لماذا لم تتطور العلوم الإسلامية خلال القرنين الماضيين؟

يلاحظ الدارس أن العلوم الإسلامية المرتبطة بالقرآن الكريم والسنة المشرفة واللغة العربية لم تتطور ولم تنم ولم تتجدد خلال القرنين الماضيين، علماً بأنها شهدت تطورات مستمرة خلال القرون العشرة الأولى.

ويمكن أن نمثّل على ذلك بعلم أصول الفقه الذي نشأ نشأة إسلامية بحتة استجابة لحاجات الساحة الفقهية عندما استقطبهما مذهبان:

الأول: أصحاب الرأي.

الثاني: أصحاب الحديث.

فجاء علم أصول الفقه الذي ابتكرته عبقرية الشافعي لينظّم العلاقة بين الرأي والحديث ضمن أصول وقواعد فقهية، ويقنّن عملية القياس فيجعل لها أركاناً هي: الأصل والفرع والعلة والحكم.

ثم تطور البحث في القياس عند الغزالي إلى تعليل الأحكام بشكل عام، ثم قاد تعليل الأحكام إلى علم مقاصد  الشريعة عند الشاطبي، ومازال علم مقاصد الشريعة بكراً ينتظر تطويراً في أكثر من اتجاه ومجال.

        كانت هناك فرصة كبيرة لتطور العلوم الإسلامية خلال القرنين الماضيين بسبب العلوم الكثيرة التي أفرزتها الحضارة الغربية في مجال اللسانيات ومناهج البحث ومجال دلالات الألفاظ إلخ….

وكان أقصى ما قام به العلماء الباحثون خلال الفترة الماضية جمع كتب التراث، وتحقيق مخطوطاتها، وطباعتها، فما السبب الذي أدى إلى هذا الوضع؟ ولماذا أضاعت الأمة تلك الفرصة في التطوير؟

        هناك عدة أسباب أبرزها انقسام التعليم في القرن التاسع إلى نوعين من التعليم هما: التعليم المدني والتعليم الديني، وقاد ذلك الانقسام إلى وجود نوعين من المدارس تهتم إحداها بالعلوم العصرية من مثل الفيزياء والكيمياء والرياضيات إلخ…، والأخرى بالعلوم الشرعية من مثل الفقه والعقيدة والسيرة إلخ….

وأدى ذلك الانفصام إلى جمود العلوم الشرعية لابتعادها عن منابع التطور العلمي والعقلي، ومن المعروف ترابط العلوم مع بعضها في تاريخنا السابق، فكنت ترى العلوم الشرعية مرتبطة بالعلوم التجريبية والنظرية والعقلية، يؤثر كل منهما بالآخر، فقد ولّدت الحاجة إلى معرفة أوقات الصلاة، والحاجة إلى تحديد اتجاه القبلة في المساجد إلى أن يكون هناك ميقاتي في كل مسجد ومدينة وقرية يزاوج بين العلوم الشرعية والعلوم الفلكية من أجل القيام بالمهمة السابقة.

وكذلك ولّدت الحاجة إلى توزيع الميراث بين الوارثين إلى الجمع بين علم الفرائض الشرعي وعلم الجبر العقلي، كذلك تطلب جمع أموال الخراج من الفلاحين إلى الجمع بين الأنصبة الشرعية المطلوبة وعدة علوم كالهندسة والرياضيات من أجل توزيع المياه وحساب المحاصيل.

        لم يكن الجمع بين العلوم العقلية والنقلية فقط على مستوى حاجات الفرد المسلم وحاجات المجتمع المسلم بل كان أيضاً على مستوى العالِم ذاته.

فكنت ترى العالِم المسلم يجمع بين الكتابة في التفسير والفقه والأصول والتاريخ والسير والبلاغة والبيان، وبين الكتابة في الفلك والطب والتشريح والأدوية والنبات.

وقد كان الجمع بين العلوم النقلية والعقلية ليس على المستويين السابقين فقط إنما على مستوى ثالث هو مستوى المكان، فكان الجامع يجمع في أروقته العلوم العقلية والنقلية.

لذلك اشتهرت جوامع في العالم الإسلامي كانت محجة لطلاب العلم في العلوم الشرعية والعلوم العقلية كالجامع الأزهر وكجامع الزيتونة وجامع القيروان.

وكانت هناك مدارس تجمع بين العلوم العقلية والنقلية أسسها بعض المصلحين لأغراض معينة مثل المدارس النظامية التي أسسها نظام الملك السلجوقي لمواجهة الدعوة الفاطمية في القرن الخامس الهجري وأبرزها:

المدرسة النظامية في بغداد والمدرسة النظامية في نيسابور التي تخرج منها أبو حامد الغزالي ليصبح رئيساً للجامعة النظامية في بغداد، وكانت تلحق مراصد فلكية ومستشفيات ومكتبات ببعض الجوامع أو المدارس.

        إن ذلك التقسيم للعلوم إلى علوم شرعية وعلوم مدنية عدا أنه كان منافياً ومخالفاً لمسيرة العلوم خلال القرن السابقة على مستوى البنية الداخلية للعلوم وعلى مستوى العلماء وعلى مستوى الجوامع والمدارس، كان ضربة قاسمة للعلوم الشرعية من ناحية قلة إقبال الناس عليها.

فقد ربطت الدولة الوظائف والمناصب بالعلوم المدنية، وكان هذا عاملاً رئيسياً في جعل جماهير الناس ينصرفون عن المدارس الدينية ويقبلون على المدارس المدنية طلباً للعيش والرزق وهذا أمر طبيعي، وهم معذورون في جانب كبير منه.

كانت الأوقاف التي شغلت ثلث ثروة العالم الإسلامي مدداً رئيسياً لطلاب العلم، وللكتاتيب في القرى والمدن، والمدارس الملحقة بالجوامع أو المستقلة عنها، وللمكتبات، وللمراصد الفلكية، وللمستشفيات والصيدليات إلخ….

ثم استولت الدولة في إستانبول والقاهرة على الأوقاف في النصف الأول من القرن التاسع، فقد استولى محمد علي باشا على الأوقاف في مصر بحجة أن الدولة ستنفق على المدارس والمساجد من ميزانيتها، وقد وقع الاستيلاء على هذه الأوقاف – في الوقت نفسه – الذي انقسم التعليم إلى ديني شرعي ومدني عصري. إن إيقاف المدد المالي عن طلاب العلم وعن المدارس الكتاتيب والجوامع والمكتبات أفقد العلوم الشرعية عاملاً من عوامل نموّها وتوسّعها.

لقد لعب عاملان في إضعاف حال العلوم الشرعية:

الأول: انقسام المدارس إلى مدارس دينية ومدارس مدنية، مما جعل جماهير الناس ينصرفون عن المدارس الدينية ويقبلون على المدارس المدنية رغبة في الأخذ بأسباب العيش من جهة، ومما جعل العلوم الإسلامية لا تستفيد من تطور بعض العلوم المشابهة في الغرب من جهة ثانية.

الثاني: استيلاء الدولة على الأوقاف مما صرف قسماً من الأموال التي كانت تنفق على المدارس وعلى الطلاب مما أفقد العلوم الشرعية عاملاً من عوامل استقلالها، وعاملاً من عوامل مساعدتها على النمو والتطور.

 

اترك رد