لم يقم الإسلام على البيان وحده بل أقام سلطاناً ودولة في المدينة المنوّرة تسلّم قيادتها الرسول صلى الله عليه وسلم، ثمّ تولّى رئاستها الخلفاء الراشدون، ثم تلاهم الأمويّون والعباسيّون والمماليك والعثمانيّون، ثم أسقط كمال أتاتورك الدولة الإسلامية وألغى الخلافة الإسلامية في عام 1924م.
لقد شكّل إلغاء الخلافة ضربة قاضية للأمّة، وأصبحت الأمّة بلا خليفة ولا دولة، وقد استغلّ هذا الإلغاء علي عبد الرازق وألّف كتاباً تحت عنوان: “الإسلام وأصول الحكم” ليدّعي أنه ليس هناك نظام حكم في الإسلام، وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم رجل دعوة وليس رجل مُلْك، وأنّ الخلافة اجتهاد شخصي من الخلفاء، وقد استدعى كتاب علي عبد الرازق ردوداً متعدّدة، والأهمّ من ذلك أنّ معظم الحركات التي قامت في العالم الإسلامي استهدفت الدولة الإسلامية في برامجها، وقدّمت التضحيات في سبيل ذلك، والواضح أنّ هذا الهدف لم يتحقّق، وللأسف استغلّ بعض الكتّاب هذا الفشل ليهوّن من شأن قيمة الدولة في المنهج الإسلامي فاعتبرها من الفروع وليست من الأصول، وهم واهمون في هذا لأنّ الفقهاء وعلماء أصول الدين أجمعوا على وجوب تنصيب الإمام وعلى وجوب الحكم بشرع الله، وأبرز ما يدلّ على ذلك اشتغال الصحابة باختيار أبي بكر الصدّيق في سقيفة بني ساعدة خلفاً للرسول صلى الله عليه وسلم قبل الاشتغال بدفنه مع وجوب ذلك، والسؤال الذي يرد هو: لماذا لم يتحقّق هدف إقامة الدولة الإسلامية؟ هناك عدّة أسباب أبرزها:
الأول: عدم تقويم التجارب الإسلامية المعاصرة من أجل البناء على الصواب فيها:
واجهت الأمة الإسلامية خلال المائتي سنة أعداء شرسين حاولوا تمزيق وحدتها، وطمس هويتها، ونهب اقتصادها، وتغريب مجتمعها، والتشكيك في ثوابت وجودها إلخ… وقد تصدى لهؤلاء الأعداء علماء مخلصون، قادوا جموعاً كثيرة من أبناء الأمة في معركة المواجهة، ونجحوا في جوانب من المعركة وفشلوا في بعضها الآخر، لكننا بكل أسف لا نجد رصداً لكل هذه المعارك والجهود، وإن وجدنا فإننا لا نعثر على تقويم دقيق وعميق لكل هذه المعارك والجهود من أجل معرفة أخطاء العلماء والجماعات وتجنبها، ومعرفة إصاباتههم والبناء عليها.
وخير مثال على الكلام السابق تجربة الجهاد الأفغاني في مواجهة الاحتلال الشيوعي التي استغرقت عدّة سنوات، وساهمت فيها معظم الشعوب الإسلامية والحركات الإسلامية، وأنفقت فيها أموالاً كثيرة، وسالت فيها أنهار من الدماء، ومع ذلك فإن الكتب التي قوّمت تلك التجربة محدودة جداً، وليست في المستوى المناسب، مع أنه يفترض أن تتحدّث عنها وتقوّمها وتعالجها مئات الكتب، تعالج مختلف جوانب تلك التجربة من الناحية الشرعية والمالية والتنظيمية والسياسية والعسكرية إلخ…، وتحدّد سلبيّات وإيجابيّات تلك الجوانب من أجل البناء عليها في حاضر الأمّة الإسلامية ومستقبلها.
الثاني: إشكالية الجانب الجماعي:
يعاني المسلم المعاصر إشكالية في التزامه الجماعي، ويعود ذلك إلى اضطراب الفقه الإسلامي المعاصر حول شرعيّة ارتباط المسلم المعاصر بجماعة إسلامية ما: هل هو فرض؟ أم مندوب؟ أم متروك لأهواء المسلم وظروفه؟ أم بحسب مصالح ومفاسد معيّنة؟ أم حرام؟ إلخ…
ربما كان الاضطراب ناتجاً من أنّ المسلمين يواجهون لأول مرّة في تاريخهم انفراط جماعة المسلمين التي كانوا ينتمون إليها ويرتبطون بإمامها الذي هو الخليفة، وأنّ الفقه الإسلامي حرّم أيّ خروج على جماعة المسلمين، وحرّم تشكيل أيّة جماعة أخرى تؤدّي إلى تمزيق جماعة المسلمين، وإنّ قيام بعض الفقهاء بسحب هذه الأحكام الفقية التي كانت تعالج واقعاً مختلفاً على الواقع المعاصر يزيد في بلبلة المسلم المعاصر واضطرابه في اختيار الجواب.
لم تُلق الجماعات الإسلامية الأضواء على الإشكال السابق، ولم تعط الجواب الشرعي المناسب حتى الآن، حتى يصبح انتماء المسلم إلى الجماعة المسلمة واجباً شرعياً وليس قضية شخصية وليس حراماً، وإلى أن تجد الجماعات الإسلامية حلاًّ شرعياً لهذا السؤال وتوجد المناخ الفقهي المعاكس لما هو شائع حاليّاً، ستبقى الجماعات الإسلامية تعاني هشاشة في جماهيريّتها.
الثالث: القصور في مجال تحديد نظرية التغيير الإسلامية:
تتخبّط الحركات الإسلامية في خطوات عملها التغييري، فهي حيناً تعمل بالأساليب العلنية، وإذا بها فجأة تنقلب إلى السرية، وحيناً تكون تعمل بأساليب سلميّة، فإذا بها تنقلب إلى الأخذ بأساليب القوة والعنف من أجل تحقيق التغيير، وحيناً تجتهد في بناء المؤسسات، وحيناً آخر تهمل المؤسسات وتلتفت إلى بناء الإنسان على أساس أنه عماد التغيير، وأحياناً تمدّ يدها إلى الحكّام، وأحياناً تقبض يدها وتعاديهم، إنّ هذا التقلّب والانقلاب عائد إلى أنّ هذه الحركات لم تحدّد نظريّتها في التغيير، ولم تُبلور رأياً في كيف يكون التغيير؟ وما هي مراحله؟ وبمن يبدأ؟ ثمّ فيمن يثنّي؟ وما الذي نقوله للناس الآن وما الذي نؤجّل قوله؟ ومن الذي نركّز الهجوم عليهم؟ ومتى يكون التبشير؟ ومتى يكون الإنذار؟ وكيف يجب أن يكون موقفنا من الحكّام؟ إلخ…
ليس من شكّ بأنّ الإسلام يملك أحكَم وأصوب نظرية في التغيير فهذا دَأْب الرسل والأنبياء، وهو هدف الصالحين، وقد بيّن القرآن الكريم هذه النظرية أوضح تبيين وفصّلتها سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن تفصيل. إنّ بلورة هذه النظرية ووضعها بشكل واضح أمام الدعاة العاملين في مسار التغيير يبعد الحركة الإسلامية عن الاضطراب والتخبّط ويجعلها تحقّق أهدافها في أقلّ التضحيات الممكنة وأسرع الأوقات المطلوبة، وهذا ما قصَّرَت فيه إلى الآن مما جعلها تخسر كثيراً من الجهود والأوقات.
الرابع: القصور في وعي تفصيلات تطوّر الحضارة الغربية:
مازالت الحضارة الغربية تمثل التحدي الأكبر لأمتنا كما كانت على مدار القرنين الماضيين، ويقتضي ذلك وعي أسسها التي قامت عليها وعياً تفصيلياً، ووعي تطوراتها، أما وعي أسسها فقد حقق علماؤنا جانباً كبيراً من هذا في مطلع القرن الماضي، ولكن الصحوة الإسلامية مطالبة بوعي تطوراتها العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والسياسية إلخ…، والاستفادة من إيجابياتها لتسديد مسيرة الأمة في مجال الإدارة والاقتصاد والاجتماع والسياسة إلخ…، ومما يصعّب القيام بهذه المهمة حجم المعلومات التي تطرحها الحضارة الغربية، والتي تتضاعف بشكل مذهل بسبب تقنيات الكمبيوتر المتقدمة، ولكننا نجد بكل أسف أن الصحوة الإسلامية لم تقدم إنجازات حقيقية في مجال تطورات الحضارة الغربية، بل مازال ينقصها الكثير.