كان الصبي ( ليوبولدفايس ) تحت إصرار والده يواظب على دراسة النصوص الدينية ساعات طويلة كل يوم ، وهكذا وجد نفسه وهو في سن الثالثة عشر يقرأ العبرية ويتحدثها بإتقان ، درس التوراة في نصوصها الأصلية وأصبح عالماً بالتلمود وتفسيره، ثم انغمس في دراسة التفسير المعقد للتوراة المسمى (ترجوم) فدرسه وكأنما يهيئ نفسه لمنصب ديني .
كان إنجاز ليوبولدفايس المدهش يعد بتحقيق حلم جده الحاخام الأرثوذكسي النمساوي بأن تتصل بحفيده سلسله من أجداده الحاخامات، ولكن هذا الحلم لم يتحقق ، فبالرغم من نبوغه في دراسة الدين أو ربما بسببه نمت لديه مشاعر سلبيه تجاه جوانب كثيرة من العقيدة اليهودية ، لقد رفض عقله ما بدا من أن الرب في النصوص التوراتية والتلمودية مشغول فوق العادة بمصير أمة معينة وهم اليهود بالطبع . لقد ابرزت النصوص الرب لا كخالق وحافظ لكل خلقه من البشر بل كرب قبلي يسخر كل المخلوقات لخدمة الشعب المختار .
لم يؤد إحباطه من الديانة اليهودية في ذلك الوقت إلى البحث عن معتقدات روحية أخرى ، فتحت تأثير البيئة اللا إرادية التي يعيش فيها وجد نفسه يندفع ككثير من أقرانه إلى رفض الواقع الديني وكل مؤسساته ، وما كان يتطلع إليه لم يختلف كثيراً عما يتطلع إليه باقي أبناء جيله وهو خوض المغامرات المثيرة .
في تلك المرحلة من عمر ” ليوبولدفايس” اشتعلت الحرب العالمية الأولى ( 1914_1918 ) . وبعد انتهاء الحرب _ وعلى مدى عامين _ درس بلا نظام تاريخ الفن والفلسفة في ( جامعة فينا ) ولكن ، كان مشغوفاً بالتوصل إليه هو جوانب محببة إلى نفسه من الحياة ، كان مشغوفاً أن يصل بنفسه إلى مُثّل روحية حقيقية كان يوقن أنها موجودة لكنه لم يصل إليها بعد .
كانت العقود الأولى للقرن العشرين تتسم بالخواء الروحي للأجيال الأوربية ، أصبحت كل القيم الأخلاقية متداعية تحت وطأة التداعيات المرعبة للسنوات التي استغرقتها الحرب العالمية الأولى في الوقت الذي لم تبد فيه أي روحية جديدة في أي أفق ، كانت مشاعر عدم الإحساس بالأمن متفشية بين الجميع ، إحساس داخلي بالكارثة الاجتماعية والفكرية أصاب الجميع بالشك في استمرارية أفكار البشر وفي مساعيهم وأهدافهم ، كان القلق الروحي لدى الشباب لا يجد مستقراً لاقدامه الوجلة ، ومع غياب أي مقاييس يقينية أخلاقية لم يكن ممكناً لأي فرد إعطاء إجابات مقنعة عن اسئلة كثيرة كانت تؤرق وتحير كل جيل الشباب .
كانت علوم التحليل النفسي ( وهي جانب من دراسات الشاب ليوبولدفايس ) تشكل في ذلك الوقت ثورة فكرية عظمى ، وقد أحس فعلاً أن تلك العلوم فتحت مزاليج أبواب معرفة الإنسان بذاته ، كان اكتشاف الدوافع الكامنة في اللاوعي قد فتحت أبواباً واسعة تتيح فهماً أوسع للذات ، وما اكثر الليالي التي قضاها في مقاهي فينا يستمع إلى مناقشات ساخنة ومثيرة بين رواد التحليل النفسي المبكرين من أمثال ” الفريد ادلر ” ” وهرمان سيتكل ” .
إلا أن الحيرة والقلق والتشويش حلت عليه من جديد ، بسبب عجرفة العلم الجديد وتعاليه ومحاولته أن يحل الغاز الذات البشرية عن طريق تحويلها إلى سلاسل من ردود الافعال العصبية .
لقد نما قلقه وتزايد وجعل إتمام دراسته الجامعية يبدو مستحيلاً فقرر أن يترك الدراسة ويجرب نفسه في الصحافة.
كان أول طريق النجاح في هذه التجربه تعيينه في وظيفة محرر في وكالة الأنباء ( يونايتد تلجرام ) وبفضل تمكنه من عدة لغات لم يكن صعباً عليه أن يصبح في وقت قصير نائباً لرئيس تحرير قطاع أخبار الصحافة الاسكندنافية بالرغم من أن سنه كانت دون الثانية والعشرون ، فانفتح له الطريق في برلين إلى عالم ارحب ” مقهى دي فيستن ” ” ورومانشية ” ملتقى الكتاب والمفكرين البارزين ومشاهير الصحفيين والفنانين ، فكانوا يمثلون له ( البيت الفكري ) وربطته بهم علاقات صداقة توافرت فيها الندية .
كان في ذلك الوقت سعيداً بما هو أكثر من النجاح في حياته العملية ، ولكنه لم يكن يشعر بالرضا والإشباع ولم يكن يدري بالتحديد ما الذي يتوق إلى تحقيقه .
كان مثله مثل كثير من شباب جيله فمع أن أيا منهم لم يكن تعساً إلا قليلاً منهم كان سعيداً بوعي وإدراك .
***
في أحد أيام ربيع سنة 1922م وعمره لم يتجاوز الثانية والعشرين كان على ظهر السفينة متوجهاً إلى ( القدس ، فلسطين ) .
ولو قال له أحد في ذلك الوقت أن أول معرفة له مباشرة بالإسلام ستصبح نقطة تحول عظمى في حياته لعد ذلك القول مزحة ، ليس بالطبع لأنه محصن ضد إغراءات الشرق التي تربط ذهن الأوربي برومانتيكيه ألف ليلة وليلة ، ولكنه أبعد ما يكون ان يتوقع ان تؤدي تلك الرحلة إلى مغامرات روحية .
كل ماكان يدور في ذهنه عن تلك الرحلة كان يتعامل معه برؤية غربية ، فقد كان رهانه محصوراً في تحقيق أعمق في المشاعر والإدراك من خلال البيئة الثقافية الوحيدة التي نشأ فيها ، وهي البيئة الأوروبية ، لم يكن إلا شاباً أوربياً نشأ على الاعتقاد بأن الإسلام وكل رموزه ليسا إلا محاولة التفافيه حول التاريخ الإنساني ، محاولة لا تحظى بالاحترام من الناحية الروحية والأخلاقية ، ومن ثم لا يستحق الذكر فضلاً عن أن يوازن بالدينين الوحيدين اللذين يرى الغرب أنهما يستحقان الاهتمام والبحث : اليهودية والمسيحية ، كان يلف تفكيره الفكر الضبابي القاتم والانحياز الغربي ضد كل ما هو إسلامي أو كما يعبر عن نفسه : ( لو تعاملت بعدل مع ذاتي لأقررت أني أيضاً كنت غارقاً حتى أذني في تلك الرؤية الذاتية الأوربية والعقلية المتعالية التي أتسم بها الغرب على مدى تاريخه : 104).
ولكن بعد أربع سنوات كان ينطق بشهادة أن لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ويتسـمى باسـم ” محمد أسد ” .
بالرغم من أن حياة ليوبولدفايس تفيض بالمغامرات والمفاجاءات والمصادفات فلم يكن لإسلامه نتيجة لأي من ذلك بل نتيجة لسنوات عدة من التجول في العالم الإسلامي والاختلاط بشعوبه ، والتعمق في ثقافته وإطلاعه الواسع على تراثه بعد إجادته للغة العربية والفارسية .
كان في الأعوام المبكرة من شباب ليوبولدفايس بعدما اصابه الاحباط وخيبة الأمل في العقيدة اليهودية التي ينتمي إليها قد أتجه تفكيره إلى المسيحية بعد ان وجد أن المفهوم المسيحي للاله يتميز عن المفهوم التوراتي لأنه لم يقصر إهتمام الإله على مجموعة معينة من البشر ترى أنها وحدها شعب الله المختار ، وعلى الرغم من ذلك كان هناك جانب من الفكر المسيحي قلل في رأيه إمكانية تعميمه وصلاحيته لكل البشر إلا وهو التمييز بين الروح والبدن. أي بين عالم الروح وعالم الشئون الدنيوية. وبسبب تنائي المسيحية المبكر عن كل المحاولات التي تهدف إلى تأكيد أهمية المقاصد الدنيوية ، كفت من قرون طويلة في أن تكون دافعاً أخلاقياً للحضارة الغربية ، إن رسوخ الموقف التاريخي العتيق للكنيسة في التفريق بين ما للرب وما للقيصر نتج عنه ترك الجانب الاجتماعي والاقتصادي يعاني فراغاً دينياً وترتب على ذلك غياب الأخلاق في الممارسات الغربية السياسية والاقتصادية مع باقي دول العالم. ومثل ذلك إخفاقاً لتحقيق ما هدفت إليه رسالة المسيح أو أي دين آخر.
فالهدف الجوهري لأي دين هو تعليم البشر كيف يدركون ويشعرون ، بل كيف يعيشون معيشة صحيحة وينظمون العلاقات المتبادلة بطريقة سوية عادلة ، وإن أحساس الرجل الغربي أن الدين قد خذله جعله يفقد إيمانه الحقيقي بالمسيحية خلال قرون ، وبفقدانه لإيمانه فقد إقتناعه بأن الكون والوجود تعبير عن قوة خلق واحدة وبفقدان تلك القناعة عاش في خواء روحي وأخلاقي.
كان إقتناعه في شبابه المبكر أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده قد تبلور إلى اقتناع فكري بأن عبادة التقدم المادي ليست إلا بديلاً وهمياً للإيمان السابق بالقيم المجردة وأن الإيمان الزائف بالمادة جعل الغربيين يعتقدون بأنهم سيقهرون المصاعب التي تواجههم حالياً ، كانت جميع النظم الإقتصادية التي خرجت من معطف المادة علاجاً مزيفاً وخادعاً ولا تصلح لعلاج البؤس الروحي للغرب. كان التقدم المادي بإمكانه في أفضل الحالات شفاء بعض أعراض المرض إلا أنه من المستحيل أن يعالج سبب المرض.
كانت أول علاقة له بفكرة الإسلام وهو يقضي أيام رحلته الأولى في القدس عندما رأى مجموعة من الناس يصلون صلاة جماعة يقول : (أصابتني الحيرة حين شاهدت صلاة تتضمن حركات آلية ، فسألت الإمام هل تعتقد حقاً أن الله ينتظر منك أن تظهر له إيمانك بتكرار الركوع والسجود؟ ألا يكون من الأفضل أن تنظر إلى داخلك وتصلي إلى ربك بقلبك وأنت ساكن؟ أجاب: بأي وسيلة أخرى تعتقد أننا يمكن أن نعبد الله؟ ألم يخلق الروح والجسد معاً؟ وبما أنه خلقنا جسداً وروحاً ألا يجب أن نصلي بالجسد والروح؟ ثم مضى يشرح المعنى من حركات الصلاة ، أيقنت بعد ذلك بسنوات أن ذلك الشرح البسيط قد فتح لي أول باب للإسلام .: 120)
بعد هذه الحادثة بشهور كان يدخل الجامع الأموي في دمشق ويري الناس يصلون ويصف هذا المشهد (اصطف مئات المصلين في صفوف طويلة منتظمة خلف الإمام ركعوا وسجدوا كلهم في توحد مثل الجنود ، كان المكان يسوده الصمت يسمع المرء صوت الإمام من أعماق المسجد الجامع يتلو آيات القرآن الكريم ، وحين يركع أو يسجد يتبعه كل المصلين كرجل واحد. أدركت في تلك اللحظة مدى قرب الله منهم وقربهم منه بدا لي أن صلاتهم لا تنفصل عن حياتهم اليومية بل كانت جزءاً منها ، لا تعينهم صلاتهم على نسيان الحياة بل تعمقها أكثر بذكرهم لله. قلت لصديقي ومضيفي ونحن ننصرف من الجامع: ما أغرب ذلك وأعظمه! إنكم تشعرون أن الله قريب منكم ، أتمنى أن يملأني أنا أيضاً ذلك الشعور ، رد صاحبي : ما الذي يمكن أن نحسه غير ذلك والله يقول في كتابه : { لقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } . 166)
ويقول بعد ذلك (تركت تلك الشهور الأولى التي عشتها في بلد عربي قطاراً طويلاً من الانعكاسات والانطباعات ، لقد واجهت مغزى الحياة وجها لوجه وكان ذلك جديدا تماماً على حياتي. الأنفاس البشرية الدافئة تتدفق من مجرى دم أولئك الناس إلى أفكارهم بلا تمزقات روحية مؤلمة من عدم الإطمئنان والخوف والطمع والإحباط الذي جعل من الحياة الأوروبية حياة قبيحة وسيئة لا تعد شيئ:131)
(أحسست بضرورة فهم تلك الشعوب المسلمة لأني وجدت لديهم تلاحماً عضوياً بين الفكر والحواس ، ذلك التلاحم الذي فقدناه نحن الأوربيين ، واعتقدت أنه من خلال فهم أقرب وأفضل لحياتهم يمكن أن أكتشف الحلقة المفقودة التي تسبب معاناة الغربيين وهي تآكل التكامل الداخلي للشخصية الأوروبية ، لقد اكتشفت كنه ذلك الشيء الذي جعلنا نحن أهل الغرب ننأى عن الحرية الحقة بشروطها الموضوعية التي يتمتع بها المسلمون حتى في عصور انهيارهم الاجتماعي والسياسي:132)
(ما كنت أشعر به في البداية أنه لا يعدو أكثر من تعاطف مع شكل الحياة العربية والأمان المعنوي الذي أحسبه فيما بينهم تحول بطريقة لا أدركها إلى ما يشبه المسألة الذاتية ، زاد وعيي برغبة طاغية في معرفة كنه ذلك الشيء الذي يكمن في أسس الأمن المعنوي والنفسي وجعل حياة العرب تختلف كلياً عن حياة الأوروبيين ، ارتبطت تلك الرغبة بشكل غامض بمشكلاتي الشخصية الدفينة ، بدأت أبحث عن مداخل تتيح لي فهماً أفضل للشخصية العربية والأفكار التي شكلتهم وصاغتهم وجعلتهم يختلفون روحياً عن الأوروبيين بدأت أقرأ كثيراً بتركيز في تاريخهم وثقافتهم ودينهم ، وفي غمرة اهتمامي أحسست بأني توصلت إلى إكتشاف ما يحرك قلوبهم ويشغل فكرهم ويحدد لهم إتجاههم ، أحسست أيضاً بضرورة اكتشاف القوى الخفية التي تحركني أنا ذاتي وتشكل دوافعي وتشغل فكري وتعدني أن تهديني السبيل) : 132)
قضيت كل وقتي في دمشق أقرأ من الكتب كل ما له علاقة بالإسلام كانت لغتي العربية تسعفني في تبادل الحديث إلا أنها كانت أضعف من أن تمكنني من قراءة القرآن الكريم.. لذا لجأت إلى ترجمة لمعاني القرآن الكريم.. أما ما عدا القرآن الكريم فقد اعتمدت فيه على أعمال المستشرقين الأوربيين. ومهما كانت ضآلة ما عرفت إلا أنه كان أشبه برفع ستار ، بدأت في معرفة عالم من الأفكار كنت غافلاً عنه وجاهلاً به حتى ذلك الوقت ، لم يبد لي الإسلام ديناً بالمعنى المتعارف عليه بين الناس لكلمة دين بل بدا لي أسلوباً للحياة ، ليس نظاماً لاهوتياً بقد ما هو سلوك فرد ومجتمع يرتكز على الوعي بوجود إله واحد ، لم أجد في أي آية من آيات القرآن الكريم أي إشارة إلى احتياج البشر إلى الخلاص الروحي ولا يوجد ذكر لخطيئة أولى موروثة تقف حائلاً بين المرء وقدره الذي قدره الله له ، ولا يبقى لأبن آدم إلا عمله الذي سعى إليه ولا يوجد حاجة إلى الترهب والزهد لفتح أبواب خفية لتحقيق الخلاص ، الخلاص حق مكفول للبشر بالولادة ، والخطيئة لا تعني إلا ابتعاد الناس عن الفطرة التي خلقهم الله عليها ، لم أجد أي أثر على الثنائية في الطبيعة البشرية فالبدن والروح يعملان في المنظور الإسلامي كوحدة واحدة لا ينفصل أحدهما عن الآخر.
أدهشني في البداية اهتمام القرآن الكريم ليس بالجوانب الروحية فقط بل بجوانب أخرى غير مهمة من الأمور الدنيوية ، ولكن مع مرور الوقت بدأت أدرك أن البشر وحدة متكاملة من بدن وروح ، وقد أكد الإسلام ذلك ، لا يوجد وجه من وجوه الحياة يمكن أن نعده مهمشاً بل إن كل جوانب حياة البشر تأتي في صلب اهتمامات الدين. لم يدع القرآن الكريم المسلمين ينسون أن الحياة الدنيا ليست إلا مرحلة في طريق البشر نحو تحقيق وجود أسمى وأبقى وأن الهدف النهائي ذو سمة روحية ، ويرى أن الرخاء المادي لا ضرر منه إلا أنه ليس غاية في حد ذاته ، لذلك لا بد أن تقنن شهية الإنسان وشهواته وتتم السيطرة عليها بوعي أخـلاقي من الفرد ، هذا الوعي لا يوجه إلى الله فقط بل يوجه أيضاً إلى البشر فيما بينهم ، لا من أجل الكمال الديني وحده بل من أجل خلق حالة اجتماعية تؤدي إلى تطور وعي للمجتمع بأكمله حتى يتمكن من أن يحيا حياة كاملة.
نظرت إلى كل تلك الجوانب الفكرية والأخلاقية بتقدير وإجلال ، كان منهجه في تناول مشكلات الروح أعمق كثيراً من تلك التي وجدتها في التوراة ، هذا عدا أنه لم يأت لبشر دون بشر ولا لأمة بذاتها دون غيرها ، كما أن منهجه في مسألة البدن يعكس منهج الإنجيل منهج إيجابي لا يتجاهل البدن ، البدن والروح معاً يكونان البشر كتوأمين متلازمين سألت: ألا يمكن أن يكون ذلك المنهج هو السبب الكامن وراء الإحساس بالأمن والتوازن الفكري والنفسي الذي يميز العرب والمسلمين: 166- 168).
بعد أن غادر ليوبولدفايس سوريا بقى شهوراً في تركيا في طريق عودته إلى أوروبا لتنتهي رحلته الأولى إلى العالم الإسلامي.
(بدأت انطباعاتي عن تركيا تفقد حيويتها وأنا في القطار المتوجه إلى فينا وما ظل راسخاً هو الثمانية عشر شهراً التي قضيتها في البلاد العربية ، صدمني إدراكي أن أتطلع إلى المشاهد الأوروبية التي اعتدتها بعيني من هو غريب عنها ، بدا الناس في نظري في غاية القبح وحركاتهم خالية من الرقة ، ولا علاقة مباشرة بين حركاتهم وما يرددونه ويشعرون به ، أدركت فجأة أنه على الرغم من المظاهر التي تنبيء بأنهم يعرفون ما يريدون إلا أنهم لا يعرفون أنهم يحيون في عالم الادعاء والتظاهر ، أتضح لي أن حياتي بين العرب غيرت منهجي ورؤيتي لما كنت أعده مهماً وضرورياً للحياة ، تذكرت بشيء من الدهشة أن أوروبيين آخرين قد مروا بتجارب حياتية مع العرب وعايشوهم أزماناً طويلة فكيف لم تعترهم دهشة الاكتشاف كما اعترتني أم أن ذلك قد وقع لهم أيضا؟ هل أهتز أحدهم من أعماقه كما حدث لي: 178-179).
(توقفت بضعة أسابيع في فينا واحتفلت بتصالحي مع أبي الذي سامحني على ترك دراستي الجامعية ومغادرتي منزل الأسرة بتلك الطريقة الفجة ، على أي حال كنت مراسلاً لجريدة “فرانكفوتر ذيتونج” وهو أسم يلقي التقدير والتبجيل في وسط أوروبا في ذلك الوقت ، وهكذا حققت في نظره مصداقية ما زعمت له قبل ذلك من أني سأحقق ما أصبو إليه وأصل إلى القمة:)179).
(رحلت بعد ذلك من فينا مباشرة إلى فرانكفورت لأقدم نفسي شخصياً إلى الصحيفة التي كنت أمثلها في الخارج على مدى عام ، كنت في طريقي إليها وأنا أشد ثقة بنفسي فالرسائل التي كنت أتلقاها من فرانكفورت أظهرت لي أن مقالاتي كانت تلقى كل التقدير والترحيب: 180)
(أن أكون عضواً عالماً في مثل تلك الصحيفة كان مصدر فخر واعتزاز لشاب في مثل سني ، وعلى الرغم من أن مقالاتي عن الشرق الأوسط قوبلت باهتمام شديد من قبل جميع المحررين إلا أن نصري الكامل تحقق في اليوم الذي كلفت فيه أن أكتب مقالاً افتتاحياً بالصحيفة عن مشكلة الشرق الأوسط) :182 ) .
(كان من نتائج عملي في جريدة “فرانكفورت ذيتونج” النضج المبكر لتفكيري الواعي ، كما نتجت عنه رؤية ذهنية أكثر وضوحاً من أي وقت مضى ، فبدأت في مزج خبرتي بالشرق بعالم الغرب الذي أصبحت جزءاً منه من جديد. منذ عدة شهور مضت اكتشفت العلاقة بين الاطمئنان النفسي والعاطفي السائد في نفوس العرب وعقيدة الإسلام التي يؤمنون بها ، كما بدأ يتبلور في ذهني أن نقص التكامل النفسي الداخلي للأوروبيين وحالة الفوضى اللاأخلاقية التي تسيطر عليهم قد تكون ناتجة من عدم وجود إيمان ديني وقد تكونت الحضارة الغربية في غيابه ، لم ينكر المجتمع الغربي الإله إلا أنه لم يترك له مكاناً في أنساقه الفكرية: 182).
بعد عودته إلى أوروبا من رحلته كان يحس بالملل إحساس من أجبر على التوقف قبل التوصل إلى كشف عظيم سيميط عن نفسه الحجب لو أتيح له مزيد من الوقت.
كان ليوبولدفايس يتوق إلى العودة إلى الشرق مرة أخرى ، وقد تحقق له ما أراد إذ أن رئيس تحرير الجريدة الدكتور هنري سيمون ـ الذي كان في ذلك الوقت مشهوراً في أرجاء العالم ـ قد رأي فيه مراسلاً صحفياً واعداً فوافق بحماس على عودته إلى الشرق الأوسط بسرعة.
عاد إلى الشرق ليقضي عامين آخرين بين مصر وبلاد الشام والعراق وإيران وأفغانستان ، عاد من أوروبا وفي ذهنه صورة عن عالم الغرب ظلت تزداد في ذهنه مع الأيام رسوخاً وثباتاً ، عبر عن هذه الصورة فيما يأتي: (حقاً إن الإنسان الغربي قد أسلم نفسه لعبادة الدجال ، لقد فقد منذ وقت طويل براءته ، وفقد كل تماسك داخلي مع الطبيعة ، لقد أصبحت الحياة في نظره لغزاً ، أنه مرتاب شكوك ولذا فهو منفصل عن أخيه ، ينفرد بنفسه ، ولكي لا يهلك في وحدته هذه فإن عليه أن يسيطر على الحياة بالوسائل الخارجية ، وحقيقة كونه على قيد الحياة لم تعد وحدها قادرة على أن تشعره بالأمن الداخلي ، ولذا فإن عليه أن يكافح دائماً وبألم في سبيل هذا الأمن من لحظة إلى أخرى ، وبسبب من أنه فقد كل توجيه ديني وقرر الاستغناء عنه فإن عليه أن يخترع لنفسه باستمرار حلفاء ميكانيكيين ، من هنا نما عند الميل المحموم إلى التقنية والتمكن من قوانينها ووسائلها ، أنه يخترع كل يوم آلات جديدة ويعطي كلا منها بعض روحه كيما تنافح في سبيل وجوده ، وهي تفعل ذلك حقاً ، ولكنها في الوقت نفسه تخلق له حاجات جديدة ، ومخاوف جديدة وظمأ لا يروي إلى حلفاء جدد آخرين أكثر اصطناعية ، وتضيع روحه في ضوضاء الآلة الخانقة التي تزداد مع الأيام قوة وغرابة ، وتفقد الآلة غرضها الأصلي ـ أي أن تصون وتغني الحياة الإنسانية ـ وتتطور إلى صنم بذاته ، صنم من فولاذ ، ويبدو أن كهنة هذا المعبود والمبشرين به غير مدركين أن سرعة التقدم التقني الحديث هي نتيجة ليس لنمو المعرفة الإيجابي فحسب بل لليأس الروحي أيضاً ، وأن الانتصارات المادية العظمى التي يعلن الإنسان الغربي أنه بها يستحق السيادة الطبيعية هي في صميمها ذات صفة دفاعية فخلف واجهتها البراقة يكمن الخوف من الغيب ، إن الحضارة الغربية لم تستطع حتى الآن أن تقيم توازنا بين حاجات الإنسان الجسمية والاجتماعية وبين أشواقه الروحية ، لقد تخلت عن آداب دياناتها السابقة دون أن تتمكن أن تخرج من نفسها أي نظام أخلاقي آخر ـ مهما كان نظرياً ـ يخضع نفسه للعقل ، بالرغم من كل ما حققته من تقدم ثقافي فإنها لم تستطع حتى الآن التغلب على استعداد الإنسان الأحمق للسقوط فريسة لأي هتاف عدائي أو نداء للحرب مهما كان سخيفاً باطلاً يخترعه الحاذقون من الزعماء… الأمم الغربية وصلت إلى درجة أصبحت معها الإمكانيات العلمية غير المحدودة تصاحب الفوضى العملية ، وإذا كان الغربي يفتقر إلى توجيه ديني حاذق فإنه لا يستطيع أن يفيد أخلاقياً من ضياء المعرفة الذي تسكبه علومه وهي لا شك عظيمة ، إن الغربيين ـ في عمى وعجرفة ـ يعتقدون عن إقتناع أن حضارتهم هي التي ستنير العالم وتحقق السعادة ، وأن كل المشاكل البشرية يمكن حلها في المصانع والمعامل وعلى مكاتب المحللين الاقتصاديين والإحصائيين ، إنهم بحق يعبدون الدجال:373).
في هذه الرحلة الثانية أمكنه أن يتقن اللغة العربية ولذلك فبدل أن ينظر إلى الإسلام بعين غيره من المستشرقين ومترجمي القرآن غير المسلمين صار في إمكانه أن ينظر إلى الإسلام في تراثه الثقافي كما هو ، لم يعد على اعتقاده السابق استحالة أن يتفهم الأوروبي بوعي العقلية الإسلامية ، أيقن أنه لو تحرر المرء تماماً من عاداته التي نشأ عليها ومناهجها الفكرية وتقبل مفهوم أنها ليست بالضرورة الأساليب الصحيحة في الحياة لأمكن أن يفهم ما يبدو غريباً في نظره عن الإسلام ، كانت فكرته عن الإسلام تتطور وتنمو طوال هذه الرحلة الثانية التي أمكنه فيها أن يختلط بالشعوب ويناقش العلماء ، ويتصل بالزعماء.
(كان التفكير في الإسلام يشغل ذهني إن الأمر بدا لي في ذلك الوقت إنه رحلة لاستكشاف ما أجهله من تلك المناطق ، كان كل يوم يمر يضيف إليّ معارف جديدة ويطرح أسئلة جديدة لأجد إجاباتها تأتي من الخارج جميعها أيقظت شيئاً ما كان نائماً في أعماقي وكلما نمت معارفي عن الإسلام كنت اشعر مرة بعد أخرى أن الحقائق الجوهرية التي كانت كامنة في أعماقي من دون أن أعي وجودها بدأت تنكشف تدريجياً ويتأكد تطابقها مع الإسلام:255).
كان اليقين ينمو في داخله يقترب من إجابة نهائية عن أسئلته بتفهمه لحياة المسلمين كان يقترب يومياً من فهم أفضل للإسلام ، وكان الإسلام دائماً مسيطراً على ذهنه (لا يوجد في العالم بأجمعه ما يبعث في نفسي مثل تلك الراحة التي شعرت بها والتي أصبحت غير موجودة في الغرب ومهددة الآن بالضياع والاختفاء من الشرق ، تلك الراحة وذلك الرضا اللذان يعبران عن التوافق الساحر بين الذات الإنسانية والعالم الذي يحيط بها: 238). بهذه الروح من التسامح تجاه الآخر استطاع بسهولة أن يتخلص من انخداع الرجل الغربي وإساءته فهم الإسلام بسبب ما يراه من تخلف وانحطاط في العالم الإسلامي.
(الآراء الشائعة في الغرب عن الإسلام ـ تتلخص ـ فيما يأتي:” انحطاط المسلمين ناتج عن الإسلام وأنه بمجرد تحررهم من العقيدة الإسلامية وتبنى مفاهيم الغرب وأساليب حياتهم وفكرهم فإن ذلك سيكون أفضل لهم وللعالم” ، إلا أن ما وجدته من مفاهيم وما توصلت إلى فهمه من مبادئ الإسلام وقيمه أقنعني أن ما يردده الغرب ليس إلا مفهوماً مشوهاً للإسلام … أتضح لي أن تخلف المسلمين لم يكن ناتجاً عن الإسلام ، ولكن لإخفاقهم في أن يحيوا كما أمرهم الإسلام .. لقد كان الإسلام هو ما حمل المسلمين الأوائل إلى ذراً فكرية وثقافية :243- 244).
(وفر الإسلام باختصار حافزاً قوياً إلى التقدم المعرفي والثقافي والحضاري الذي أبدع واحدة من أروع صفحات التاريخ الإنساني ، وقد وفر ذلك الحافز مواقف إيجابية عندما حدد في وضوح نعم للعقل ولا لظلام الجهل ، نعم للعمل والسعي ولا للتقاعد والنكوص ، نعم للحياة لا للزهد والرهبنة ، ولذلك لم يكن عجباُ أن يكتسب الإسلام أتباعاً في طفرات هائلة بمجرد أن جاوز حدود بلاد العرب ، فقد وجدت الشعوب التي نشأت في أحضان مسيحية القديس بولس والقديس أوجستين… ديناً لا يقر عقيدة ومفهوم الخطيئة الأولى. .. ويؤكد كرامة الحياة البشرية ولذلك دخلوا في دين الله أفواجاً ، جميع ذلك يفسر كيفية انتصار الإسلام وانتشاره الواسع والسريع في بداياته التاريخية ويفند مزاعم من روجوا أنه انتشر بحد السيف ، لم يكن المسلمون إذاً هم من خلقوا عظمة الإسلام ، بل كان الإسلام من خلق عظمة المسلمين ، وبمجرد أن تحول إيمانهم إلى عادة ، وابتعد أن يكون منهجاً وأسلوباً للحياة خبا وهج النبض الخلاق في تلك الحضارة وحل محلها تدريجياً التقاعس والعقم وتحلل الثقافة:246).
كان ذكاؤه الحاد ونفاذ بصيرته ونهمه إلى الإطلاع على التراث الفكري للمسلمين يعمق معرفته بالإسلام فيبصره على حقيقته (كانت صور نهائية متكاملة عن الإسلام تتبلور في ذهني ، كان يدهشني في أوقات كثيرة أنها تتكون داخلي بما يشبه الارتشاح العقلي والفكري أي إنها تتم من دون وعي وإرادة مني ، كانت الأفكار تتجمع ويضمها ذهني بعضها إلى بعض في عملية تنظيم ومنجهة لكل الشذرات من المعلومات التي عرفتها عن الإسلام ، رأيت في ذهني عملا عمرانيا متكاملاً تتضح معالمه رويداً رويداً بكل ما تحتويه من عناصر الاكتمال ، وتناغم الأجزاء والمكونات مع الكل المتكامل في توازن لا يخل جزء منه بآخر ، توازن مقتصد بلا خلل ، ويشعر المرء أن منظور الإسلام ومسلماته كلها في موضعها الملائم الصحيح من الوجود:381).
(كانت أهم صفة بارزة لحضارة الإسلام وهي الصفة التي انفردت بها عن الحضارات البشرية السابقة أو اللاحقة أنها منبثقة من إرادة حرة لشعوبها لم تكن مثل حضارات سابقة وليدة قهر وضغط وإكراه وتصارع إرادات وصراع مصالح ، ولكنها كانت جزءاً وكلاً من رغبة حقيقية أصيلة لدى جميع المسلمين مستمدة من إيمانهم بالله وما حثهم عليه من إعمال فكر وعمل ، لقد كانت تعاقداً اجتماعيا أصيلاً لا مجرد كلام اجوف يدافع به جيل تالٍ عن امتيازات خاصة بهم… لقد تحققت أن ذلك العقد الاجتماعي الوحيد المسجل تاريخياً تحقق فقط على مدى زمنى قصير جدا ، أو على الأصح أنه على مدى زمني قصير تحقق العقد على نطاق واسع ، بعد أقل من مائة سنة من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ الشكل النقي الاصيل للإسلام يدب فيه الفساد وفي القرون التالية بدأ المنهج القويم يزاح إلى الخلفية .. لقد حاول المفكرون الإسلاميون أن يحفظوا نقاء العقيدة إلا أن من أتوا بعدهم كانوا أقل قدرة من سابقيهم ، وتقاعسوا عن الاجتهاد.. وتوقفوا عن التفكير المبدع والاجتهاد الخلاق. كانت القوة الدافعة الأولى للإسلام كافية لوضعه في قمة سامية من الرقي الحضاري والفكري… وهذا ما دفع المؤرخين إلى وصف تلك المرحلة بالعصر الذهبي للإسلام ، إلا أن القوة الدافعة قد ماتت لنقص الغذاء الروحي الدافع لها وركدت الحضارة الإسلامية عصراً بعد عصر لافتقاد القوة الخلاقة المبدعة ، لم يكن لدي أوهام عن الحالة المعاصرة للعالم الإسلامي ، بينت الأعوام الأربعة التي قضيتها في مجتمعات إسلامية أن الإسلام ما زال حياً وأن الأمة الإسلامية أن الإسلام ما زال حياً وأن الأمة الإسلامية متمسكة به بقبول صامت لمنهجه وتعاليمه إلا أن المسلمين كانوا مشلولين غير قادرين على تحويل إيمانهم إلى أفعال مثمرة ، إلا أن ما شغلني أكثر من إخفاق المسلمين المعاصرين في تحقيق منهج الإسلام والإمكانيات المتضمنة في المنهج ذاته ، كان يكفيني أن أعرف أنه خلال مدى زمني قصير .. كانت هناك محاولة ناجحة لتطبيق هذا المنهج ، وما أمكن تحقيقه في وقت ما يمكن تحقيقه لاحقاً ، ما كان يهمني ـ كما فكرت في داخلي ـ أن المسلمين شردوا عن التعليمات الأصلية للدين… ما الذي حدث وجعلهم يبتعدون عن المثاليات التي علمهم أياها الرسول صلى الله عليه وسلم منذ ثلاثة عشر قرناً مضت ما دامت تلك التعليمات لا تزال متاحة لهم إن أرادوا الاستماع إلى ما تحمله من رسالة سامية؟ بدا لي كلما فكرت أننا نحن في عصرنا الحالي نحتاج إلى تعاليم تلك الرسالة أكثر من هؤلاء الذين عاشوا في عصر محمد صلى الله عليه وسلم ، لقد عاشوا في بيئات وظروف أبسط كثيراً مما نعيش فيه الآن ولذلك كانت مشكلاتهم أقل بكثير من مشكلاتنا.. العالم الذي كنت أحيا فيه ـ كله ـ كان يتخبط لغياب أي رؤية عامة لما هو خير وما هو شر.. لقد أحست بيقين تام..أن مجتمعنا المعاصر يحتاج إلى أسس فكرية عقائدية توفر شكلاً من اشكال التعاقد بين افراده ، وأنه يحتاج إلى إيمان يجعله يدرك خواء التقدم المادي من أجل التقدم ذاته ، وفي الوقت نفسه يعطي للحياة نصيبها ، إن ذلك سيدلنا ويرشدنا إلى كيفية تحقيق التوازن بين احتياجاتنا الروحية والبدنية ، وأن ذلك سينقذنا من كارثة محققة نتجه إليها بأقصى سرعة .. في تلك الفترة من حياتي شغلت فكري مشكلة الإسلام كما لم يشغل ذهني شيء آخر من قبل ، قد تجاوزت مرحلة الاستغراق الفكري والاهتمام العقلي بدين وثقافة غريبين ، لقد تحول اهتمامي إلى بحث محموم عن الحقيقة : 380-386).
لقد صار في إمكانه أن يميز بين ما هو الإسلام وما هو غريب عنه في تصورات المسلمين وسلوكهم ، في رحلته الأولى رأى حلقة ذكر يقيمها الصوفية في أحد مساجد {سكوتاري} في تركيا ويصفها بهذه العبارات (كانوا يقفون في محيط واحد فاستداروا في نصف دورة ليقابل كل واحد منهم الآخر أزواجاً ، كانوا يعقدون أذرعهم على صدورهم وينحنون انحناءة شديدة وهم يستديرون بجذوعهم في نصف دائرة .. في اللحظة التالية {كانوا } يقذفون أذرعهم في الاتجاه المعاكس الكف اليمنى ترتفع والكف اليسرى تنزل إلى الجانب ، وتخرج من حلوقهم مع كل نصف انحناءة واستدارة اصوات مثل غناء هامس “هو” ثم يطرحون رؤوسهم للخلف مغمضين أعينهم ويجتاج ملامحهم تقلص ناعم ، ثم تتصاعد وتتسارع إيقاعات الحركة وترتفع الجلاليب لتكون دائرة متسعة حول كل درويش مثل دوامات البحار.. تحولت الدائرة إلى دوامات ، اجتاحهم الانهماك وشفاههم تكرر بلا نهاية”هو ، هو” 251).
وفي الرحلة الثانية يتذكر حلقة الذكر هذه ويعلق عليها (اتضحت في ذهني معاني لم تبد لي عندما شاهدت حلقة الذكر {سكوتاري } ، كان ذلك الطقس الديني لتلك الجماعة ـ وهي واحدة من جماعات كثيرة شاهدتها في مختلف البلاد الإسلامية ـ لا يتفق مع صورة الإسلام التي كانت تتبلور في ذهني .. تبين لي أن تلك الممارسات والطقوس دخيلة على الإسلام من جهات ومصادر غير إسلامية ، لقد شابت تأملات المتصوفة وأفكارهم أفكار روحية هندية ومسيحية ، مما أضفى على بعض ذلك التصوف مفاهيم غريبة عن الرسالة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم ، أكدت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم أن السببية العقلية هي السبيل للإيمان الصحيح بينما تبتعد التأملات الصوفية وما يترتب عليها {من سلوك } عن ذلك المضمون ، والإسلام قبل أي شيء مفهوم عقلاني لا عاطفي ولا انفعالي ، الانفعالات مهما تكن جياشة معرضة للاختلاف والتباين باختلاف رغبات الافراد وتباين مخاوفهم بعكس السببية العقلية ، كما أن الانفعالية غير معصومة بأي حال: 253).
كتب بعد ذلك بسنوات: (لقد بدا لي الإسلام مثل تكوين هندسي محكم البناء ، كل اجزائه صيغت ليُكمل بعضها البعض وليدعم بعضها بعضا ، ليس فيها شيء زائد عن الحاجة وليس فيها ما ينقص عنها ، وناتج ذلك كله توازن مطلق وبناء محكم ، ربما كان شعوري بأن كل ما في الإسلام من تعاليم وضع موضعه الصحيح هو ما كان له أعظم الأثر علي ، لقد سعيت بجد إلى أن أتعلم عن الإسلام كل ما أستطيع أن أتعلمه ، درست القرآن وأحاديث النبي ، درست لغة الإسلام وتاريخه وقدراً كبيرا مما كتب عن الإسلام وما كتب ضده ، أقمت ست سنوات تقريباً في نجد والحجاز معظمها في مكة والمدينة بغرض أن أتصل مباشرة ببيئة الإسلام الأصلية ، وبما أن المدينتين كانتا مكان اجتماع المسلمين من مختلف الاقطار فقد تمكنت من الاطلاع على مختلف الآراء الدينية والاجتماعية السائدة حالياً في العالم الإسلامي ، وكل هذه الدراسات والمقارنات خلقت لدى اعتقاداً راسخاً أن الإسلام كظاهرة روحية واجتماعية لا يزال أقوى قوة دافعة عرفها البشر رغم كل مظاهر التخلف التي خلفها ابتعاد المسلمين عن الإسلام. (Islam At Crossroads ED. 1982 p 11-12 )
طوال العامين اللذين قضاهما في رحلته الثانية في العالم الإسلامي كان بعقله ومعلوماته يتقدم بسرعة في الطريق إلى الإسلام لقد وعى ذلك وهو يعدو بجواده فوق جبال إيرانية مغطاة بالثلج الأبيض (بدا العالم كله مبسوطاً أمامي في رحابية لا تنتهي بدا شفافاً في عيني كما لم يبد من قبل ، رأيت نمطه الداخلي الخفي ، وأحسست بنبضه الدفين في تلك الأصقاع البيضاء الخالية ، واندهشت من خفاء ذلك علي منذ دقيقة مضت وأيقنت أن كل الأسئلة التي تبدو بلا إجابة ماثلة أمامنا في انتظار أن ندركها ، بينما نحن ـ الحمقى المساكين ـ نطرح الأسئلة وننتظر أن تفتح الأسرار الإلهية نفسها لنا بينما تنتظر تلك الأسرار أن نفتح نحن أنفسنا لها ، مر أكثر من عام بين انطلاقي المجنون على جوادي فوق الجليد والبرد قبل أن اعتنق الإسلام ، ولكن حتى في ذلك الوقت قبل إسلامي كنت انطلق ـ دون أن أعي ذلك ـ في خط مستقيم كمسار السهم المنطلق بإتجاه مكة المكرمة:574-275).
(كنت في طريقي من مدينة هراة إلى مدينة كابل.. توجهنا إلى قرية ده زانجي جلسنا في اليوم التالي حول غداء وافر كاالمعتاد {في بيت الحاكم} وبعد الغداء قام رجل من القرية بالترفيه عنا..
غنى على ما أذكر عن معركة داود وجالوت ، عن الإيمان عندما يواجه قوة غاشمة .. علق الحاكم في نهاية الأغنية قائلاً: ” كان داود صغيراً إلا أن إيمانه كان كبيراً” فلم أتمالك نفسي وقلت بإندفاع : ” وأنتم كثيرون وإيمانكم قليل” نظر مضيفي مندهشاً فخجلت مما قلت من دون أن أتمالك نفسي وبدأت بسرعة في توضيح ما قلت واتخذ تفسيري شكل أسئلة متعاقبة كسيل جارف ، قلت (( كيف حدث أنكم معشر المسلمين فقدتم الثقة بأنفسكم تلك الثقة التي مكنتكم من نشر عقيدتكم في أقل من مائة عام حتى المحيط الأطلسي.. وحتى أعماق الصين ، والآن تستسلمون بسهولة وضعف إلى أفكار الغرب وعاداته؟ لماذا لا تستجمعون قوتكم وشجاعتكم لإستعادة إيمانكم الفعلي ، كيف يصبح أتاتورك ذلك المتنكر التافه الذي ينكر كل قيمة للإسلام ، رمزاً لكم في الإحياء والنهوض والإصلاح؟)).
ظل مضيفي صامتاً .. كان الثلج قد بدأ في التساقط خارجاً ، وشعرت مرة أخرى بموجة من الأسى مختلطة مع تلك السعادة الداخلية التي شعرت بها ونحن نقترب من ده زانجي أحسست بالعظمة التي كانت عليها الأمة ، وبالخزي الذي يغلف ورثتها المعاصرين . اردفت مكملاً أسئلتي ” قل لي كيف دفن علماؤكم الإيمان الذي أتى به نبيكم بصفائه ونقائه؟ كيف حدث أن نبلاءكم وكبار ملاك أراضيكم يغرقون في الملذات بينما يغرق أغلب المسلمين في الفقر .. مع أن نبيكم علمكم أنه لا يؤمن أحدكم أن يشبع وجاره جائع؟ هل يمكن أن تفسر لي كيف دفعتم النساء إلى هامش الحياة مع أن النساء في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة ساهمن في شئون حياة أزواجهن؟ كان مضيفي ما زال يحملق فيّ دون كلمة ، وبدأت اعتقد أن انفجاري ربما سبب له ضيقاً ، في النهاية جذب الحاكم ثوبه الأصفر الواسع وأحكمه حول جسمه… ثم همس ” ولكن أنت مسلم” ضحكت وأجبته كلا لست مسلماً ولكني رأيت الجوانب العظيمة في رسالة الإسلام مما يجعلني أشعر بالغضب وأنا أراكم تضيعونه ، سامحني إن تحدثت بحدة ، أنا لست عدوا على أي حال ” إلا أن مضيفي هز رأسه قائلاً : ” كلا أنت كما قلت لك مسلم إلا أنك لا تعلم ذلك ، لماذا لا تعلن الآن هنا : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وتصبح مسلماً بالفعل بدلاً من أن تكون مسلماً بقلبك فقط “قلت له : ” لو قلتها في أي وقت فسأقولها عندما يستقر فكري عليها ويستريح لها ” استمر إصرار الحاكم : ولكنك تعرف عن الإسلام أكثر مما يعرفه أي واحد منا ، ما الذي لم تعرفه أو تفهمه بعد؟” قلت له : ” الأمر ليس مسألة فهم بل أن أكون مقتنعاً ، أن أقتنع أن القرآن الكريم هو كلمة الله ، وليس ابتداعاً ذكياً لعقلية بشرية عظيمة ” ولم تمح كلمات صديقي الأفغاني من ذهني على مدى شهور طويلة:375-376).
بعد شهور من هذه الحادثة كان ينطق بالشهادة أمام رئيس رابطة المسلمين في برلين كان قد رجع إلى أوروبا من رحلته الثانية التي استغرقت عامين من التجوال في العالم الإسلامي فعرف أن اسمه أصبح من الأسماء المعروفة… وأنه أصبح واحداً من أشهر مراسلي الصحف وسط أوروبا ، بعض مقالاته لقيت ما يفوق الاعتراف بأهميتها ، وتلقى دعوة لإلقاء سلسلة من المحاضرات في أكاديمية الجغرافيا السياسية في برلين ، ولم يحدث كما قيل له أن رجلاً في مثل سنه (السادسة والعشرين) قد حقق ذلك التميز ، وأعيد نشر مقالاته الأخرى في صحف كثيرة حتى أن واحدة من تلك المقالات نشرت في ثلاثين مطبوعة مختلفة.
ولكن بعد عودته واتصاله من جديد بأصدقاء الفكر والثقافة في برلين ومناقشته معهم قضية الإسلام ، أحس أنه وإياهم لم يعودوا يتحدثون من المنطلقات الفكرية نفسها ، شعر بأن من يرون منهم أن الأديان القديمة أصبحت شيئاً من الماضي وهم الأغلبية ومن كانوا لا يرفضون الأديان رفضاً كلياً ، كانوا كلهم يميلون بلا سبب إلى تبنى المفهوم الغربي الشائع الذي يرى أن الإسلام يهتم بالشئون الدينية وتنقصه الروحانيات التي يتوقع المرء أن يجدها في أي دين ( ما أدهشني بالفعل أن اكتشف أن ذلك الجانب من الإسلام هو ما جذبني إليه من أول لحظة وهو عدم الفصل بين الوجود المادي والوجود الروحي للبشر ، وتأكيد السببية العقلية سبيلاً للإيمان ، وهو الجانب ذاته الذي يعترض عليه مفكروا أوروبا ، الذين يتبنون السببية العقلية منهجاً للحياة ، ولا يتخلون عن ذلك المنهج العقلاني إلا عندما يرد ذكر الإسلام ، لم أجد أي فرق بين الأقلية المهتمة بالأديان والأغلبية التي ترى أن الدين أصبح من المفاهيم البالية التي عفا عليها الزمن ، أدركت مع الوقت مكمن الخطأ في منهج كل منهما ، أدركت أن مفاهيم من تربوا في أحضان الأفكار المسيحية في أوروبا .. تبنوا مفهوماً يسود بينهم جميعاً فمع طول تعود أوروبا نسق التفكير المسيحي تعلم حتى اللادينيين أن ينظروا إلى أي دين آخر من خلال عدسات مسيحية فيرون أي فكر ديني صالحاً لأن يكون ديناً إذا غلفته مسحة غامضة خارقة للطبيعة تبدو خافية وفوق قدرة العقل البشري على استيعابها ، ومن منظورهم لم يف الإسلام بتلك المتطلبات .. كنت أوقن بأني في طريقي إلى الإسلام وجعلني تردد اللحظة الأخيرة أؤجل الخطوة النهائية التي لا مفر منها، كانت فكرة اعتناق الإسلام تمثل لي عبور قنطرة فوق هاوية تفصل بين عالمين مختلفين تماماً قنطرة طويلة حتى أن المرء عليه أن يصل إلى نقطة اللاعودة أولاً قبل أن يتبين الطرف الآخر للقنطرة ، كنت أعي أني لو اعتنقت الإسلام لاضطررت إلى خلع نفسي نهائياً من العالم الذي ولدت فيه ونشأت فيه ، لم تكن هناك حلول أخرى ، فلم يكن ممكنا لأمرئ مثلي أن يتبع دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ويظل محتفظاً بروابطه مع مجتمع يتصف بثنائية المفاهيم المتعارضة والمتناقضة ، كان سؤالي الأخير الذي كنت متردداً أمامه هو : هل الإسلام رسالة من عند الله أم أنه حصيلة حكمة رجل عظيم:287-289).
ولم يمكث غير بعيد حتى جاءت الإجابة ، لقد اتصل من جديد بحياة الغرب مباشرة ورأى مبلغ التعاسة والشقاء الذي يعانيه الغربيون ولكنهم لا يعونه أو لا يعون سببه ، كان في القطار مع زوجته ، وشغل نفسه بالتطلع إلى وجوه الناس (بدأت أتطلع حولي إلى الوجوه.. كانت جميعاً وجوهاً تنتمي إلى طبقة تنعم بلبس ومأكل جيدين ولكنها كانت تشي بتعاسة داخلية عميقة ومعاناة واضحة على الملامح تعاسة عميقة حتى أن أصحابها لم يدركوا ذلك.. كنت أوقن بأنهم غير واعين وإلا لما استمروا في إهدار حياتهم على هذا المنوال من دون أي تماسك داخلي ومن دون أي هدف أسمى من مجرد تحسين معيشتهم ومن دون أمل يزيد على الاستحواذ المادي الذي من الممكن أن يحقق لهم مزيداً من السيطرة:290).
جاءت الإجابة حين قرأ القرآن فور عودته إلى بيته – وكانت التجربة التي مر بها في القطار لا تزال حية في تفكيره –
(وقفت لحظات مشدوهاً وأنا أحبس أنفاسي وأحسست أن يدي ترتجفان ….. لقد كان القرآن يتضمن الإجابة إجابة حاسمة قضت على شكوكي كلها وأطاحت بها بلا رجعة ، أيقنت يقيناً تاماً أن القرآن … من عند الله :291).
بعد إسلامه بست سنوات كان يقطع الصحراء الكبرى قادماً من “قصر عثيمين” على الحدود السعودية العراقية وقاصداً مكة ، كانت رحلة مليئة بالمفاجأة والمغامرة لقد أشرف فيها على الموت.
وكتب كتابه ” الطريق إلى مكة” يقص فيه التفاصيل المثيرة لهذه الرحلة ويقص معها تفاصيل رحلة أخرى رحلة روحه إلى مكة، رحلتها إلى الإسلام. كل ما سبق من معلومات واقتباسات أخذت من هذه القصة الرائعة.
المقال من إعداد اللجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء