إن صحة توصيف الواقع عامل رئيسي لنجاح أية جماعة أو حزب في تحقيق أهدافه في التغيير، ولو حاولنا أن نرصد أبرز التوصيفات الإسلامية التي شاعت حول الواقع خلال القرن الماضي لوجدنا أن كثيراً منها بعيد عن الصواب، وهذا ما يفسّر لنا السبب في عدم نجاح هذه الجماعات والأحزاب في تحقيق أهدافها التغييرية، ونحن سنرصد في السطور التالية أبرز هذه التوصيفات.
شخّصت بعض الجماعات والأحزاب الإسلامية الواقع المحيط بنا بأنه “دار حرب” انطلاقاً من المقولة التي تقسم العالم إلى “دار إسلام ودار حرب” واعتبرت أن بلادنا بعد سقوط الخلافة العثمانية دار حرب، وأنزلت عليها كل الأحكام الفقهية المتعلقة بدار الحرب من مثل جواز القتل، والاغتيال، والسبي، وسرقة الأموال، والتعامل بالربا إلخ…
ونسيت هذه الجماعات أن تقسيم العالم إلى “دار إسلام ودار حرب” إنما هو حكم فقهي مستجد صاغه الفقهاء من أجل التقنين لأوضاع دولية محيطة بهم، ولم يرد في قرآن ولا سنّة، ونسيت هذه الجماعات أن اعتبار بلادنا دار حرب حكم خاطئ لأن تحديد دار الحرب مرهون بوجود دار الإسلام، والمطلوب من الجماعات إيجاد دار الإسلام أولاً من أجل تحديد دار الحرب ثانياً.
وأبرز أمثلة على الجماعات التي تداولت مقولة “دار الحرب” بعض الجماعات الإسلامية التي قادت القتال في الجزائر في تسعينات القرن الماضي.
شخّصت جماعات إسلامية أخرى الواقع المحيط بنا بأنه واقع كفر، ورتبت عليه أنه لا يجوز قبول الوظيفة الحكومية، ولا يجوز إدخال أبنائنا المدارس، ولا تجوز الصلاة في المساجد لأنه يُدعى فيها إلى غير الله إلخ… ورتبت على هذا التحليل وجوب الهجرة والانكفاء على الذات من أجل الارتقاء بها، ومن أجل ترتيب صفوف الجماعة وبنائها البناء السليم حتى تستطيع أن تواجه الكفر وتنتصر عليه.
وأبرز جماعة معاصرة التزمت هذا التشخيص هي “جماعة التكفير والهجرة” التي أسسها شكري مصطفى في سبعينات القرن الماضي في مصر، وبالفعل فقد انسحب أفراد هذه الجماعة من المجتمع المصري، وعاشوا في الصحراء تطبيقاً لتحليلاتهم السابقة، ولكن الحكومة المصرية لاحقتهم واعتقلتهم، وأعدمت زعيمهم في نهاية السبعينات.
أريد أن أقف على أبرز حكم رتبته جماعة “التكفير والهجرة” على تشخيص الواقع بأنه واقع كفر وهو حكم الهجرة، فأشير إلى أن الهجرة كانت في سيرة الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه- هرباً من أذى المشركين.
فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بالهجرة إلى الحبشة مرتين هرباً من اذى مشركي مكة، كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بالهجرة إلى المدينة بعد أن سدّت منافذ الدعوة أمام الرسول وأمام أتباعه في مكة، فالهجرة جاءت خطوة بعد الدعوة، ثم ألغى الرسول صلى الله عليه وسلم الهجرة بعد فتح مكة فقال:
“لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيّة”.
وصفت بعض الجماعات المرحلة التي يعيشها المسلمون بأنها مرحلة مكية بعد سقوط الخلافة وذلك لأنهم يقسمون الحياة الإسلامية إلى مرحلتين: فترة مكية وأخرى مدنية، الأولى تنـزلت فيها العقيدة والثانية تنـزلت فيها الأحكام الشرعية، لذلك فعلينا أن نركز على بناء العقيدة في هذه المرحلة، ونحن في حلّ من تطبيق أحكام الشريعة لأنها نزلت في المرحلة المدنية. ومن الأحكام البارزة التي ترتبت على مثل هذا التحليل عدم جواز قتال اليهود في فلسطين، وخطأ القيام بالأعمال الخيرية لأنها من واجبات الخليفة، ومن أشهر التجمعات التي قالت بذلك حزب التحرير الإسلامي.
ليس من شك بأن مثل هذا التقسيم ينطلق من فهم خاطئ للمكي والمدني، فالمكي والمدني هو أحد علوم القرآن الذي يقسّم الآيات والسور بحسب نزولها من أجل فهمها وتحديد صفاتها والاستفادة من ذلك في تفسير القرآن الكريم، ويتأكد الخطأ عندما نعلم أن مرحلة مكة لم تتنـزل فيها أحكام العقيدة فحسب بل نزلت فيها أحكام شرعية أخرى كانت أصولاً لكل الأحكام الشرعية التي نزلت في المدينة، فالمرحلتان متكاملتان، ولو أخذنا مثالاً على ذلك الزكاة والجهاد وهما تشريعان مدنيان لا جدال في ذلك ولكن أصولهما كانت في مكة، الأول في تشريع الأمر بالصدقة والثاني في تشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد فصّل ذلك الشاطبي -رحمه الله- في كتاب “الموافقات” (انظر تفصيلاً لهذا الرأي في “الموافقات” للشاطبي، مجلد2، ج3، ص33 وما بعدها).
وبالمقابل لم يتوقف البناء العقائدي في المرحلة المدنية فالآيات التي تتحدث عن صفات الله ورحمته وعلمه وحكمته كثيرة، والآيات التي تخوّف من عقاب الله ومن ناره متعددة. لقد اختلفت صفات الآيات المكية عن صفات الآيات المدنية، لكن المرحلتين: المكية والمدنية متداخلتان ولا نستطيع أن نفصل بين أحكامهما، وبالعكس نجد معظم الأحكام التشريعية بدأت في مكة وتبلورت في المدينة.
لكن التوصيف الدقيق للواقع المحيط بنا هو أنه واقع أمة إسلامية، بناها الرسول صلى الله عليه وسلم، وامتزجت فيها أعراق وأجناس وقبائل وشعوب متعددة، وشكّل القرآن الكريم والسنّة النبوية المشرفة عماد ثقافتها.
وقد خسرت هذه الأمة قيادتها السياسية عندما ألغى كمال أتاتورك الخلافة عام 1924م، لكن الأمة بقيت بكل عناصرها، يدل على ذلك وحدة اللغة، والتاريخ، والتكوين النفسي المشترك، ووحدة الآمال والآلام، والوعي بالشخصية الحضارية المستقلة إلخ….
إن تشخيص واقعنا والقول بأنه واقع أمة إسلامية يقيم تواصلاً بين المسلم وبين محيطه على عكس التشخيصات السابقة التي تعرضنا لها، والتي تؤدي إلى إقامة حواجز بين المسلم وبين مجتمعه الإسلامي، مما يفسر لنا السبب في العنف الذي نراه من بعض الجماعات الإسلامية إزاء إخوانهم المسلمين.
والسؤال: كيف سيعامل المسلم الناس المحيطين به بعد سقوط الخلافة وغلبة التشريعات الوضعية؟ وهل هناك سابقة في التاريخ الإسلامي يمكن أن يستأنس بها المسلم في مثل هذا الوضع؟
لقد واجه المسلمون وضعاً مشابهاً عندما تغلّب الكفار على مدينة “ماردين” وأصبحت في حوزتهم، وانتقلت السيطرة عليها من المسلمين إلى الكافرين، واستُفتي ابن تيمية وسئل عن الأحكام التي نجريها على أهل “ماردين“، هل هي أحكام أهل الإسلام؟ أم أحكام أهل الكفر؟ فأفتى بأننا لا نعتبرهم مرتدين، ولا نعتبر ديارهم ديار حرب أو كفر، ونعامل كل فرد بحسب وضعه، فنجري أحكام الإسلام على المسلم، ونجري أحكام الكفر على الكافر.
إن غياب مفهوم الأمة أو قل بصورة أدق عدم تداول مفهوم الأمة خلال القرن الماضي أفرز شروراً كثيرة، وإن إبراز مفهوم الأمة وتداوله في الفترة القادمة سيؤدي إلى تعامل صحي بين المسلم والواقع المحيط به، وسيؤدي إلى الانطلاق من واقع محسوس، ومن رصيد جماعي ضخم، وسيؤدي إلى أن لا تكتفي الجماعات والأحزاب الإسلامية بالأهداف البعيدة والكبيرة من مثل إقامة الدولة، والخلافة، والإمامة العظمى بل أن تضع ضمن أهدافها المساهمة في تعزيز وحدة الأمة، وتقوية اقتصادها، وزيادة منعتها، وبالمقابل الحيلولة دون تفكك وحدة الأمة، وإضعاف اقتصادها وإنقاص منعتها.