قراءة في مقال فوكوياما الأخير هل “الأصولية الإسلامية” صورة من الفاشية؟ أم هي تعبير عن الوحدة الثقافية للأمة الإسلامية؟
كتب فرانسيس فوكوياما مقالاً حول العالم الإسلامي والأحداث الأخيرة التي وقعت في 11 سبتمبر/أيلول 2001م في مجلة نيوزويك الأسبوعية في طبعتها العربية بتاريخ 25 ديسمبر/كانون لأول 2001م تحت عنوان “هدفهم: العالم المعاصر”، فالمقال جدير بالتعليق والمتابعة والتحليل لأن كاتبه ذو مكانة علمية وعملية في الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، ولأن المقال يرصد آخر تطورات عالمنا الإسلامي من جهة ثانية.
حلّل فوكوياما علاقة العالم الإسلامي بالحضارة الغربية، وانتهى إلى أن المشكلة ليست محدودة مع عدد من الإرهابيين كما يتصور بعض سياسيي الولايات المتحدة، بل هي مع مجموعة أكبر كثيراً من الراديكاليين الإسلاميين ومن المسلمين الذين ينضوون تحت ظاهرة سمّاها “الأصولية الإسلامية”، وأنا سأستخدم في مقالي المصطلح ذاته الذي استخدمه فوكوياما كعلم للإشارة إلى الظاهرة التي يدور حولها الكلام، مع ضرورة الانتباه إلى عدم الاستسلام لكل المعاني التي ينطوي عليها هذا المصطلح الذي يعبّر عن جانب من الحياة الفكرية في الحضارة الغربية.
قرّر فوكوياما في مقاله أن حل مشكلة العالم الإسلامي تكون بتعميق الحداثة والعلمانية، ولكنّه جهل أو تجاهل أن الحداثة والعلمانية ليستا أمرين جديدين على العالم الإسلامي، بل كانتا أمرين مطروحين منذ قرن على الأقل، وجرت محاولات عديدة لترسيخهما في المنطقة، وحمل رايتهما شخصيات وأحزاب وهيئات وفئات متعددة، وأبرز من حملهما الحركات القومية على اختلاف أنواعها: العربية والسورية والفرعونية، ويمكن أن نمثّل بعلمانيين وحداثيين بارزين في نطاق كل من الحركات القومية السابقة، ففي المجال القومي العربي كان ساطع الحصري، وفي مجال القومي السوري كان أنطون سعادة، وفي المجال الفرعوني كان سلامة موسى، وقد اعتبر الخديوي اسماعيل في القرن التاسع عشر مصر قطعة من أوروبا، كما دعى طه حسين في القرن العشرين إلى أخذ الحضارة بكل ما فيها من حلو ومر، ولم تبق العلمانية والحداثة في نطاق الدعوة بل انتقلت إلى التطبيق عندما استلمت بعض الحركات القومية العربية قيادة عدة دول من العالم العربي في فترة مبكرة من القرن العشرين، وقد لعب ساطع الحصري دوراً بارزاً في كل من النظامين العراقي والسوري من أجل ترسيخ القومية العربية ذات التوجه العلماني الحداثي منذ العشرينات حتى الخمسينات من القرن الماضي، ثم ارتبط الفكر القومي العربي بالاشتراكية في الستينات، وتعمّقت الدعوة إلى الحداثة والعلمانية في معظم أقطار العالم العربي: مصر، سورية، العراق، الجزائر، اليمن، السودان إلخ… وحاولت القيادات القومية العربية الاشتراكية أن ترسخ الحداثة والعلمانية في المجتمعات العربية التي حكمتها ومع ذلك لم تفلح في ذلك، والسؤال الآن: لماذا لم تنجح محاولات تلك القيادات القومية العربية الاشتراكية في ترسيخ الحداثة والعلمانية وجعلهما جزءاً من كيان المنطقة؟ ولماذا كانت “الصحوة الإسلامية” التي جاءت بعد كل هذه المحاولات في ترسيخ الحداثة والعلمانية؟ السبب في ذلك واضح: أن تلك المحاولات لم تراع خصوصية المنطقة، لذلك فإن أي محاولة لتطبيق الحداثة والعلمانية في المستقبل ستكون مصيرها الفشل إن لم تراع خصوصية المنطقة وشخصيتها الحضارية التاريخية.
رجّح فوكوياما تشابه الدين الإسلامي مع الأديان الأخرى الكبرى كالمسيحية، والهندوسية، والكونفوشية إلخ… وتصّور كل الأديان عبارة عن نظام شديد التعقيد تطور بطرق متعددة، لا أريد أن أناقشه في نظريته الخاطئة التي تضع كل الأديان في سلّة واحدة وعلى صعيد واحد ومسار واحد، لكني أريد أن أشير إل نقطة خلاف رئيسية بين الدين الإسلامي والمسيحية، وهي أن الإسلام استطاع أن يكوّن أمة مسلمة منذ اللحظة الأولى التي نجح فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، وامتد وجود تلك الأمة الإسلامية إلى وقتنا الحاضر، في حين أن المسيحية لم تستطع أن تكوّن تلك الأمة، بل قامت الأمم الغربية بعد سقوط المسيحية كالأمة الفرنسية، والإنجليزية، والألمانية، والهولندية … إن تجاهل قيادات الفكر والرأي والسياسة في الغرب لهذه الحقيقة وهي أن هناك أمة إسلامية ذات وجود مادي على أرض الواقع جعلهم لا يتعاملون تعاملاً سليماً مع منطقتنا، بل يتعاملون تعاملاً خاطئاً، فهم يتعاملون مع منطقتنا كشرق أوسط أي كجهة خالية من أي مضمون، وعليها أن تستقبل، وتتكيّف مع كل ما ينقل إليها، وعندما تأتي النتائج على عكس ما يتوقّعون يتهمون المنطقة بأنها تفرز “أصوليات” متعددة على غير ما وقع في المناطق الأخرى. إن التعامل السليم مع المنطقة يكون من الانطلاق بأن هناك أمة موجودة ذات تشكل حضاري خاص هو الذي يحدد الأفكار والقيم المناسبة التي يجب أن تتفاعل معها.
علّل فوكوياما نشوء “الأصولية الإسلامية” بنفس عوامل نشوء الفاشية في أوروبا بعوامل اجتماعية منها: اجتثاث أعداد كبيرة من السكان من قراهم التقليدية أو حياتهم القبلية، وانتقالهم إلى المدن، كما ذكر سبباً آخر لنشوء “الأصولية الإسلامية” هو الفقر والركود الاقتصادي، إن هذا التعليل قاصر وغير صحيح، وإن التعليل الأصح لنشوء ظاهرة “الأصولية الإسلامية” إنها تعبير عن رفض حركة التغريب والاستئصال الثقافي التي مارستها الأنظمة القومية الاشتراكية في منتصف القرن العشرين، وتعبير عن الانتماء إلى الأمة الإسلامية ذات الثقافة والواحدة، ومما يؤكد هذا التعليل وجود ظاهرة “الأصولية الإسلامية” على امتداد العالم الإسلامي، فوجدت في بلدان غنية وفقيرة وذات تركيبة اجتماعية متنوعة مثل تركيا والجزائر ومصر والخليج وفلسطين إلخ…
أشار فوكوياما إلى أن “الأصولية الإسلامية” تعتبر الغرب فاسداً بسبب الإباحية، وبسبب المثليّة الجنسية، ووضع المرأة فيه إلخ… لكن الحقيقة أن مشكلة “الأصولية الإسلامية” مع الغرب ليست إباحيته بالدرجة الأولى، لكن المشكلة الأولى تكمن معه في نسبية الحقيقة التي يقوم عليها والتي تتصادم مع بعض الجوانب الثابتة في الدين الإسلامي: كالعقائد، والعبادات، والحدود، والتشريعات المتعلقة بالأسرة مثل أحكام الزواج والطلاق إلخ…
شبه فوكوياما “الأصولية الإسلامية” بالفاشية التي برزت في أوروبا في الثلاثينات من القرن العشرين، والتي قادت العالم إلى الحرب العالمية الثانية، وبيّن فوكوياما إلى أن الجامع بين الأصولية والفاشية هو عدم التسامح مع الآخرين، ولا أريد الخوض مع فوكوياما في مدى صحة تشبيهه “الأصولية الإسلامية” بالفاشية والفوارق بينهما، لكن أشير إلى تناقضه عندما امتدح الخلافة العثمانية التي كانت تطبق نظام الملل الذي يحقق التسامح الديني الذي امتد من القرون الوسطى إلى القرن التاسع عشر في حين أن أوروبا كانت غارقة في اضطهاد الفرق الدينية لبعضها البعض في تلك الفترة التاريخية.
لام فوكوياما الدول العربية جميعها بأنه لم يحدث فيها تطور نحو الديمقراطية خلال القرن الماضي، وأشار إلى أنه لم تتطوع أية حكومة عربية للتخلي عن السلطة لمصلحة الديمقراطية، ليس من شك بأن لوماً كبيراً ومؤاخذة واسعة توجه إلى كثير من ممارسات الحكومات العربية السلبية في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية إلخ…، لكن لوماً آخر و بشكل أكبر يوجّه إلى الولايات المتحدة التي كان تدخلها في العالم الإسلامي من أجل ترسيخ ديكتاتوريات عسكرية، أو ممارسة سياسة ضارة بالمنطقة، ويمكن أن نمثّل على الأمر الأول بالانقلاب العسكري الذي قادته المخابرات المركزية الأمريكية (C.I.A) وأوصلت فيه حسني الزعيم إلى حكم سورية عام 1949م، والذي افتتحت به سلسلة الانقلابات في منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، ويمكن أن نمثّل على الأمر الثاني بالحرب العراقية الإيرانية التي كانت أمريكا وراء إطالة أمدها لمدة ثماني سنوات، وكانت نتيجة ذلك تدمير المنطقة، واستنـزاف طاقاتها، وترسيخ ديكتاتورية صدام حسين، وتضخيم آلته العسكرية التي كانت سبباً رئيسياً في نشوء حرب الخليج الثانية حيث أكملت هذه الحرب تدمير المنطقة.
امتدح فوكوياما نظام تركيا الديمقراطي، لكن ألا يحس معنا فوكوياما أن الديمقراطية لا تعدو كونها عنواناً وليس حقيقة؟ ألا يشعر معنا بأن نظام تركيا أقرب إلى الديكتاتورية منه إلى الديمقراطية؟ كيف يمكن أن يكون نظام تركيا ديمقراطياً وهو الذي انقلب جيشه على برلمانات منتخبة؟ كيف يمكن أن يكون نظام تركيا ديمقراطياً وهو الذي حل مجلسه العسكري عشرات الأحزاب؟ كيف يمكن أن يكون نظام تركيا ديمقراطياً وهو الذي أبطل جنرالاته عشرات القرارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الصادرة عن مجلسي الوزراء والنواب الشرعيين؟ وفي النهاية: كيف يمكن أن يكون نظام تركيا ديمقراطياً وهو الذي يمارس كل هذه الممارسات المعادية لرغبات الشعب؟
إن المتفحّص لمقال فوكويواما يرى أن الغرب مازال يريد أن يفرض نموذجه الحضاري الذي فشل في فرضه خلال القرنين الماضيين، فهل ينجح في المستقبل القريب فيما فشل في تحقيقه منذ الماضي البعيد؟ أشك في ذلك.