تأرجح موقف النهضة من الدين بين التوفيق والإقصاء فكان الموقف التوفيقي بين الدين والحضارة الغربية في القرن التاسع عشر، ثم أصبح الموقف إقصاء الدين في القرن العشرين على يد الفكر القومي والاشتراكي، ودفعت الأمّة ثمناً غالياً لهذا الموقف من جهودها وأوقاتها وأموالها وأبنائها إلخ…، والأهمّ من ذلك أنّ النهضة لم تتحقّق في الأمّة، وأننا لم نسر في الاتجاه الصحيح.
وفي القرن الحادي والعشرين بدأت الحرب على الدين ساخنة بشكل غير طبيعي منذ أحداث 11 سبتمبر 2001م، فهل ستنجح هذه الحرب في إقامة النهضة من خلال إقصاء الدين وإبعاده؟
هذا ما حاولت الإجابة عليه من خلال مقال نشرته في جريدة “الحياة” بتاريخ 24 آذار (مارس) 2005/ في صفحة “أفكار” تحت عنوان “عن النهضة والدين وأحداث 11 سبتمبر” أُعيد نشره في هذا الموقع، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تأرجح الموقف من الدين الإسلامي عند دعاة النهضة خلال القرن الماضي بين موقفين:
الأول: اعتبر أنّ الدين لا يحول بين المسلمين وبين النهضة وأنّ المشكلة تكمن في نقل التنظيمات الغربية، وفي فتح باب الاجتهاد، وفي المواءمة والتوفيق بين المعطيات الشرعية ومعطيات الحضارة الغربية.
الثاني: يعتبر أنّ الدين الإسلامي يحول بين المسلمين وبين النهضة لذلك يجب عزله وتجاوزه وتأويل المتعارض منه بما يتفق مع معاني الحضارة الغربية.
وانطلق أتباع الموقف الثاني من المشابهة بين أوروبا والعالم الإسلامي، فأوروبا نهضت عندما نبذت الدين وعزلته في الكنيسة، ومنعته من أن يتدخّل في شؤون الحياة، وحصرته في زاوية العبادة الشخصية، وكذلك على المسلمين أن يفعلوا الشيء نفسه من أجل النهضة والانبعاث والارتقاء وامتلاك الحضارة، فعليهم أن يحصروا الدين في المسجد، ويجعلوه منظّماً لعلاقة الفرد بربه فحسب. ناسين أنّ الذي جعل أوروبا تنبذ الدين هو تعرّض المجتمع الأوروبي لأزمات وجودية بنيوية ظهرت في أمرين:
الأول: تعارض الدين مع العقل عندما غالطت الكنيسة الحقائق العلمية من مثل دوران الأرض حول الشمس، وأفتت بكفر القائلين بتلك الحقائق.
الثاني: تعارض الدين مع الفطرة عندما احتقرت الكنيسة الدنيا والشهوات، واعتبرت أنّ الخلاص يكون بنبذ الدنيا وقتل الشهوات، واعتبرت أنّ العلاقة الجنسية مع المرأة نجس، وأن الفوز بالآخرة يكون بالابتعاد عن الشهوات والإقلاع عن الزواج والدخول في عالم الرهبنة.
لكن هل هذه المشابهة والمقاربة بين أوروبا والعالم الإسلامي صحيحة؟ لا أظنّ ذلك، لأنّ الوقائع التاريخية تشير إلى أننا لم نعان مثل تلك الأزمتين الوجوديتين البنيويتين وإنما هما خاصتان بالغرب، لذلك فإنّ سحب نتائجهما على الدين الإسلامي توسيع خاطئ.
برز الموقف الأول خلال القرن التاسع عشر وقامت قيادات في اسطنبول ومصر وتونس بالتوفيق والمزاوجة بين الإسلام وبين الحضارة الغربية، فأصدر السلطان العثماني خط كلخانة عام 1938م والخط الهمايوني الشريف عام 1856م، وقد دعا الخطان إلى الإقرار بحقوق الإنسان، وإلى العمل بالحرية الاقتصادية واقتصاد السوق، وإلى المساواة بين الطوائف، وتنفيذ حق المواطنة لجميع الأفراد في الخلافة العثمانية إلخ…، كما أصدر السلطان دستوراً للخلافة العثمانية عام 1876م وأجرى انتخابات على أثره في كل أنحاء الخلافة، وتكوّن مجلس المبعوثان الذي كان بمثابة برلمان للخلافة إلخ…، وأصدر الخديوي في مصر قرارات مشابهة لما عمله السلطان في الآستانة، فأصدر قراراً بتشكيل مجلس شورى القوانين، وأرسل البعثات التعليمية إلى فرنسا، وأقرّ تعليم البنات، وطوّر الجيش المصري وزوّده بأحدث الأسلحة إلخ…، وأصدر الباي في تونس عهد الأمان في عام 1857م، وكان مقدمة لإصدار الدستور في عام 1861م، ولإنشاء مؤسسات من مثل: مجلس الجنايات والأحكام العرفية، ومجلس التحقيق، ومجلس الشورى.
لكنّ الموقف من الدين تغيّر في القرن العشرين، وأصبح الموقف الثاني هو الغالب، وراجت مقولاته التي تعتبر أنّ الدين هو العقبة أمام النهضة، وهو السبب في التأخّر والتخلّف، وترافق ذلك مع سيادة الفكر القومي بشقيه: التركي والعربي بعد الحرب العالمية الأولى، أما في المجال القومي التركي فاعتبر كمال أتاتورك أنّ الأمّة التركية أمّة طورانية، وأنّ الإسلام طارئ عليها، وأنّ عليها أن تفرز روابطها العرقية مع الأتراك في شرق أوروبا، وأنّ عليها أن تنبز الدين الإسلامي لتدخل عالم الحضارة والحداثة، لذلك ألغى الخلافة العثمانية، وفصل الدين عن الدولة، وألغى التشريعات الإسلامية، وألغى الحجاب، وفرض اللباس الغربي والبرنيطة، وأعلن الأذان باللغة التركية إلخ…
أمّا في المجال القومي العربي فقد قامت بعد الحرب العالمية الأولى دول قومية عربية في العراق وسورية والأردن وفلسطين واعتبرت هذه الدول أنها أجزاء من أمّة عربية تقوم على عنصري اللغة والتاريخ، وليس الدين عاملاً في تشكيل هذه الأمّة، لذلك اتجهت الحكومات الوطنية في هذه الدول إلى بناء الإنسان والإدارة والاقتصاد والجيش والمجتمع والفنون والتربية بمعزل عن الدين وتوجيهاته وأحكامه لأنّ الدول القومية والوطنية في الغرب لا تعطي دوراً للدين، ويمكن أن نسحب الحكم السابق على الدولة المصرية التي اعتمدت نوعاً آخر من القومية تقوم على البعد الجغرافي وهي القومية المصرية الفرعونية، لكنها تعاملت مع الدين بنفس طريقة تعامل الدولة القومية العربية.
ساد الفكر الاشتراكي في المنطقة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، وعزّز الموقف الثاني في معاداة الدين، واعتبر الدين الإسلامي الأصل في التخلّف لأنه يخدّر الطبقات الفقيرة ويبعدها عن وعي واقعها بترويج الأوهام الغيبية من جنة ونار وملكوت أخروي، واعتبر أنّ طبقة رجال الدين منحازة إلى الأغنياء و الملاّك، وأنّ الفكر الديني مناقض للفكر العلمي إلخ… لذلك دعا إلى استئصال الدين الإسلامي من وعي الناس وحياتهم، وكانت تلك الدعوة ذروة الامتداد للتيار الثاني، فماذا كانت نتيجة المزاوجة بين التيارين القومي والاشتراكي؟ وماذا كانت نتيجة الدعوات إلى استئصال الدين الإسلامي من كيان المجتمع؟ كانت النتيجة فشل هذين التيارين وانبثاق الصحوة الإسلامية في السبعينات، والمناداة بتمكين الإسلام في حياة الناس، وبرزت عدّة مظاهر إسلامية منها: العودة إلى الحجاب، وازدحام المساجد بالمصلّين، وانبثاق ظاهرة البنوك الإسلامية، ورواج الكتاب الإسلامي، وسيطرة الإسلاميين على بعض الاتحادات الطلابية والمهنية والنقابية، وفوز الإسلاميين بنسبة جيدة من المقاعد البرلمانية في بعض الدول العربية إلخ…
لكننا نرى بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م انبعاثاً جديداً لمقولات الموقف الثاني، ومن الدين الإسلامي، وحياة جديدة لها، لكنها أضافت لها مقولات أخرى من مثل أنّ الدين الإسلامي هو سبب الإرهاب، وأنه مضاد للتحديث، وأنه يناقض الديمقراطية، وأنّ المجتمعات الإسلامية هي المجتمعات الوحيدة التي لم تتقبّل الحداثة الغربية، وأنها القلعة الوحيدة المتبقّية في العالم والممتنعة عن بركات الحضارة الغربية، وأبرز من طرح تلك المقولات برناردلويس في عدد من الكتب التي ألّفها حول المنطقة العربية والإسلامية بعد أحداث 11 سبتمبر، وكذلك فرانسيس فوكوياما الذي دعا في مقال كتبه في “نيوزويك” إلى فرض العلمانية على العالمين: العربي والإسلامي من أجل إنهاء بؤر التعصّب التي يحفل بها الواقع الإسلامي، والتي فرّخت الإرهاب العالمي.
ترافق نداء الكاتبين السابقين: برنارد لويس وفرانسيس فوكوياما مع سيل من الكتابات العربية تؤيّد ما قاله الكاتبان الغربيان، وتدعو إلى تجفيف المنابع، وتعديل المناهج، ومراقبة أجهزة الإعلام، وغربلة كتب التاريخ، وتجديد الدين إلخ… فهل ستقوم نهضة في القرن الحادي والعشرين مع استبعاد الدين وعزله؟ أم أنها ستفشل كما فشلت سابقتها في القرن العشرين؟
لا نريد أن نستبق الوقائع والأحداث ونصدر أحكاماً عليها، لكننا ندعو فقط إلى الاستفادة من التجربة السابقة التي امتدّت طوال القرن العشرين وانتهت إلى الفشل وكلّفت الأمّة الكثير من الجهود والأوقات والأموال والدماء والعناء والآلام إلخ…