كان هم “بيغن” إخراج مصر من المعادلة العسكرية في الشرق الأوسط – التعنت الإسرائيلي وراء فشل كل مشاريع “السلام” – السلام قابل للتحقيق ولكن لا سلام بلا عدالة – منذ العام 1967 شعر كارتر أن الإسرائيليين عازمون على الاستيطان في الأراضي المحتلة
أثار كتاب الرئيس الأمريكي “جيمي كارتر” ولا يزال ضجة غير مسبوقة في أوساط الرأي العام الأمريكي·· الرسمي منه والشعبي· كتاب “كارتر” بعنوان “فلسطين·· سلام لا فصل عنصري” يهدد بإشعال جذوة توجه خطير وجاد لما يتعلق بتناول قضية الصراع العربي- الإسرائيلي·
ينطلق “كارتر” في كتابه من صعوبة إن لم يكن استحالة المضي في أي مقترح للسلام في ظل المعطيات والظروف الراهنة، لكنه في الوقت نفسه لا يرى في الأمر يأساً مطلقا، فمشروع السلام العربي- الإسرائيلي مشروع قابل للتنفيذ ولكن ليس دون شروط صارمة يحددها “كارتر” في بداية كتابه، ويرى أن الولايات المتحدة عليها أن تدعم جديا أي مباحثات سلام ويفضل أن يشارك فيها ممثلون من الأمم المتحدة، وروسيا والاتحاد الأوروبي·
مقدمة السلام كما يراها “كارتر” مبنية على ثلاثة أضلع رئيسية: أولها: أن يقبل الفلسطينيون ودول الجوار بحق إسرائيل في التمتع بحدود مرسومة وآمنة، وثانيها عدم التغاضي عن قتل المدنيين سواء في إسرائيل أو فلسطين أو لبنان أو غيرها، أما الثالث: فهو في حق الفلسطينيين بأن يتمعتوا بالسلام والكرامة فوق أراضيهم التي حددها القانون الدولي·
بالنسبة “لكارتر” فإن السلام قابل للتحقيق لكن وصفة السلام لابد أن تشمل العدالة، كذلك يعتبر “جيمي كارتر” الرئيس الأمريكي السابق، من الملتزمين دينيا وعقائديا، فقد درس الإنجيل منذ الطفولة، وعلّمه لعشرين عاما لذلك فقد ابتهج لدعوة “اسحق رابين” الذي كان آنذاك أحد أبطال حرب 1967 وذلك لزيارة إسرائيل قبل أربعة أشهر من قيام حرب أكتوبر 1973!! وقتها كان “كارتر” حاكماً لولاية جورجيا، وهو في كتابه يقدم سرداً مفصلا لتلك الزيارة لا يخلو من التهكم والسخرية، فالمواقع المقدسة والتي زارها “كارتر” آنذاك تحولت كلها الى ثكنات عسكرية تؤمها الجيوش، وتصدح في أرجائها التعليمات العسكرية بدلاً من التراتيل الدينية، فمن نهر الأردن المقدس، الى الطرقات التي عبرها المسيح الى أرض الجولان، كلها كانت مدججة بالسلاح· يومها لم يكن عدد المستوطنين اليهود يتجاوز 1.500 شخص لكن الانطباع الأول الذي أحسه “كارتر” في تلك الزيارة أن الإسرائيليين عازمون على الاستيطان في أراضي 1967·· وليس لمقايضتها في مقابل السلام وكما كان الادعاء آنذاك·
بالنسبة لكارتر فإن اتفاقية كامب ديفيد وجهوده المبذولة قبل وأثناء وبعد الاتفاقية، تعكس يقينه بضرورة بعث السلام في هذه المنطقة الساخنة، وهو هنا في كتابه يقدم تفاصيل دقيقة عن الاتفاقية التي بدأت خيوطها في مارس 1977، وبعد أسابيع قليلة من تسلمه رئاسة الولايات المتحدة· وكارتر لا يخفي أثناء سرده لتلك التفاصيل معاناته مع حدة وعناد الوفد الإسرائيلي، ولا يستثني من ذلك الوفد إلا “ايزرا وايزمان” الذي كان وقتها وزير دفاع، فهو الوحيد الذي لمس “كارتر” في كلماته صدقا لما يتعلق بالوصول الى اتفاق سلام· أما “مناحيم بيغن” فقد كان من الواضح أن ما كان يهمه من اتفاقية كامب- ديفيد هو الشق المتعلق بمصر فقط·· لأن اتفاقية ثنائية مع مصر، تعني بالنسبة لإسرائيل إخراج مصر من المعادلة العسكرية في الشرق الأوسط، أما ما يتعلق بالوعود التي نصت عليها الاتفاقية بشأن الضفة الغربية وحقوق الفلسطينيين·· فقد كانت قابلة للاختراق بحسب العرف الإسرائيلي·
من هم الفلسطينيون؟
يقدم “كارتر” للقارئ تعريفا دقيقا وتاريخيا للاعبين الأساسيين في دائرة الصراع العربي- الإسرائيلي·· خاصة وأنه يرى بأن تعريف الفلسطينيين والإسرائيليين هو تعريف غير دقيق فبالنسبة للفلسطينيين هنالك أكثر من تعريف·· أحد هذه التعريفات ينص على أنهم الشعب الذي قطن أرض كنعان، ثم أصبح جزءاً من الامبراطورية العثمانية، وذلك قبل أن يخضع لإشراف بريطانيا العظمى من 1922·· والى أن صدر قرار الأمم المتحدة في العام 1947 بتقسيم أرض فلسطين، وليتمتع اليهود، فيما بعد بما يقارب %55 من الأرض!!
الإحصاءات البريطانية للعام 1922 تقول إنه كان يتواجد في فلسطين 84.000 يهودي في مقابل 670.000 عربي·· وأن العدد تغير بعد أن قسمت الأمم المتحدة المنطقة ليصبح 600.000 يهودي في مقابل 1.3 مليون عربي·
وفي المقابل يستعرض “كارتر” تعريف الإسرائيليين والذي تطور عن الحركة الصهيونية العالمية في القرن التاسع عشر·· قبل أن يستقر الإسرائيليون في فلسطين في مايو 1948!!
الصراع، بالطبع لم يكن أبداً قصراً على الفلسطينيين والإسرائيليين·· لذا فإن “كارتر” يستعرض جيران القضية·· وعلى رأسهم “سورية”·· وهو هنا لا يخفي إعجاباً بشخص الرئيس السوري حافظ الأسد بل يصر على أن يقدم للقارئ الأمريكي ما يجهله عن سورية وعن الرئيس حافظ الأسد وذلك من خلال سرد مفصل للقائه بالرئيس لأول مرة، ولم يخل ذلك السرد المفصل من إشارات واضحة للالتزام العربي تجاه قرارات الأمم المتحدة في مقابل استهتار ومخالفة صارخة لها من جانب إسرائيل· ثم يختم “كارتر” روايته عن الرئيس “حافظ الأسد” بإشارة الى أنه أي كارتر لم يتوقف في مساعيه لإحلال السلام بين العرب وإسرائيل·· حتى بعد خروجه من البيت الأبيض- وأنه في العام 2005 رفع الى البيت الأبيض برنامج زيارة ينوي القيام بها الى سورية·· ليفاجأ برفض الإدارة الأمريكية لتلك الزيارة بناء على موقف سورية تجاه الوضع في العراق· ولم تنجح محاولات كارتر بحسب قوله في إقناع الإدارة الأمريكية بأن بإمكانه التفاوض مع بشار الأسد الذي عرفه منذ أن كان طالباً في الجامعة·· أو أنه من الحماقة قطع جسور التواصل والحوار مع أولئك الذين نختلف معهم في الرأي، لكن استياء كارتر ودهشته من هكذا موقف بلغ أوجه حين عرف فيما بعد أن الحكومة الأمريكية رفضت منح الرئيس السوري “بشار الأسد” فيزا لدخول أراضيها ولحضور اجتماع الأمانة العامة في الأمم المتحدة·
من أربك الوضع العربي
يتحول “كارتر” فيما بعد من سورية الى الأردن مستعرضاً الدور الأردني في الصراع، وتكبد الأردن خسارة جسيمة بعد حرب 1967 إثر احتلال إسرائيل للضفة الغربية والقدس الشرقية مما أفقد الأردن ما يقارب نصف سكانه وموارد سياحية ثرية وأيضا عن جهود الملك حسين في السيطرة على الفلسطينيين في المخيمات إبان الستينات الى أن يصل بالأحداث الى المرحلة الفاصلة في العام 1970 والتي شهدت المواجهات الدامية بين قوات الملك حسين·· والكتائب الفدائية·
بالنسبة “لكارتر” فإن مصر كانت هي الحلقة التي اربكت القلادة العربية التي كانت تطوق الصراع العربي- الإسرائيلي·· وهو هنا يسترجع قولاً للرئيس المصري أنور السادات في تعليقه على العزلة العربية المفروضة على مصر بعد كامب ديفيد، بأن أغلب الدول العربية تطمح في أن تحذو حذوه·
أما الجارة لبنان·· فإن “كارتر” يرى أن الأحداث الأخيرة بين لبنان وإسرائيل قد ضاعفت من تغلغل هذه الدولة الصغيرة في دائرة الصراع·
الوضع في المملكة السعودية وكما يراه “كارتر” مختلف·· فهي أولاً ليست جارة مباشرة لإسرائيل إلا أنها وبسبب ثرائها تعتبر لاعباً أساسياً في القرار العربي!! بالنسبة لكثير من الغربيين·· فإن السعودية تبدو معزولة جغرافيا واجتماعياً·
يحكمها بضعة مئات من الأمراء الأثرياء!! لكنها بالنسبة لأمريكا، تعتبر عضوا في غاية الأهمية لما يتعلق باحتواء أي تصعيد خطير في المنطقة، وهو أمر يدفع الولايات المتحدة لأن تتغاضى عن انتهاكات حقوق الإنسان المتكررة في المملكة العربية السعودية!!
وجهان لإسرائيل
يعود “كارتر” كما ذكر في كتابه لزيارة الأرض المقدسة·· فلسطين بعد عشرة أعوام من زيارته الأولى، ويسترجع هنا الظروف التي أحاطت بمساعي خليفته “رونالد ريغان” لإحياء مشروع السلام العربي- الإسرائيلي وفقا لاتفاقية “كامب ديفيد”·· مؤكداً إن التعنت الإسرائيلي لم يزل كما هو، إضافة الى حادثتين مهمتين، انعكستا وبشكل مباشر على السلام في المنطقة، الأولى كانت في العام 1986، حين كشف النقاب عن فضيحة الأسلحة الى إيران، أو ما أصبح يسمى “بإيران كونترا” التي ساهم فيها إسرائيليون الى جانب الولايات المتحدة أما الحادثة الثانية، فقد كانت في العام 1987، إثر تصاعد الحدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين وانطلاقة الانتفاضة الأولى!! في زيارته لعام 1983 يزداد بقين كارتر بأن هنالك وجهين لإسرائيل، الوجه الأول الذي يعود الى الثقافة اليهودية القديمة، المتسمة بالأخلاقيات الدينية·· والتي كان “كارتر” قد تعلمها وتلقاها في المدارس الدينية، والوجه الآخر·· هو لإسرائيل ترفض الالتزام بأبسط الحقوق البشرية!! وهذه هي إسرائيل التي اكتشفها “كارتر” في زيارته تلك·· ومن خلال لقائه بفلسطينيين من جميع المشارب أكدوا على حقيقة التعسف الإسرائيلي بحقهم·· المدني والعملي بل وحتى القضائي!!·
بالنسبة “لكارتر” فإن اتفاقيات وجهود السلام إبان حقبة جورج بوش “الأب” وكلينتون·· سواء أوسلو·· أو مدريد·· كانت جميعها·· تتجمد عند التعنت الإسرائيلي·· في مقابل مرونة الأطراف الأخرى في الأردن وسورية ومنظمة التحرير الفلسطينية!!
يخصص “كارتر” فصلا كاملاً لجهود “كلينتون” في إحياء مشروع السلام وفقا لاتفاقية “أوسلو” في ظل ظروف يرى “كارتر” إنها مناسبة·· فالانتخابات الفلسطينية سارت بشكل سلس·· والتصريحات الفلسطينية كلها متفاوتة، لكن الإسرائيليين بقوا على تعنتهم·· حتى مع قدوم حزب العمال بقيادة “إيهود باراك” في العام 1999، كان هنالك إجماع واتفاق إسرائيلي على عدم التمسك بقرارات الأمم المتحدة وبالتحديد، قرارا 242 و 338، ثم ليفجر أرييل شارون الوضع المتفجر أصلاً بذهابه مدججاً بمئات الجنود الى موقع قبة الصخرة المقدسة لدى المسلمين·· معلناً من هناك أن هذا الموقع الإسلامي المقدس سيبقى تحت السيطرة الإسرائيلية الى الأبد!! ولتشتعل بذلك جذوة الانتفاضة الثانية!!
يستعرض “كارتر” وبالتفصيل اجتماع القمة العربية في بيروت في ظل تصاعد الانتفاضة الثانية، وهو الاجتماع الذي أعطى فيه العرب وعلى لسان ولي العهد السعودي “الأمير عبدالله” الأمان لإسرائيل·· مع وعود عربية ببناء علاقات مباشرة مع إسرائيل!! وهي الوعود التي أجابت عليها إسرائيل بحملة عسكرية عنيفة قصفت ودمرت ثم طوقت مقر الرئيس الفلسطيني المنتخب “ياسر عرفات” ليأتيها فيما بعد الدعم الأمريكي في يونيو 2002 من خلال إعلان الرئيس بوش “الابن” أن مشروع السلام أصبح يتطلب رئيسا جديداً ولتستمر فيما بعد المماطلات الإسرائيلية التي وصلت أقصاها مع شروط الإسرائيليين التعجيزية لتطبيق “خارطة الطريق” التي كان الفلسطينيون قد وافقوا عليها·· وهو ما يراه “كارتر” استمراراً في النهج الإسرائيلي الرامي لتقويض كل مشروع للسلام!!
كارتر يتحسر
يستعرض “كارتر” في كتابه المهام التي قامت بها مؤسسة كارتر للإشراف على الانتخابات الفلسطينية منذ 1996·· ويتناول العديد من الروايات والأحداث التي تشير الى البطش الإسرائيلي للفلسطينيين والذي وصل الى حد محاولة حجب حقهم الانتخابي وكما حدث مع الناخبين من القدس الشرقية!! ثم يتوقف طويلا عند انتخابات يناير 2006 التي أشرف عليها مركز كارتر بالتعاون مع بعض المراقبين الدوليين·· والتي أفرزت نتجائها عن اكتساح حماس لـ 85% من مقاعد مجلس النواب الفلسطيني·
مع آخر فصل من كتابه يتناول “كارتر” جدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل بالكثير من الحسرة والأسف فالإسرائيليون يتصورون أن طوقا من الحديد سيؤمن لهم حماية من الفلسطينيين·· الذين أصبحوا معزولين بلا منافذ جوية أو بحرية مستقلة!! ويرى “كارتر” جاءت من أن جدار الفصل الإسرائيلي يعكس حقيقة المفهوم الإسرائيلي للتعايش السلمي مع الفلسطينيين!! هذا الجدار الذي “يعتقد” الرئيس الأمريكي جورج بوش بعدم فاعليته، بينما أدانت قيامه محكمة العدل الدولية واعتبرته غير شرعي ولا قانوني·
لكن الحسرة التي عبر عنها “كارتر” جاءت من أن هذا الجدار العنصري قد اقتحم قدسية مقدسات كبيت لحم وجبل الزيتون المكان المفضل للمسيح ورفاقه·
يختم “جيمي كارتر” كتابه بتلخيص كل مشاريع السلام العربي- الإسرائيلي التي لم يتحقق منها شيء بسبب غياب النوايا الصادقة، وهو يرى هنا أن هنالك معوقين رئيسيين للسلام الدائم في الشرق الأوسط، العائق الأول أن هنالك من الإسرائيليين من يرى أن من حقه احتلال ومصادرة حقوق الفلسطينيين!! أما المعوق الثاني·· فهو في ردود فعل بعض الفلسطينيين الذين يرون في الانتحاريين شهداء لقتلهم إسرائيليين!!
والمخرج من تلك المعضلة كما يراه “كارتر” هو في إحياء مسيرة السلام من خلال مفاوضات مباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين·· مع تكثيف الجهود لتطبيق خارطة الطريق!! ولكن في ظل شروط أهمها على الإطلاق أدرك العرب أن إسرائيل أصبحت أمراً واقعاً·· بالإضافة الى إقرار الإسرائيليين بالحقوق الفلسطينية خاصة في ظل العنف الإسرائيلي الذي اغتصب أبسط الحقوق البشرية للفلسطينيين!! بالإضافة الى ضرورة الحياد الأمريكي بهذا الشأن·· والامتناع عن تجاوز التصرفات الإسرائيلية غير المشروعة خاصة في ظل التعسف الأمريكي في استخدام الفيتو لحجب قرارات تدين إسرائيل·· وحيث استخدمت الولايات المتحدة الفيتو لهذا الغرض لأكثر من أربعين مرة!!
بعد ر حلة طويلة كهذه·· لا يبدو أن الرئيس الأمريكي السابق “جيمي كارتر” محبطاً أو يائساً من تحقيق السلام في الشرق الأوسط·· طالما بقي هنالك مؤيدون للسلام في كلا الطرفين!! وهو هنا يذكرنا بكلمته التي ألقاها في الكنيست الإسرائيلي في العام 1979 حين قال “إن الشعوب تدعم التسوية، لكن القادة السياسيين هم الذين يعيقون السلام!!”·