لماذا تريد أميركا نشر الديمقراطية؟

لقد اتجهت أوروبا إلى تطبيق الديمقراطية بعد احتلالها بلدانا عربية عديدة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وبالفعل طبّقتها إنجلترا في أكبر بلدين عربيين احتلتهما وهما: العراق ومصر بعد الحرب العالمية الأولى، وفشلت التجربتان بعد الحرب العالمية الثانية، وأنهى عبد الكريم قاسم الديمقراطية في العراق بعد انقلابه عام 1958، كما أنهى جمال عبد الناصر الديمقراطية في مصر بعد انقلاب عام 1952.

ثم استلمت أميركا راية الاستعمار الحديث بعد أن انتهى الاستعمار القديم، واعتبرت نشر الديمقراطية أحد أهدافها الرئيسية في فترة الصراع مع الشيوعية بعد الحرب العالمية الثانية، وارتفعت وتيرة حديثها عن الديمقراطية بعد سقوط الشيوعية عام 1990، وادعى المسؤولون الأميركيون أن احتلالهم للعراق في أبريل/نيسان 2003 جاء لاجتثاث دكتاتورية صدام حسين، ولنشر الديمقراطية في المنطقة، ولجعل العراق مثالا للحرية في العالم العربي.

وقد أرفق المسؤولون الأميركيون دعاويهم تلك بمشاريع سياسية تعضدها، ومن ذلك: مشروع شراكة أميركا مع الشرق الأوسط من أجل نشر الديمقراطية الذي دعا إليه كولن باول في 12/12/2003، ومشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرحه بوش، ثم ناقشته الدول الصناعية الكبرى الثماني في جزيرة سي أيلاند من ولاية أتلانتا في يونيو/حزيران 2004، كما قدّمت كل من فرنسا وألمانيا مشروعين مماثلين لمشروع بوش عن الشرق الأوسط، وكانت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس تقدّم محاضرات في معظم زياراتها لمصر عن الديمقراطية.

كما تحدّث أوباما عن القِيَم الديمقراطية في خطابه الذي وجّهه للعالم الإسلامي من القاهرة في يونيو/حزيران 2009، فما الهدف من كل ذلك؟ وهل صحيح أن أميركا مهتمّة بترسيخ النظام الديمقراطي في عالمنا العربي؟ وهل صحيح أن أميركا أزالت دكتاتورية صدام من أجل رفع الاستبداد عن الشعب العراقي وجعله شعبا حرّا؟

ليس من شك في أن الوقائع تؤكّد أن كل هذا الكلام غير صحيح، وأن أميركا جاءت إلى العراق من أجل عدّة أمور تتعلّق بمصالحها، وأهمّها: السيطرة على البترول العراقي، وتدعيم الكيان الإسرائيلي بتقسيم العراق وحل الجيش العراقي من أجل إنهاء الجبهة الشرقية، وأن كلامها عن الديمقراطية تقصد منه استخدامها وسيلة منهجية لتفكيك البُنى الثقافية والجماعية للأمة من أجل تسهيل تغريبها وأمركتها، وهذا يستدعي ثلاثة أسئلة، هي: ما الديمقراطية؟ وكيف يمكن أن تحقّق أميركا تفكيك البُنى الثقافية والجماعية؟ وما هدف أميركا من ذلك التفتيت؟

فبالنسبة للسؤال الأول وهو: ما الديمقراطية؟ فهي نظام سياسي يقوم على دعامتين: فلسفة، وآليات، أما الفلسفة فجاءت نتيجة عدّة تطوّرات تاريخية في الغرب، وانتهت إلى القواعد والقِيَم والمبادئ التالية:

1- مبدأ الفردية واعتبار الفرد هو الأصل في الحياة والمجتمع والكون والتقدّم، ويجب إعطاؤه حريته الكاملة دون أيّة قيود في أي مجال من المجالات الاقتصادية أو الفكرية أو الاجتماعية أو الثقافية.. إلخ، وإذا تعارضت الفردية مع الجماعية في أي موقف فيجب تقديم الفردية على الجماعية.

2- مبدأ المادية، واعتبار المادة هي الأصل في الحياة والكون، وكل الأحاديث عن الغيوب والروح والجنة والنار والوحي والملائكة والشياطين.. إلخ، خرافات وأوهام تنحسر بانتشار العلم والمعرفة.

3- مبدأ استهداف اللذّة والمنفعة والمصلحة، واعتبارها الأصل في الفرد والمجتمع، ويجب تقديم هذه الأشياء على أيّة قيمة أو خُلُق إذا وقع التعارض أو التصادم بينهما.

4- مبدأ نسبية الحقيقة، وذلك يعني أنه ليس هناك حكم مطلق، أو قيمة ثابتة، ويعني أن كل شيء خاضع للتغيير في كل المجالات الأخلاقية والدينية والسياسية والثقافية.. إلخ.

أما الآليات التي تقوم عليها الديمقراطية فهي كثيرة وتختلف من بلد إلى بلد، ومن زمن لزمن، من مثل: انتخاب الحاكم، ومحاسبته من قِبَل مجالس منتخبة، ومحاسبته بعد الحكم لمعرفة الذي اكتسبه من غير وجه حق أثناء استلامه الوظيفة، وإمكانية تغيير الحاكم إن ثبت أن هناك تقصيرا أو عجزاً أو ضعفا، ووضع أساليب وطُرُق لتحقيق تداول السلطة، وإعطاء حرية لإبداء الآراء.. إلخ.

أما بالنسبة للسؤال الثاني، وهو: كيف يمكن أن تحقّق أميركا تفكيك البُنى الثقافية والجماعية للأمة من خلال تطبيق الديمقراطية؟ فنقول: عندما تطرح أميركا الديمقراطية فهي تطرحها من أجل أن تنفذ بفلسفتها وآلياتها، وعندما تصر على تطبيقها وتدفع مجتماعاتنا إليها دفعاً، فإن ذلك سيؤدّي إلى خلخلة البُنية الثقافية للأمة، وتفكيك روابطها الاجتماعية، وتهديم بنائها المعنوي.

فإذا طبّقنا المبدأ الأول من مبادئ فلسفة الديمقراطية وهو الفردية فإن تطبيقها سيؤدّي إلى تفكيك الروابط الجماعية، وبخاصة أن أمّتنا بحاجة إلى إعلاء روح التضحية وتغذية الروح الجماعية وتقديمها على الأنانية الفردية في هذه الظروف التي تتعرّض فيها لتهديدات عسكرية تستهدف وجودها ووحدتها وكيانها من مثل إسرائيل وغيرها.

وإذا أخذنا المبدأ الثاني وهو المادية، واعتبرناها هي الأصل في الكون والحياة والإنسان فإن ذلك سيشكّل تهديما لبُنيتنا الثقافية التي تحتل الآخرة فيها مساحة معادلة لمساحة الدنيا، ويزاوج الفرد فيها بين المادة والروح، وتغلغل مفاهيم من مثل: الإيمان بالله والملائكة والشياطين والعبادة والطهارة والشهادة.. إلخ، في كيان الفرد والأمة، وسيؤدّي الأخذ بالمادة إلى اضطراب وفوضى في المجالات النفسية والفكرية والاجتماعية والثقافية للفرد والمجتمع.

وإذا غلّبنا المنفعة على الخُلُق، وقدّمنا اللذّة على القيمة، فإن ذلك سيطلق الشهوات في الأمة، وسيؤدّي ذلك إلى الانحلال، في الوقت الذي تحتاج فيه الأمّة إلى إرواء الشهوات بالقدر المناسب من أجل أن تكون هناك فسحة من الطاقة والقدرة والوقت من أجل البناء الحضاري الذي يحتاج إلى لجم الشهوات بأكبر قدر ممكن.

وإذا اعتمدنا نسبية الحقيقة في شؤوننا فإن ذلك سيؤدّي إلى زعزعة أحكام ثابتة في وجود أمّتنا من مثل أحكام العقيدة والعبادة والأسرة.. إلخ، فبالنسبة لنا وحدانية الله حقيقة ثابتة لقوله تعالى: “قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ” (الإخلاص/1)، وكذلك الصلاة والزكاة لقوله تعالى: “وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ” (البقرة/110)، وكذلك فإن العلاقة بين الذكر والأنثى يجب أن تكون من خلال عقد الزواج لقوله تعالى: “وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً” (النساء/21).

وإنّ تلك الأحكام من العقيدة وإقامة الصلاة وعقد الزواج ثابتة إلى قيام الساعة لأنها تستند إلى نصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة، لذلك فإن نسبية الحقيقة ستؤدّي إلى بلبلة الأمة وتفكيك روابطها الثقافية، وإلغاء التعامل مع النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة التي أعطت للأمة استمرارية وجودها وكيانها.

أما بالنسبة للسؤال الثالث، وهو: ما هدف أميركا من تفتيت البُنى الثقافية والاجتماعية؟ فنقول: إن الهدف هو خدمة إستراتيجية إسرائيل التي قامت على أساس تفكيك الأمة وتفتيت المنطقة إلى دوائر عرقية وطائفية صغيرة، كما ورد في الخطط التي أشارت إليها مراجعهم في عدة مراحل تاريخية بدءاً من بن غوريون أول رئيس وزرائهم وانتهاء بنتنياهو آخر رئيس وزراء عندهم.

والسؤال الآن: كيف يمكن أن نتجنّب تفكيك المنطقة ونفوّت على أميركا أهدافها؟ كيف يمكن أن نتوصّل إلى تحقيق العدل وإبعاد الاستبداد؟ كيف يمكن أن نشيع مناخ الحرية، ونجري العملية الانتخابية؟ كيف يمكن أن نحقّق تداول السلطة ونحاسب المسؤولين ونغيّرهم بطريق سلمي؟ كيف يمكن أن نحقّق كل ذلك؟

يمكن أن نحقّق كل ذلك بأن نأخذ بآليات الديمقراطية وأن نترك فلسفتها، وبخاصة أن كثيراً من آليات الديمقراطية لها نظير ومشابه في تراثنا وتاريخنا، فبخصوص الانتخابات نجد أنّ لها أصلاً في تاريخنا، وقد أخذ أبو بكر الصديق رضي الله عنه أول خليفة للمسلمين شرعيته في القيادة من انتخاب المسلمين له في سقيفة بني ساعدة، كما أن عبد الرحمن بن عوف سأل جميع المسلمين في المدينة حتى ذوات الخِدْر والصبيان في بيوتهم عن تفضيلهم عثمان أم عليّاً رضي الله عنهما، فرجح عثمان عنده، كما قد نص علماؤنا في كتب السياسة الشرعية وأكّدوا في كتب الأحكام السلطانية على أن شرعية الحاكم المسلم تأتي من انتخاب الناس له ومن رضا الناس عليه.

ونجد أن محاسبة الحكام لها أصل في تاريخنا في قاعدة من أين لك هذا؟ التي أرساها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان يحصي أموال الولاة في بداية ولايتهم، ثم يحصيها في نهايتها ويأخذ ما زاد، وقد فعل هذا مع كبار قيادات الصحابة ومنهم خالد بن الوليد رضي الله عنه، ونجد لهذه القاعدة أصلا في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “أمّا بعد، فما بال العامل نستعمله فيأتينا فيقول: هذا من عملكم وهذا أهدي إليّ. أفلا قعد في بيت أبيه وأمّه فينظر هل يُهدى له أم لا؟” (صحيح الجامع الصغير للألباني، رقم:2237).

ونجد أن حرية الرأي وحرية انتقاد الحاكم وحرية محاسبته تجسّدت في قول أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه في أول خطبة له بعد انتخابه: “إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني”، كما تجسّدت في وقائع محاسبات كثيرة قام بها جمهور المسلمين لكل من عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم دوّنتها كتب التاريخ، وهي أشهر من أن نتحدّث عنها.

في النهاية نقول: تريد أميركا من الديمقراطية التي تروّج لها وتنشرها بفلسفتها وآلياتها أن تفتّت الكيان الثقافي وتفكّك البناء الجماعي لأمّتنا، وذلك من أجل جعل إسرائيل أكثر قوة وسيطرة على منطقتنا وأمّتنا، ونحن يمكن أن نفوّت على أميركا أهدافها بأن نأخذ بآليات الديمقراطية ونبتعد عن فلسفتها.

اترك رد