راجت مقولة: “الدين عقيدة وشريعة” في الكتب الإسلامية خلال القرون السابقة، فمن أين جاءت هذه المقولة؟ وما مدى صحتها؟ وما نتائجها على فضاء الثقافة والحياة الإسلاميتين القديمة والمعاصرة؟
تحدّث التفتازاني في كتابه “شرح العقائد النسفية” عن المقولة السابقة فقال: “ما يتعلق بكيفية العمل وتسمى فرعية وعملية، ومنها ما يتعلّق بكيفية الاعتقاد وتسمى أصلية اعتقادية، والعلم المتعلّق بالأولى يسمى علم الشرائع والأحكام كما أنها لا تستفاد إلا من جهة الشرع، ولا يسبق الفهم عند إطلاق الأحكام إلا إليها، وبالثانية: علم التوحيد والصفات لما أن ذلك أشهر مباحثه وأشرف مقاصده” (شرح العقائد النسفية، ص4).
قسم التفتازاني في كلامه السابق الدين إلى جانب عملي سماه علم الشرائع والأحكام، وإلى جانب اعتقادي سماه علم الصفات والتوحيد، وهذا التقسيم – كما هو واضح – يؤصّل إلى أن الدين عقيدة وشريعة، ومن الجدير بالذكر أن كتاب شرح العقائد النسفية الذي نقلنا النص السابق منه يعتبر من أشهر الكتب العقائدية المعتمدة للتدريس في جامعات المشرق والمغرب من مثل الأزهر والزيتونة والقيروان منذ قرون متعددة.
إن ثنائية تقسيم الدين إلى عقيدة وشريعة، تشتمل على مصطلحين هما: العقيدة والشريعة، وإن مصطلح الشريعة محدّد لا اختلاف عليه، لأنه ورد في القرآن الكريم عدة مرات، وهو يعني جملة الأحكام الشرعية التي وردت في القرآن الكريم والحديث الشريف فيما يتعلق بكل أمور حياة المسلم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من مثل : تشريعات الزكاة، وتشريعات الطلاق والزواج، وتشريعات تحريم الربا، وتشريعات إقامة الحدود إلخ… قال تعالى (الجاثية،18):
(ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون).
وقال تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) (المائدة،48).
لكن الجديد هو مصطلح “العقيدة”، فمن أين جاء هذا المصطلح الذي لم يرد في قرآن ولا سنة؟
جاءت كلمة “العقيدة” حصيلة المعارك التي أثارها المعتزلة مع خصومهم حول ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته، وأصبح هذا اللفظ علماً على كل الأمور التي تتعلق بذات الله تعالى، وعلى كل الأمور التي تتحدث عن علاقة ذات الله بصفاته تعالى من مثل: هل الصفات عين الذات؟ أو غير الذات؟ وعن الموقف من الآيات والأحاديث التي تحتمل التشبيه أو التجسيم، هل نؤوّلها أو لا نؤوّلها؟ إلخ…
بالإضافة إلى جدة مصطلح العقيدة وعدم وروده في قرآن وسنة وأنه من اختراعات المعتزلة، فإن ثنائية تقسيم الدين إلى عقيدة وشريعة قسمة لم يعرفها الإسلام بمعنى أن هناك أموراً عقلية يجب أن يملأ المسلم بها عقله أولاً، ثم يأتي تنفيذ الشريعة ثانياً. وتشمل الأمور العقلية التي يجب أن يملأ المسلم بها عقله مقدمات مأخوذة من الفلسفة من مثل العَرَض والجوهر والخلاء والملاء وواجب الوجود وممكن الوجود إلخ…، واعتبر بعض المعتزلة أن معرفة هذه المقدمات واجب على كل مسلم، وأن الجهل بها يوقع في الكفر، وتشمل الأمور التشريعية التي يجب أن ينفذها المسلم بعد معرفته للأمور العقلية أحكاماً من مثل إقامة الصلاة وإخراج الزكاة، وتنفيذ شرائع الله في الزواج والطلاق والحدود إلخ…
لم يعرف الدين الإسلامي هذه الثنائية إنما عرف مصطلحات أخرى مثل الإيمان والإسلام، وهي مصطلحات تشتبك فيها الأمور العقلية مع الأمور القلبية مع الأمور التشريعية، فلو أخذنا كلمة الإيمان بالله تعالى لوجدنا أن المسلم يهتدي إلى ربه بفطرته فيؤمن به تعالى، ثم يجب عليه أن يعرف أسماءه تعالى وصفاته من القرآن الكريم والسنة المشرفة، ثم عليه أن يوجّه قلبه إلى الله تعالى في كل الأوقات تعظيماً وحباً ورجاء وخوفاً إلخ…،
ثم يجب عليه أن يقيم الشرائع، فبعضها يجب عليه في لحظة الإيمان كالصلاة مثلاً، وبعضها يجب عليه بعد استكمال شروطها كالزكاة مثلاً إلخ…، ويجب عليه أن يبتعد عن الوقوع في الحرام في كل الأحيان، وهو إن ارتكب بعض الكبائر فقد ارتفع عنه غطاء الإيمان وبقي على الإسلام، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد”. (رواه البخاري ومسلم).
إن تقسيم الدين إلى عقيدة وشريعة قسمة تنطوي على تفضيل العقيدة على الشريعة، بمعنى تفضيل الجانب العقلي على الجانب التشريعي العملي، بمعنى جعل الأولوية له وجعله أكثر أهمية، وقد رأينا تأكيداً لذلك التفصيل في كلام التفتازاني الذي نقلناه في بداية المقال عن الشريعة والعقيدة حيث وصف الشريعة بقوله: “فرعية عملية”، ووصف العقيدة بقوله: “أصلية اعتقادية”، وهي مقولات غير صحيحة في عمومها، وقد جاءت تلك التفضيلات انعكاساً لتداخل الفلسفة مع الدين الإسلامي التي تعتبر إثبات وجود الله من أهم قضايا الإيمان مع أن الإسلام يعتبر هذه القضية قضية فطرية لا تحتاج إلى إثبات ويدل على ذلك قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) (الأعراف،172).
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في البخاري ومسلم:
ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.
تشير القراءة المتفحصة للمقولة السابقة إلى عدم صحتها وبخاصة عندما تربط القراءة بين بناء العقيدة في مكة وتطبيق الشريعة في المدينة، فإن تلازماً أكيداً بين العقيدة بمعنى الإيمان وبين الشريعة بمعنى الأحكام موجود في كل مراحل تنـزل الوحي سواء أكان ذلك في مكة أم في المدينة، واعتبر الشاطبي أن أصل كل الشرائع موجود في مكة ومثّل على ذلك بتشريع الجهاد الذي نزل في المدينة واعتبر أن أصله موجود في مكة في قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم إن تنمية الإيمان موجودة في المدينة بنفس المقدار الذي كانت موجودة فيه في مكة، فسورة الحديد التي نزلت في المدينة ذكرت عدداً من أسماء الله وصفاته لم ترد في مكان آخر منها: الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، قال تعالى:
(سبّح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم . له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم) (الحديد،1-3).
كما أن أداء الصلاة التي تعتبر أهم فرض واجب على المسلم في الإسلام نزلت أحكامها مفصلة بعد الإسراء والمعراج الذي كان في آخر المرحلة المكية وهي تؤدي خمس مرات في اليوم لكي تنمي الإيمان.
إن تقسيم الدين إلى عقيدة وشريعة كانت له نتائج سلبية قديماً وحديثاً، فقديماً أدى هذا التقسيم إلى أن تمتلئ كتب العقائد بطروحات ومشاكل ليست مما يواجه المسلم وإنما هي من إسقاطات الفلسفة، وإلى أن تصبح كتب العقائد جافّة لا تلبّي أشواق المسلم وحاجاته النفسية مما فتح النافذة للتصوّف كي يلج إلى قلب المسلم وعبادته، وتجسّد التصوف بمصطلح جديد هو “الحقيقة”، فأصبح الدين ليس عقيدة وشريعة فحسب بل أصبح عقيدة وشريعة وحقيقة.
وحديثاً أدى الجهل بتاريخية تقسيم الدين إلى عقيدة وشريعة إلى أن تتبنّى بعض الجماعات والأحزاب هذا التقسيم وتعتمده، وتعتبر أن سقوط الخلافة في مطلع القرن العشرين أعاد المسلمين إلى المرحلة المكية، لذلك فنحن لسنا ملزمين بكل أحكام المدينة ومنها أحكام الزكاة وصلاة الجمعة والجهاد إلخ…، وتعتبر أن واجبها في هذه المرحلة بناء العقيدة فقط.