إن أي بحث في المدى الذي أحرزته الأمة في تحقيق أهدافها في النهضة أو عدم تحقيقها خلال القرن الماضي يجب أن يتجه إلى تفحص بنية الفكر القومي العربي وآليات عمله، لأن نظرياته وآراءه هي التي سادت المنطقة وهي التي قادتها وهي التي رسمت سياساتها التربوية والاقتصادية والاجتماعية إلخ…
إن رائد الفكر القومي هو ساطع الحصري وهو الذي أثرت نظرياته وأقواله وآراؤه في كل الحركات القومية التي قامت بعد ذلك بصورة من الصور، لذلك يجب أن يتجه البحث إلى أفكار ساطع الحصري القومية عند البحث في أوضاع المنطقة ونجاحات نهضتها أو فشلها.
تحتل الأمة مركزاً جوهرياً في أدبيات الفكر القومي وقد اعتبر ساطع الحصري الأمة تتكون من عنصرين هما اللغة والتاريخ، واعتبر أن اللغة روح الأمة وحياتها وأن التاريخ ذاكرتها وشعورها، فهل كانت الأمة الموجودة آنذاك عند قيام الفكر القومي بدعوته مرتكزة على هذين العاملين فقط: اللغة والتاريخ؟ لقد كانت الأمة الموجودة آنذاك أمة ترتكز على عاملي اللغة والتاريخ بالإضافة إلى عامل آخر أساسي هو الدين الإسلامي، وربما يكون العاملان: اللغة والتاريخ نتيجة لعامل الدين الإسلامي.
إن نظرة متفحصة متأنية موضوعية إلى واقع المنطقة في القرن التاسع عشر يقول إن الدين الإسلامي كان عاملاً رئيسياً في تشكيل الأمة التي كانت تسكن المنطقة العربية ، فهو الذي وحّد عاداتها وتقاليدها انطلاقاً من شرائعه ، ووحّد تاريخها الذي دار حول انتصارات المسلمين وهزائمهم ، ووحّد مقاييسها الاجتماعية والأدبية في الواجب والحلال والحرام انطلاقاً من قيمه، ووحّد ثقافتها في النظرة إلى الكون والإنسان والحياة انطلاقاً من أفكاره ، ووحّد حضارتها وجعلها تقوم على التوحيد وعلى إعمار الدنيا والتطلع إلى الآخرة انطلاقاً من عقائده ، ووحّد اقتصادها الذي يقوم على تشجيع الكسب الحلال وعدم الإسراف في الإنفاق وتحريم الربا ووجوب أداء الزكاة انطلاقاً من أحكامه ، ووحّد لغتها فكانت العربية هي لغتها في العبادة والمعاملة والتأليف انطلاقاً من قرآنه ، ووحّد مخيالها الذي اتجه إلى تعظيم الرسول والصحابة والقادة الفاتحين إلخ…
طرح الحصري في بعض كتاباته الشعوبية قديماً وقيام بعض المنازعات بين الترك والعرب في القرن التاسع عشر حديثاً دليلين على عدم صلاحية الدين لأن يكون عنصراً رئيسياً في تكوين الأمة ، أما الشعوبية فهي تدل على موقف فئة من رعايا الخلافة الإسلامية نحو الأمة الإسلامية لكن هذا لا ينفي أن بقية الأمة كانت موحدة في عقائدها وأفكارها وعاداتها وتقاليدها وأخلاقها وثقافتها وحضارتها ولغتها وتاريخها وأرضها وإرادتها التي تستمدها من الدين الإسلامي ، أما فيما يتعلق ببعض المنازعات بين العرب والترك فهذا أمر طبيعي في كل مجتمع حتى ولو كان عربياً كله أو تركياً كله ، وكانت تلك المنازعات تجد أُطُراً لحلّها كما حدث في الاتفاق الأخير بين هيئة الاتحاد والترقي التركية وبين هيئة الشبيبة العربية غداة الحرب العالمية الأولى والذي نص على أداء العرب للخدمة العسكرية الإجبارية في ولاياتهم ، وزيادة نسبة المسؤولين العرب في الدوائر العليا ، وفي إصلاح إدارة الولايات وفق ما يقتضيه نظام اللامركزية إلخ… ولكن هذا لا ينفي دور الدين الإسلامي في إيجاد لحمة بين العرب والأتراك خلال تعايشهم مع بعضهم لقرون سابقة ، ويؤكد ذلك اعتراف ساطع الحصري في كتابه السابق “محاضرات في نشوء القومية” أن السواد الأعظم من العرب كان مرتبطاً بالدولة العثمانية ، متكلاً عليها ، مستسلماً لها ، ومعتبراً الخلافة ممثلاً له .
لم يقف ساطع الحصري في كتاباته القومية عند إغفال عامل الدين الإسلامي من تشكيل أمتنا بل تعداه إلى نفي أن يكون الدين عاملاً من عوامل تشكيل الأمة وهو في ذلك كان يقرأ الواقع الأوروبي الذي لم يشكّل الدين منه عاملاً من عوامل بناء الأمة عنده، وكان الواجب عليه أن يتفحص واقعنا ومفرداته دون أن ينظر عليه بعين أخرى أو يسقط عليه واقعاً آخر، إذا فعل ذلك فسيرى أن الدين عامل رئيسي في تشكيل الأمة التي كانت تسكن المنطقة العربية.
إن إغفال الدين الإسلامي كعامل في بناء الأمة جعل الفكر القومي فكراً بعيداً عن واقع الأمة، وجعله فكراً نخبوياً لا تتجاوب الأمة معه، لذلك كان عدد أعضاء حزب البعث 150 شخصاً عندما قادوا انقلاب عام 1968م في العراق، ووصل أعضاء حركة القوميين العرب إلى مائة عضو في جميع العالم العربي بعد عشر سنوات من بداية عملهم، وهي أرقام تدل على قلّة تجاوب الأمة مع هذا الفكر.
لم يقف الفكر القومي العربي في مرحلة الاشتراكية التي بدأت في الستينات والتي زاوج فيها بين القومية والاشتراكية عند نفي كون الدين عاملاً من عوامل بناء الأمة، بل انتقل إلى مرحلة أبعد هي الدعوة إلى اتهام الدين الإسلامي بأنه أساس التخلف وسبب الجمود والانحطاط وأنه العقبة أمام النهضة لذلك لا بد من محاربته وإبعاده وتحطيم البنى الاجتماعية المتصلة به من أجل أن يتحقق التقدم في المجتمع العربي.
إن عدم اعتراف الفكر القومي العربي بالدين الإسلامي كعامل من عوامل بناء الأمة ، ونفيه إمكانية أن يكون الدين بالأصل عاملاً من عوامل بناء الأمة ، ثم اتهامه للدين الإسلامي في مرحلة الاشتراكية بأنه سبب جمود الأمة وانحطاطها ، كانت له نتائج متعددة، منها : أنه أقام فجوة كبيرة بينه وبين جماهير الأمة ، وجعله يغفل عن كثير من خصائص الأمة وصفاتها ومكامن القوة والضعف فيها ، وجعله لا يعالج مشاكلها معالجة صحيحة ، ولا يحسن مخاطبتها خطاباً مناسباً ، إن كل ذلك وغيره أدى إلى عجز قيادات الفكر القومي العربي عن تحقيق أهداف الأمة النهضوية في الوحدة والاستقلال والرفاه والمشاركة في البناء الحضاري ، بل على العكس جعلها تكرس التجزئة والقطرية ، وجعلها تقع فريسة التغريب بدلاً من صياغة النموذج الخاص بالأمة في مختلف مجالات الحياة ، وجعلها تفشل في تعبئة الأمة التعبئة الصحيحة ليكون في مقدورها التغلب على الخطر الصهيوني وصد خطره الداهم ، وجعلها تفشل في إطلاق طاقات الأمة العلمية والإبداعية ليكون لها دورها في البناء الحضاري للبشرية ، وجعلها لا تنجح في بناء الاقتصاد البناء الذي يجعل الأمة غنية عن مدّ يدها إلى المعونات الأجنبية .
لم يعجز الفكر القومي العربي عن إحداث نهضة للأمة فقط بل أحدث سقوط، وأفقر الأمة، وسبّب النكسة التي أدت إلى احتلال إسرائيل للقدس والضفة الغربية والجولان وسيناء، وسبب ذلك تنكره للدين الإسلامي، وإغفاله دوره في بناء الأمة وإنشاء كيانها، ليس هذا فحسب، بل عادى الفكر القومي العربي الدين الإسلامي في مراحل لاحقة واجتهد في اقتلاعه من حياة الناس والمجتمع لأنه اعتبره أصل التخلف والجمود مما جعل الأمة تعيش صراعاً مريراً، لكن هذا الصراع انجلى بانتصار الصحوة الإسلامية وانهزام الفكر القومي العربي ولكن بعد أن دفعت الأمة ثمناً غالياً لهذا الصراع من أرضها واقتصادها وأبنائها وقيمها ومبادئها ووجودها.