عندما وقعت أحداث 11 سبتمبر، وتحدّد فاعلوها حسب تقديرات واشنطن، اتجهت واشنطن إلى إسقاط نظام طالبان، وقد تحقّق لها ذلك بعد أقل من شهرين من سقوط البرجين في نيويورك، ثم رسم بوش محوراً للشرّ جعل فيه ثلاث دول هي العراق وإيران وكوريا الشمالية، وأصبحت مطاردة الإرهاب هاجس الإدارة الأمريكية، ورسمت خططها كلها انطلاقاً من ذلك الهاجس، واستهدفت العراق بعد سقوط أفغانستان في يد القوات الأمريكية، وادعت أنّ النظام العراقي يمتلك أسلحة دمار شامل، وأنه نظام مارق، ويتعاون مع الإرهابيين، وبالذات مع أبي مصعب الزرقاوي، وأقرّت إدارة بوش استراتيجية الحرب الاستباقية من أجل أن تقضي على الإرهاب قبل أن يصل إلى أمريكا، وبناء على كل المبرّرات السابقة شنّت أمريكا حرباً استباقية على العراق في مارس 2003، وقد ثبت بعد تفتيش دقيق في كل أنحاء العراق أنه لم تكن هناك أسلحة دمار شامل، وأنه لم يكن هناك تعاون مع الإرهابيين، فلماذا شنّت أمريكا -إذن- حربها على العراق؟ شنّت حربها من أجل السيطرة على منابع البترول بالدرجة الأولى، وقد تحقّق لها ذلك لكننا نجد نتائج أخرى يتمخّض عنها الاحتلال الأمريكي للعراق، وهي الطائفية، وعندما تحدّث بوش في خطابه الأخير في 9/1/2007 عن استراتيجيته الجديدة، وضّح أنه سيرسل أكثر من عشرين ألف جندي إضافي من أجل ضبط الأمن في بغداد ومحافظة الأنبار، فهل سيكفي ذلك لضبط الوضع الأمني، أم أنّ هذه الزيادة من أجل تغطية الانسحاب الأمريكي من العراق؟ وماذا ستكون النتيجة إذا تم الانسحاب؟ الأرجح أنّ النتيجة ستكون التقسيم الطائفي والمذهبي للعراق.
من الواضح أنّ الإدارة الأمريكية لم تسع إلى هذه النتيجة، لكنها أعلنت حربها على العراق من أجل إزالة الديكتاتورية وإقامة الديمقراطية، لكنّ إسرائيل حليفة أمريكا الرئيسية سعت إلى هذه النتيجة، أي إلى التقسيم الطائفي والعرقي للعراق، فهي تخطّط من أجل أن تجزّئ المنطقة إلى تقسيمات طائفية وعرقية منذ نشوئها، وقد جاء ذلك في مذكّرات بن غوريون المؤسس الأول لإسرائيل، وقد أشار إلى إمكانية تحقيق ذلك في لبنان، كما أشار إلى ذلك الصحفي الهندي كارانجيا الذي تحدّث عن ذلك في خمسينات القرن الماضي.
تحقّق أمران نتيجة الاحتلال الأمريكي للعراق: أحدهما لأمريكا والآخر لإسرائيل، فكيف حصلت إسرائيل على جانب كبير من الغنيمة مع أنها لم تكن غازية؟ حصلت بسبب فريقين يؤيّدان إسرائيل، الأول: فريق المحافظين الجدد الذين يدعمون إسرائيل من مواقع دينية وهم كثر في إدارة بوش بدءاً من ديك تشيني نائب الرئيس، وانتهاء بأمير الظلام ريتشارد بيرل، ومروراً برامسفيلد وزير الدفاع السابق وبول وولفوفيتز أحد المسؤولين السابقين في وزارة الدفاع الأمريكية. الثاني: فريق اللوبي الإسرائيلي الذي تحدّث عنه الأستاذان الجامعيان: جون جي شايمير وستيفن إم والت في دراستهما التي نشرت في آذار (مارس) من عام 2006 في مجلة ريفيو أوف بوكس بعنوان “اللوبي الإسرائيلي” والتي تحدّثت عن نفوذ هذا اللوبي، وكانت هذه الدراسة شرحت كيفية تقديم الولايات المتحدة لإسرائيل دعماً يفوق الدعم الذي تقدّمه للدول الأخرى بأشواط، مع أنّ إسرائيل باتت الآن قوة صناعية يوازي ناتجها المحلي الإجمالي الفردي ناتج اسبانيا أو كوريا الجنوبية، فهي مازالت تتلقّى كل سنة مساعدات بقيمة ثلاثة بلايين دولار، أي 500 دولار لكل فرد إسرائيلي، وتحصل إسرائيل أيضاً على صفقات خاصة أخرى ودعم دبلوماسي دائم، وقد تحدّث الدارسان على أنه لا يمكن تبرير هذا السخاء وفقاً لأسس استراتيجية وأخلاقية.
هذا ما يمكن أن نذكره عن العوامل الخارجية التي أدّت إلى توجيه الغزو نحو أشياء ليست من صلب الأهداف الأمريكية على الأقل في ظاهر الصورة، فما العوامل الداخلية التي ساعدت على بروز الطائفية والتي تنذر بتقسيم طائفي وحرب طائفية طاحنة في العراق خاصة والمنطقة العربية عامة؟ أبرز العوامل الداخلية هو الفكر القومي العربي الذي حكم العراق منذ نشوء الدولة العراقية تحت حكم الملك فيصل، والذي أرسى قواعده ساطع الحصري رائد القومية العربية والذي استمر حزب البعث مطبقاً له بقيادة صدام حسين، والفكر القومي العربي الذي أصّل له ساطع الحصري قام بدور الهدم ولم يقم بدور البناء في العراق، فهو قد قام بإثارة العنصرية، ومهّد لممارسات غير مقبولة نحو الأكراد من خلال حملة “الأنفال” وغيرها، كما ساهم في توليد ردود الفعل الدينية لأنه طرح نفسه كفكر علماني يريد أن يقتلع الدين الذي اعتبره يمثّل الخرافة، ويولّد الجمود والتأخّر والانحطاط، ليس من خلال نقد علمي فاحص للتاريخ الإسلامي لكن من خلال إسقاط دور الكنيسة السلبي المعوّق للنهضة في أوروبا على واقع المنطقة العربي.
ثم جاءت ممارسات بريمر بعد احتلال العراق عام 2003 لتؤجج نار الطائفية على أرض الواقع عندما اعتمد المحاصصة الطائفية أصلاً في بناء الدولة العراقية فأنشأ مجلس الحكم الأول بناء على هذه المحاصصة الطائفية، ثم جاء الدستور ليجذّر التوجّه الطائفي في مرحلة تالية، ثم قامت إيران باستغلال الوضع الطائفي في العراق عندما أمدّت بعض الهيئات والأحزاب والأشخاص بالسلاح والأموال، وأغرقت الجنوب برجال مخابراتها، وساعدت على التطهير الطائفي في بعض الأماكن.
لاشك أنّ هذا التأجيج الطائفي سيحرق الأخضر واليابس في العراق والمنطقة، وعلى العقلاء من الأمّة أن يتداركوا ذلك، وقد جاءت مبادرة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يرأسه الشيخ يوسف القرضاوي بتاريخ 24/12/2006 والتي دعت إلى التحقيق في حوادث الاقتتال الطائفي عن طريق تكوين لجان تابعة للمؤتمر الإسلامي أو غيره، وإدانة المؤجج لها، والوقوف في وجه فاعليها سواء كانوا سنّة أم شيعة، تصبّ في هذا الاتجاه، وكان على إيران ومؤسساتها وهيئاتها الشعبية أن تتجاوب مع هذه المبادرة، ولكنها تجاهلتها، فعلى إيران أن تدرك أنّ اللعب بالورقة الطائفية لن يفيدها باستمرار، وإن أفادها مؤقتاً فسينعكس عليها في وقت لاحق، وسيكون حكم التاريخ قاسياً عليها، لذلك فعليها أن تكفّ عن اللعب بهذه الورقة بقصد أن تربح بعض المواقع الطائفية، لأنها ستخسر أمّتها أولاً، وسَيُسَوِّد التاريخ صحائفها ثانياً.