ليس من شك بأن هناك عدة عوامل كانت وراء الثورات العربية منها: الظلم الذي وقع على الشعوب العربية، والفساد الذي استشرى في كل نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية إلخ…..، والاستبداد الذي طال كل طبقات المجتمع وهيئاته، والتخلف العلمي والتكنولوجي الذي ظهر في الجامعات وفي مراكز البحث، وضعف الأداء السياسي إزاء الأعداء إلخ…..، وأمكن إزاحة أعتى نظامين وهما نظاما تونس ومصر، وهناك ثورات في ليبيا واليمن وسورية، وهناك تململ في عدد من الدول الأخرى، وأبرز الحلول المطروحة في الأفق أمران: الديمقراطية والمواطنة، ويكثر الحديث عن الأمرين عند كل الكتّاب والمحللين حتى أصبح وكأنه من المسلمات أن الحل في هذين الأمرين، لكن أحب أن أشير إلى نقطتين هنا في صدد الحديث عن الديمقراطية والمواطنة، هما:
الأولى: إن الديمقراطية والمواطنة ليستا جديدتين على منطقتنا بل تعاملت معهما خلال المائة سنة الماضية، وقد طبقت الديمقراطية في عدد من البلدان العربية وهي: مصر والعراق وسورية ولبنان والأردن وتونس والمغرب والسودان إلخ…..، ومع ذلك لم تترسخ الديمقراطية في أي من البلدان العربية.
وكذلك المواطنة فقد دعت إليها الأنظمة السياسية خلال القرن العشرين في معظم البلدان العربية من مثل مصر والعراق وسورية والأردن وتونس إلخ….، وروّجت لها وطبّقتها، ولكنها لم تترسخ في أي بلد، ولم تصبح حقيقة سياسية ولا قيمة اجتماعية في أي بلد من البلدان العربية مع وعي أهميتها في بناء الأوطان، والسعي إلى إقامتها.
الثانية: إن الديمقراطية والمواطنة قبل أن تنتقلا إلينا كمفهومين سياسيين، بنتهما في القرن الثامن عشر والتاسع عشرفي أوروبا عشرات الوقائع والتطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية إلخ….، وساهم في التأصيل لهما والتقنين لهما: الفلاسفة والكتاب والفنانون والتربويون إلخ…..، فقد مهدت للديمقراطية كتابات فولتير وروسو ومونتسيكو وهيردر وغوته إلخ….. في تهيئة الأذهان والعقول من أجل إيجاد صيغة جديدة بين الحاكم والمحكوم تبلورت في وثيقة الدستور الذي يحدد واجبات الحكام والمحكومين وحقوقهم. كما مهدت ولادة الطبقة البورجوازية والتصادم مع تحالف الطبقة الإقطاعية ورجال الدين إلى ولادة الثورة الفرنسية التي أعلنت وثيقة حقوق الإنسان العالمية، ثم جاء التصادم بين رجال العلم ورجال الدين في القرون الوسطى والذي أدى إلى الثورة على الكنيسة وإبعادها عن مجالات الحياة وحصر دورها في الكنيسة وإبعادها عن التعليم والمدارس والسياسة إلخ….، وأدى هذا التصادم إلى الاتجاه إلى الدنيا واللذة والمنفعة والمصلحة مقابل الاتجاه السابق إلى الآخرة والروح والزهد، ومن هنا كان انبثاق مدنية السلطة والتركيز على الفرد في النظام الديمقراطي، ثم جاءت مرحلة استعادة الديمقراطية من التراث اليوناني كأداة تقوم على إجراء انتخابات ومجالس لتمثيل الشعب.
فالواضح من خلال العرض السابق أن الديمقراطية قامت على الأرض من خلال عدة حقائق وتطورات ومخاضات، وأنها حصيلة عدة توافقات سياسية وفكرية ودينية واجتماعية واقتصادية إلخ……، وجاءت هذه الديمقراطية كحل لمشاكل عاشتها أوروبا، ونتيجة تطورات مرت بها.
أما في مجال المواطنة فهي أيضاً قد كانت مرتبطة بحقيقة على الأرض وهي (الوطن)، فقد تشكل الوطن في البداية في أوروبا، وقد تكونت الأوطان بعد أن تفككت الامبراطوريات الدينية التي كانت تقودها الكنيسة في القرون الوسطى، فتشكلت الأوطان مثل: الوطن الفرنسي، والوطن البلجيكي، والوطن الهولندي، والوطن الانجليزي إلخ…..، ونشأت المواطنة مرتبطة بحقيقة الوطن القائمة على الأرض، والتي جاءت حصيلة تمازج عناصر ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية خاصة بهذا الوطن إلخ….، وجاءت حصيلة تَبَلْوُر قيم ومُثُل وعادات وتقاليد معينة مرتبطة بهذا الوطن إلخ….
وفي بداية القرن العشرين طرحت فكرة (المواطنة) في بلادنا لكنها لم تترسخ، والسبب في ذلك أنه لم تكن هناك (أوطان) مشكلة بل هناك تقسيمات سياسية وجغرافية وإدارية كما حدث في بلاد الشام التي جزئت إلى أربعة كيانات وهي: سورية ولبنان والأردن وفلسطين، وكذلك العراق ألحقت به (الموصل) التي لم تكن له ذات ارتباط تاريخي بالعراق، وفصلت عنه دير الزور التي كانت جزءاً من العراق إلخ…..، ومع أن الحديث استمر عن المواطنة طوال القرن العشرين في معظم البلاد العربية، لكنها لم تصبح قيمة حقيقية بسبب أنه ليس هناك أوطان مشكلة على الأرض كحقائق تاريخية وإنسانية وثقافية واجتماعية واقتصادية إلخ….، وعلى العكس من ذلك فقد بدأت بعض البلدان التي قامت على أساس (المواطنة) بدأت بالتشطي والتشرذم كما حدث مع العراق بعد غزوه عام 2003.
من الواضح أن هاتين الفكرتين: الديمقراطية والمواطنة، كونتهما في أوروبا عدة حقائق ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية…. في القرن الثامن عشر والتاسع عشر قبل أن تصبحا مفهومين مجردين لسمات وصفات معينة، كذلك فإن نقلهما إلى بيئة أخرى قد يصادف الفشل وبخاصة إذا لاحظنا أنه استنبات لفكرة مع عدم استحضار الظروف التي أنشأتها من: ثقافية وفكرية وسياسية واقتصادية إلخ…..وهو ما حدث في بلادنا العربية في القرن العشرين.
لكن قد يطرح سؤال هنا لماذا انتقلت في التسعينات من القرن الماضي فكرة الديمقراطية والمواطنة إلى رومانيا وبولندا وبلغاريا إلخ ….ونجحت بعد مرحلة الديكتاتوريات الشيوعية؟ السبب في ذلك أن أوروبا الشرقية جزء من المنظومة الحضارية الغربية، وقد مرت بنفس التطورات الثقافية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي خضعت لها أوروبا الغربية، لذلك فهي لا تستنبت فكرتي (الديمقراطية والمواطنة) بل تستعيد إحياءهما، فقد كانتا موجودتين قبل المرحلة الشيوعية، في حين أنه عندنا تحتاجان إلى استنبات بيئتهما وظروفهما الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية إلخ…..، وهذا أمر مستحيل.
فهل معنى ذلك أنه ليس هناك روابط جماعية توحد أفراد وساكني بلداننا العربية؟ الحقيقة أنه توجد أمة عريقة، تسكن المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج، وهي من أعرق الأمم على مدار التاريخ، ومن أكثر الأمم وحدة في العصر الحاضر، وتجمعها روابط تماثل الأمم الأخرى إن لم تكن روابط أقوى في توحيدها من الروابط الموجودة لدى أمم أخرى مثل الفرنسية أو الانجليزية أو الهولندية والأمريكية إلخ….، لكن هذه الروابط تلتقي مع بعض روابط الأمم الأخرى وتختلف عنها في غيرها، فمن أبرز الروابط التي تلتقي فيها مع غيرها: اللغة، التاريخ، الأرض المشتركة، العادات والتقاليد إلخ… لكنها تفترق عنها في أن الدين الإسلامي عامل أساسي في تكوينها، في حين أن الأمم الغربية تشكلت بعد أن أقصت الدين عن بعض جوانب حياتها، وفي مقابل رابطة (المواطنة) التي تجمع ساكني الأوطان الأخرى مثل: فرنسا، انكلترا، هولندا، بلجيكا إلخ…. فإن (الأخوة) هي الرابطة التي تجمع أبناء (الأمة العربية الإسلامية).
لذلك أعتقد أن نسخ مفهومي (الديمقراطية والمواطنة) من التجربة الغربية، واستنباتهما في أرضنا بنفس مضمونهما الذي جاء نتيجة ظروف أوروبا التي مرت فيها خلال القرون السابقة، والذي أوضحنا معالمه في السطور السابقة، سيؤدي إلى التعثر مرة ثالثة بعد التعثر في نقل هذين المفهومين بعد الحرب العالمية الأولى وبعد الحرب العالمية الثانية في معظم الأقطار العربية من خلال الفكر القومي العربي الذي طبق في العراق وسورية ومصر ولبنان والجزائر واليمن إلخ…..، وسيكون مَثَلُ تطبيق مفهومي (الديمقراطية والمواطنة) في منطقتنا العربية بنفس مضمونهما الأوروبي كمثل من أحضر طربوشاً ويريد أن يلبسه رأس شخص معين، وكان الطربوش غير مناسب لهذا الرأس، فبدلاً من أن يغير الطربوش، أراد أن يغير رأس الشخص بأن يُشَذّب هذا الرأس ويقطع منه بعض الأجزاء ليصبح مناسبا لهذا الطربوش.
من الواضح أن التحدي الأول الذي يواجهه علماء الأمة ومفكروها هو بناء نظام سياسي يحقق العدالة والمساواة ويؤدي إلى قدرة أفراد الأمة على التعبير عن آرائهم ووجهات نظرهم في مختلف الأمور السياسية والاقتصادية والثقافية إلخ…، وإلى القدرة على انتخاب الحاكم والمسؤولين ومراجعة تصرفاتهم، وإلى القدرة على محاسبتهم على ثرواتهم وأموالهم التي جمعوها أثناء فترة الحكم، وإلى القدرة على تحقيق تداول السلطة والمناصب إلخ…
ومن البيّن أن التحدي الثاني هو تفعيل قيمة (الأخوة) التي أفرزتها الأمة العربية الإسلامية على مدار القرون الماضية، وتأصيل مضمونها، وتقنينه بحيث يصبح مناسباً للعصر، ويستفيد هذان التحديان من حقيقة ضخمة يغفل عنها في كثير من الأحيان، وتفتقدها أوربا وغيرها من الدول والأوطان، وهي أن هناك أمة عريقة موحدة الثقافة تسكن المنطقة الممتدة من المحيط الى الخليج، تتكلم لغة واحدة، وتمتلك بناءً نفسياً وعقلياً واحداً، وتمتلك ذوقاً ووجداناً واحداً إلخ….، صحيح أن هذه الأمة مجزأة، لكنها تجزيئات إدارية وجغرافية وسياسية وليست تجزيئات ثقافية، ولا تمنع التواصل بين أبناء هذه الأمة.
ومن الجليّ أن التحدي الثالث، بعد النجاح في تحقيق التحديين السابقين على الأرض، هو المحافظة على وحدة هذه الأمة وبشكل خاص: الوحدة الثقافية، لأن أعداء هذه الأمة يحاولون أن يجعلوا تطبيق الديمقراطية والمواطنة سبيلاً إلى تفتيت هذه الوحدة الثقافية.
في الختام نقول: إن (الديمقراطية والمواطنة) ليستا قيمتين كونيتين بل هما قيمتان منبثقتان من الحضارة الغربية، وهما مرتبطتان بظروف أوروبا الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية إلخ….، ومع ذلك فيجب أن نستفيد من العام فيهما وأن نترك الخاص، من خلال الوعي بأننا أمة عريقة موحدة الثقافة واللغة والتاريخ والمشاعر والذوق والوجدان إلخ…، متجذرة في المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج. “