمكانية لتطويع مفاهيم الإسلام لصالح مفاهيم الحضارة الغربية، من أجل تسهيل دخول الأمة في منظومة الثقافة الغربية، وهي العملية التي ما زالت متعثرة ولم تتحقق من خلال الفكر القومي العربي والاستعمار القديم بكل أنواعه: الإنجليزي والفرنسي والإيطالي إلخ.. والتي بدأت منذ القرن التاسع عشر، وتُوِّجت بسقوط الخلافة العثمانية عام 1924، والتي بدأت طورا جديدا بمحاولة أميركا تسخير إيران وثورة الخميني والاستفادة من “المكوّن الشيعي” في تحقيق هذا الهدف.
لكن أهل السنة لم يضعفوا ولم يستسلموا للظلم الذي لحق بهم في العراق بعد الاحتلال الأميركي، فثاروا على ديكتاتورية نوري المالكي في عامي 2012 و2013، وكانت الاعتصامات الحاشدة في الأنبار والموصل وتكريت، وقدّموا مطالبهم التي تدعو إلى إنصاف أهل السنة وإعطائهم حصتهم في أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية، لكن نوري المالكي قابلها بالرصاص والقمع المسلّح، وهنا تشكلت كيانات عسكرية متعددة نجحت في استقطاب أهل السنة وكان منها: جيش النقشبندية، وجيش المجاهدين، والجيش الإسلامي، و”داعش” إلخ.. واحتلت محافظات الموصل وصلاح الدين والأنبار في شهر يونيو/حزيران 2013، واستولت على معظم المعابر الحدودية مع سوريا مثل القائم وربيعة، وهددت بغداد.
والحقيقة أن أميركا كانت على علم بهذه التحولات، فقد نقلت الأخبار الموثوقة أن عدة دوائر استخبارية أميركية أرسلت تقارير إلى البيت الأبيض ووزارة الخارجية منذ مطلع عام 2013، تبين وتؤكد تمدد “داعش”، واتساع سيطرتها في المنطقة الواقعة بين سوريا والعراق، لكن دوائر القرار الأميركية تغاضت عن تلك التقارير، وسمحت لـ”داعش” بالتمدد من أجل أن تأخذ ذلك مبررا لتحقيق هذا التحالف الدولي.
أما في سوريا فقد قامت الثورة في 15/3/2011 على نظام طائفي مستبد يقوده آل الأسد منذ أربعين عاما، وكان “المكوّن السني” هو الأساس والأكبر في الثورة لأنه الأكبر ديموغرافيا واقتصاديا وثقافيا في كيان المجتمع السوري.
وكادت الثورة أن تسقط النظام عام 2012، لأن الجيش السوري قد انهار، مما اضطر إيران وهي الحليف الرئيسي لنظام الأسد أن تأمر تابعها حزب الله في لبنان أن يتدخل، فتدخل بالإضافة إلى قوى أخرى مثل: عصائب أهل الحق، وكتائب بدر من العراق، ومثل الحرس الثوري من إيران، ومثل الحوثيين من اليمن إلخ. مما عدّل كفة النظام وجعلها تبدأ بالرجحان منذ معركة القصير في 6 يونيو/حزيران 2013، ومن الجدير بالذكر أن هناك أمرين في صدد موقف أميركا من الثورة السورية:
الأول: أنها لم تعتبر تدخل حزب الله وغيره من قوى إيران الطائفية إرهابا مع أنها لا تختلف عن “داعش”، فهي قد جاءت من خارج سوريا مثل “داعش”، وهي تمارس قتلا مماثلا في وحشيته لقتل “داعش”، وكان عليها أن تصنفها إرهابية في لائحة الإرهاب العالمي، لكنها لم تفعل ذلك، وهذا يوضح انحياز أميركا إلى “المكوّن الشيعي” من جهة، وكيلها بمكيالين من جهة ثانية.
الثاني: لم تفعل أميركا شيئا لحماية الشعب السوري الأعزل من بطش وإجرام النظام وآلته الحربية التي استخدم فيها أدوات الفتك والتدمير من الطيران والصواريخ والدبابات والسلاح الكيماوي إلخ. فلم تفرض ملاذات أو ممرات آمنة لحماية الشعب السوري كما فعلت في حرب الصرب وكرواتيا وألبانيا والبوسنة والهرسك، ولم تقم بحظر الطيران عن بعض المواقع كما فعلت مع صدام في حربه مع الأكراد، ليس هذا فحسب بل منعت الدول العربية الصديقة للثورة من أن تقدم سلاحا نوعيا للثورة مثل الصواريخ المضادة للطائرات أو الدبابات لمواجهة طيران النظام ودباباته.
الخلاصة: إن أميركا أرادت من هذا التحالف الدولي تمكين “المكوّن الشيعي” من قيادة المنطقة وإعادته إلى موقع الصدارة في كل من العراق وسوريا، بعد أن استطاع “المكوّن السني” زعزعته مع كل الدعم الأمريكي له خلال السنوات السابقة.
رابط المقال من الجزيرة نت ماذا تريد أميركا من التحالف الدولي الجديد؟